"الجـ ـولاني" وسعيه لحصر الثورة بمشروعه
حاملاً تاريخاً مثقلاً بالانتهاكات و"البغي" على الثورة السورية ومكوناتها، يحاول "أبو محمد الجولاني" قائد النسخة الثالثة من مشروعه ممثلاً بـ "هيئة تحرير الشام" تقديم نفسه على أنه حامل لواء الثورة والحريص عليها، متبنياً خطاباً مغايراً تماماً لما بدأ فيه مسيرته "الجهادية"، منقلباً على كل مبادئه ومعتبراً مشروعه هو "مشروع الثورة الوحيد" الذي يجب أن يفرضه على الجميع بقوة السلاح.
ولعل المراقب لسلسة التحولات التي يجريها قائد "هيئة تحرير الشام"، يصعب عليه الموازنة بين الماضي والحاضر، مع حجم الهالة الإعلامية التي تسعى لترويج أفكار "الجولاني" الجديدة وتوجهاته، وعملية اصباغ مصلحة "الثورة والساحة" على أفعالهم وسياساتهم، وعلى الجميع بالمقابل تقبل الأمر دون النظر للتاريخ الأسود الحافل بالانقلابات والتحولات حتى على رفقاء "البغي".
فمن عايش "الجولاني" إبان حملات تدمير فصائل الثورة واحدة تلو الأخرى، عليه اليوم أن يقبل أن المشروع الذي يحمله ويتخذ من حكمه الانفرادي الإقصائي في "إدلب" نموذجاً، هو المشروع الثوري الوحيد المستمر، وأن هذا المشروع - القائم على "البغي" - سيحمل الثورة لمبتغاها ويحقق مطالبها، وعلى الجميع تقبله بل والمساهمة في تمكينه.
مشروع غير ثوري
وفي هذا السياق، أكد الكاتب والباحث السوري "أحمد أبازيد"، أن مشروع "هيئة تحرير الشام" ليس مشروعاً ثورياً، لأنه لم يؤسس انطلاقاً من الثورة السورية، وإنما بدايته كانت امتداد لدولة العراق والشام الإسلامية، بقيادة "أبو بكر البغدادي"، الذي أرسل "الجولاني" إلى سوريا وأسس "جبهة النصرة" التي أصبحت تابعة لتنظيم القاعدة.
وأوضح "أبازيد" في حديث لشبكة "شام" أن التنظيم الذي أسسه "الجولاني" لم يكن في أي يوم يعتبر نفسه جزءً من الثورة السورية بل كان طيلة السنوات التي سبقت تحولات "الجولاني" الأخيرة يعتبر نفسه طرف يحمل مشروع جهادي وإخوة منهج مقابل لمشروع الثورة والجيش الحر.
وبين الباحث أن مشروع "الجولاني" طيلة سنوات كان في حالة حرب مفتوحة، ضد الثورة كفصائل جيش حر حتى كرموز منها "الحرب على علم الثورة ومسمى الثورة"، وشيطنة كل ما يرتبط بالثورة، إضافة لمحاولة هدم كل المشاريع التي تنتجها، والحرب على النشطاء المدنيين واغتيالهم منهم "رائد الفارس وحمود جنيد" وغيرهم، وفق تعبيره.
"معاد لمشروع الثورة السورية"
وقال الباحث السوري إن مشروع "الجولاني" هو مشروع "معارض ومعاد لمشروع الثورة السورية"، وكان جزء من المشاريع الجهادية التي بنت شرعيتها لكونها معارضة لمشروع الثورة وتعتبره مشروع "قطري وعلماني ووطني" وهي تعتبر مشروعها "جهادي وإسلامي لتحكيم الشريعة".
وأوضح "أبازيد" أنه منذ تأسيس "هيئة تحرير الشام"، بات "الجولاني" في سياسية مختلفة، في محاولة إثبات كونه ينتمي إلى سوريا والثورة السورية، وإثبات الاعتدال والانفصال عن تنظيم القاعدة والتاريخ الجهادي القديم.
واعتبر في حديثه لشبكة "شام" أن هذه المحاولة تؤكد أن الماضي لـ "الجولاني" والذي كان ماض براغماتياً لم يكن عقائدي يتبنى عقيدة صارمة إنما "شخصية براغماتية انتهازية" تتبنى في كل مرحلة المبادئ التي تتيح له البقاء في السلطة، سواء حين كان في دولة العراق الإسلامية ثم جبهة النصرة وتنظيم القاعدة.
ولفت الباحث إلى أن "الجولاني" حاول التحالف مع فصائل إسلامية محلية ثم أصبح "هيئة تحرير الشام" لإثبات أنه فصيل لايمتلك أي عمق لتحكيم الشريعة ومنقطع عن السلفية الجهادية وبات يروج نفسه على أنه يحارب السلفية الجهادية ويقوم بلجم وتحجيم واعتقال المقاتلين الأجانب أو المهاجرين.
ركوب الشرعية الثورية
وختم "أبازيد" بالإشارة إلى أن التحولات الأخيرة لا يمكن أن الهيئة تحولت لمشروع وطني وثوري وإنما محاولة ركوب الشرعية الثورية والوطنية التي لم يتمكن من هزيمتها سابقاً والتترس بها، للوصول كونه سلطة معترف بها خارجيا بعد أن تخلى عن ماضيه الجهادي القديم.
حملات دعائية غير مقنعة
بدوره، قال الكاتب والصحفي السوري "عقيل حسين" إنه رغم كل محاولات "هيئة تحرير الشام" الإعلامية والدعائية التي ركزت على الخطاب الثوري او على الأقل الدمج بين الخطاب الثوري وأدبيات السلفية المجددة خلال السنوات الأخيرة، إلا أنها لم تستطع أن تكون مقنعة بسبب سقوطها المتكرر في اختبارات غير مجدولة يكون صناعها وأبطالها قادة وعناصر في التنظيم الذين يظهروا ليرددوا أقوالاً أو يقوموا بأفعال تؤكد أنه ليس هناك أي تغيير جوهري في الفكر الذي تتبناه الهيئة.
وأكد "حسين" في حديث لشبكة "شام" أن التغيير ليس جوهرياً وليس عاماً، مضيفاً: "لذلك لا يمكننا اعتبار أن مشروع الهيئة هو جزء من مشروع الثورة السورية بالطبع، وإن كان يتقاطع معه في الموقف من النظام حيث تتبنى تحرير الشام هدف إسقاط هذا النظام، أو الموقف من تنظيم داعش حيث يتقاطع الجانبين في اعتبار التنظيم عدواً، بالإضافة لتقاطعات أخرى لكنها تقاطعات مصلحية وليس مبادئ، بمعنى أن الثورة والهيئة يريد كل منهما إسقاط النظام والتخلص من داعش على سبيل المثال لكن لكل منهما أسبابه وأهدافه".
مشروع حكم وسلطة
وحول إمكانية الوثوق بمشروع "هيئة تحرير الشام"، اعتبر الصحفي السوري أن "هذا يتوقف أيضاً على الزاوية التي ينطلق منها السؤال، فإذا كانت الزاوية ثورية فبالطبع الإجابة لا، إذ لا يمكن مهما أظهرت الهيئة من تحولات ومراجعات الثقة بأنها تؤمن بحرية الرأي والفكر وغير ذلك".
أما إذا كنا نسأل من زاوية تماسك هذا المشروع وقدرته على النجاح والاستمرار كمشروع حكم وسلطة فهذا ممكن ويتوقف على طبيعة الموقف الاقليمي والدولي من الهيئة ومن القضية السورية ومستقبل الحل بشكل عام، برأي الصحفي "عقيل حسين".
خفض التصعيد فرصة لتمكين نفوذه
واعتبر قيادي عسكري سابق برتبة ضابط في "الجيش السوري الحر" أن الإعلان عن اتفاق "خفض التصعيد" شمال غرب سوريا، أعطى لـ "الجولاني" فرصة ذهبية للتفرغ لتملك المناطق المحررة، والتغني بإنجازات حكومته "الإنقاذ" التي أسسها لإدارة المنطقة، مع وعود الإعداد لمرحلة التحرير، مستغلاً آمال المدنيين وحلمهم في العودة لمناطقهم التي هجروا منها.
وأكد القيادي (الذي فضل عدم ذكر اسمه) في حديث لشبكة "شام" أن الإعلام الرسمي والرديف للهيئة والحكومة التابعة لها، لعب دوراً بارزاً في عملية تسويق "الجولاني" وحاشيته بوجههم الآخر، لتغدوا منابرهم مخصصة لتغطية زيارات القائد وإنجازاته، ولقاءاته مع الأهالي في المخيمات تارة وفي إدارات المناطق التابعة لهم أو بنشطاء إعلاميين، وصل لزيارة الطوائف الأخرى في إدلب والتي نالت نصيباً وافراً من الانتهاكات على يد عناصر "الجولاني" سابقاً.
وأوضح أنه مع تنامي التمجيد بتلك الانجازات على المستوى الأمني والعسكري والمدني والإداري في "دولة إدلب"، باتت عملية التسويق تتوسع، لتبدأ مرحلة تمكين المشروع في الهيمنة على كامل المناطق المحررة، مستثمراً ما أنتجته قبضته الأمنية بإدلب، من ترهيب وكم للأفواه وهيمنة على كل شيء يمكن أن يجني مورداً لهم، وبدء انتقاد الوضع المفكك شمالي حلب على كافة المستويات.
ولفتت القيادي إلى أن النزعة في التوسع، لم يكن هدفها استعادة مناطق سيطر عليها النظام، وإعادة إحيائها بعودة أهلها وعودة المرافق الخدمية لها، بل كانت تستهدف الوجهة الأخرى من المحرر، في مناطق سيطرة "الجيش الوطني"، خلافاً لتصريحات "الجولاني" التي تحدث فيها عن الإعداد والتجهيز للمعسكرات والأسلحة لبدء التحرير، غايته تمكين مشروعه ومنع ولادة أي مشاريع منافسة.
ضرب المشاريع المنافسة
واعتبر القيادي أن "هيئة تحرير الشام" وقبلها "جبهة النصرة"، عملت على شيطنة فصائل "الجيش السوري الحر" ومكونات الثورة الأخرى، بذرائع أطلقها من توأمه "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، وبعدها من تنظيم الأم القاعدة، ولم يخفها أو اقتصرت على لسان شرعييه، بل بلسان "الجولاني" بأنها مشاريع صحوات وردة وعمالة لدول إقليمية وغربية، بات لاحقاً يطلب ودها ورضاها، ويقدم في سبيل ذلك القرابين والأعطيات من الدماء المعصوم، في سياق تبييض تاريخه الأسود الملطخ بالدماء.
وأكد القيادي أن سلسلة الغزوات الداخلية التي خاضها "الجولاني" ضد فصائل الثورة، والتي أخذت حججاً ومزاعم عدة، تجتمع تحت هدف واحد هو "ضرب المنافس" من أي مشروع صاعد قد يؤثر على مشروع "الجولاني" وفصيله، منها ضرب مكونات "الجيش السوري الحر" ولاحقاً "حركة أحرار الشام" وغيرها من المكونات التي أنهاها الجولاني وصولاً لآخر حملة "بغي" شمالي حلب.
غرفة عمليات "عزم" آخر المشاريع المنافسة
ووفق القيادي، فإن عجز الحكومة السورية المؤقتة، والتي تكاد تكون معطلة وخصوصاً بوزارتي الدفاع والإدارة المحلية، واقتصار نشاطها على بعض الزيارات وحضور بعض الاستعراضات العسكرية، وزيارة لبعض الجبهات، والكثير من القرارات الورقية، وكونها طرفاً في الصراع بين مكونات الوطني، بالتوازي مع تمكين "الإنقاذ" بإدلب بقوة الهيئة، أعطى فرصة كبيرة لأزلام "الجولاني"، للتواصل مع قيادات الشمال بدعوى تعويم مشروع إدلب، كمثال على ضبط الحياة المدنية.
وقال القيادي في حديثه لشبكة "شام" إن "الجبهة الشامية" أدركت بضرورة الاستعجال بإقامة مشروع جامع تشاركي مع جميع مكونات شمال حلب، فعمدت لإطلاق مشروعها والذي أعلن بدايته بانطلاق "غرفة عمليات عزم"، بالتشارك مع مكونات من "الجيش الوطني السوري"، الأخرى، ليكون نواة إدارة حقيقية في الشمال، قطعاً على محاولات تعويم إدارة الهيئة بإدلب.
"عزم" من الولادة إلى تلاشي المشروع
وأوضح أنه ما إن تم الإعلان عن "عزم" وتبيان أولى خطواتها بتحسين وإصلاح مكوناتها، معتمدة بذلك على واقع سيئ تريد تصحيحه، إذ تفاجئ القائمون على "عزم" بالهجوم المنظم والمبيت عليهم من "هيئة تحرير الشام" وإعلامها الرسمي والرديف، مدركة بذلك أن هذا المشروع إن كتب له النجاح، سيوقف حلم "الجولاني" بالتوسع، وبالتالي سيحرمهم موارد اقتصادية جديدة من معابر وغيرها، كما أن نجاح مشروع "عزم" من شأنه أن يقوي موقفها الإقليمي ويعزز نفوذها في المنطقة.
وأشار القيادي إلى أن تدخل "الجولاني" عسكرياً شمالي حلب، بغض النظر عن الحجج التي ساقها، كانت بداية التحرك الفعلي لوأد "عزم ومشروعها"، ضمن سلسلة تحالفات بين "الهيئة" وفصائل أخرى ظهرت جلياً في الحملة العسكرية الثانية ودخول عفرين عسكرياً والتوسع لشمالي حلب، بتواطؤ من قوى أخرى سواء في الدخول في الصراع أو التزام الحياد ومراقبة تمدد "الجولاني" لإنهاء مشروع "عزم" الذي تعتبره في غير صالحها نجاحه.
وخلص القيادي، إلى أن مشروع "الهيئة أو الجولاني" لم ولن يكون ثورياً، أو يمثل الحراك الثوري، مهما حاول إظهار قربه للحراك وتبنيه بالهيمنة والمراوغة والالتفاف على الفعاليات التي تقبل التعامل معهم كسلطة أمر واقع، مشيداً بالوعي الجماهيري لأبناء الثورة، الذين عاشوا ويعيشون التبدلات في المواقف وعدم الثبات على مبدأ، رافضين رهن سنوات من الكفاح والنضال بيد أي مكون يحمل مشروعاً مناقضاً لمشروع الثورة، قد ينقلب على مبادئه في أي وقت ويتغير.