سوريا ما بعد قيصر: فرص استثمارية واقتصاد في طريق التعافي
يمثّل إلغاء قانون “قيصر” للعقوبات الأميركية، بعد عام واحد فقط من سقوط نظام الأسد البائد، لحظة تاريخية في مسيرة سوريا الجديدة، فهو لا يقتصر على إزالة بند قانوني من سجل العقوبات فحسب، بل يشكل انطلاقة نحو تحول اقتصادي سياسي عميق يمكن أن يعيد دمشق إلى رقعة الاستقرار الإقليمي والدولي، ويمنحها قدرة غير مسبوقة على التنفّس التجاري والمالي بعد سنوات من العزل والحصار.
وقع الرئيس الأميركي دونالد ترامب مؤخراً قانون موازنة وزارة الدفاع لعام 2026، الذي تضمن مادة تُلغي قانون “قيصر” بشكل كامل، وبصورة غير مشروطة، دون أي إمكانية لإعادة فرض العقوبات في المستقبل تلقائياً، ما يجعل هذا الإجراء تحولاً نوعياً في الموقف الأميركي تجاه سوريا. وتجسيداً لهذا الانعطاف، بذلت الحكومة السورية جهوداً دبلوماسية مكثفة في واشنطن وعواصم أخرى، بدعم من الجالية السورية ومنظمات أميركية ودول صديقة، أسهمت في دفع هذا التوجه.
إلغاء قانون “قيصر” ينقل سوريا من موقع الدولة المعاقَبة قضائياً إلى موقع الفاعل المحتمل في الاقتصاد العالمي، ما يتطلب من دمشق إعداد نفسها جيداً لاستثمار هذه الفرصة في إطار إصلاحي حقيقي يشمل السياسات المالية والاقتصادية والحوكمة.
من أداة خنق اقتصادي إلى نافذة تنفس مالي
على مدار سنوات الحرب، شكّل قانون “قيصر” أداة رئيسية للضغط الاقتصادي، ليس فقط على شخصيات وكيانات مرتبطة بالنظام السابق، بل على الاقتصاد السوري ككل. جعل القانون التعامل مع المصارف السورية مخاطرة قانونية، ما أدى إلى انسحاب البنوك المراسلة، وانحسار القدرة على الحصول على العملة الصعبة، وتراجع الاستثمار الأجنبي، وتعطيل التجارة الرسمية.
ومع سقوط النظام السابق وتعليق العمل بالقانون بشكل موقت، دخلت البلاد في ما يمكن تسميته “تعليق العقوبة”، لكنها بقيت محاصرة جزئياً. أما الإلغاء النهائي لقانون “قيصر”، فينقل البلاد إلى مرحلة اقتصادية جديدة تتجاوز اقتصاد الهوامش والتحويلات غير الرسمية، نحو اقتصاد قادر على الانفتاح التدريجي على التجارة الدولية والاستثمار الأجنبي والمنظمات المالية العالمية.
أبعاد إلغاء “قيصر” الاقتصادية لسوريا الجديدة
إعادة فتح القنوات المصرفية والمالية
رفع العقوبات يتيح للمصرف المركزي والبنوك السورية استعادة علاقات المراسلة مع البنوك الإقليمية والدولية، مما يُمكّن سوريا من استعادة الجسور المالية الرسمية، فتح الاعتمادات المستندية، تسهيل التحويلات المالية، وتمويل التجارة والاستيراد والتصدير كلها عوامل أساسية لإعادة “النبض المالي” للاقتصاد السوري. كما يمكن أن يُسهم ذلك في إعادة الثقة بالنظام المصرفي، خصوصاً إذا ترافق مع إصلاحات جادة في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
استعادة الثقة بالنظام المصرفي
إعادة بناء الثقة تعدّ خطوة أساسية لاستقرار سعر الصرف، وتقليل هوامش المضاربة التي تضعف قيمة الليرة السورية، ما يشجع أيضاً السوريين في الداخل والشتات على إعادة جزء من مدّخراتهم إلى القنوات القانونية، ما يعزز السيولة ويُقَوّي الاقتصاد الرسمي.
تحريك الاستثمار وإعادة الإعمار
دُمّرت البنية التحتية في سوريا بشكل واسع خلال سنوات الحرب، ومن قانون “قيصر” كان أحد العقبات الأساسية أمام دخول الشركات الدولية إلى السوق السورية، حتى في القطاعات غير الخاضعة صراحة للعقوبات، مع إزالة هذا الحاجز القانوني، تزداد واقعية تدفّق الاستثمارات، خصوصاً من دول الخليج وتركيا وأوروبا في مجالات الطاقة، الكهرباء، الإسكان، النقل، الزراعة والصناعات الغذائية، ما يمكن أن يخلق فرص عمل واسعة ويسهم في التخفيف من مستويات البطالة والفقر.
دعم الليرة السورية وتخفيف أعباء المعيشة
ساهم قانون “قيصر” عملياً في تضييق القدرة على جلب العملة الصعبة عبر الطرق الرسمية، ما انعكس سلباً على سعر صرف الليرة، وأدى إلى تضخّم شديد وزيادة حادة في كلفة المعيشة. ومع التحسن التدريجي في النشاط التصديري، واستعادة جزء من الحركة الاستثمارية، يمكن أن يعود القطع الأجنبي إلى الدورة الاقتصادية الرسمية، ما قد يساعد في استقرار الأسعار ورفع القدرة الشرائية، خاصة إذا صاحبه سياسات نقدية رشيدة وضبط للعجز المالي.
إعادة اندماج سوريا في سلاسل التوريد العالمية
أُجبرت سوريا على الاعتماد على سلاسل توريد معقدة ومكلفة خلال عقود العقوبات والحرب، ما زاد كلفة الاستيراد وأضعف التنافسية. إلغاء القيد القانوني يمكن أن يعيد البلاد تدريجياً إلى موقعها الطبيعي كحلقة وصل بين أسواق الخليج وتركيا والعراق والأردن والبحر المتوسط، ما يخفض كلفة المواد الخام والآلات ويُعزز الإنتاج المحلي.
المكاسب السياسية والرمزية لإلغاء العقوبات
لا يمكن فصل إلغاء قانون “قيصر” عن السياق السياسي الأوسع. من الناحية الرمزية، يمثل القرار اعترافاً أميركياً واضحاً بأن سوريا الجديدة ليست امتداداً لنظام الأسد السابق الذي عزل البلاد، بل يمكن اعتبارها شريكاً محتملاً في استقرار المنطقة، بعد تنفيذها أنها قادرة على الالتزام بالمعايير الدولية في مكافحة الإرهاب، وحماية الأقليات، وملاحقة الجرائم التي ارتُكبت في حقبة النظام السابق.
هذا الاعتراف يُرسِل رسائل قوية إلى العواصم الأوروبية والخليجية بأن “الوقت قد حان للانخراط الفاعل” في إعادة إعمار سوريا. وقد يقلل هذا الموقف الأميركي العقبات السياسية التي كانت تحول دون المشاركة الاستثمارية في البلد.
لحظة اختبار لإرادة السوريين
الفرصة اليوم أكبر مما كانت عليه خلال العقود الماضية. سوريا لم تعد مجرد ساحة صراع، ولا دولة معزولة، بل أصبحت دولة تسعى للاستقرار والاندماج الدولي. ونجاحها في استثمار هذه اللحظة لابد أن يكون ثمرة تعاون بين الحكومة، المجتمع المدني، القطاع الخاص، والمجتمع الدولي، لتشكيل اقتصاد متعافٍ، يضمن حقوق المواطنين ويعيد البلاد إلى مسار التقدم والتنمية.