من خلف القضبان إلى واقع جديد: معاناة المعتقلين لا تنتهي بالحرية
من خلف القضبان إلى واقع جديد: معاناة المعتقلين لا تنتهي بالحرية
● تقارير إنسانية ١ مايو ٢٠٢٥

من خلف القضبان إلى واقع جديد: معاناة المعتقلين لا تنتهي بالحرية

على مدار سنوات حكمه، اعتقلَ نظام الأسد آلاف السوريين انتقاماً من مشاركتهم في الثورة المعارضة له، وزجَّ بهم في معتقلات يغيبُ عنها الحدّ الأدنى من المعايير الإنسانية. في تلك الزنازين المظلمة، عانى المعتقلون من أقسى أنواع التعذيب والإهمال، حتى فارقَ كثير منهم الحياة دون محاكمة أو معرفة ذويهم بمصيرهم. وبينما أُفرج عن بعضهم قبل سقوط النظام، وخرج آخرون بعد التحرير.

لكن الخروج من السجن لم يكن نهاية المعاناة، يعتقدُ البعض أن معاناة المعتقل تنتهي بمجرد فتح أبواب السجن وإطلاق سراحه، وكأن الحرية تطوي ما مضى من صفحات العذاب التي عاشها خلال سنواتٍ اقتطعتها القضبان من عمره.


إلا أن الواقع مختلف تماماً؛ إذ يواجه الناجي من الاعتقال سلسلة متواصلة من التحديات النفسية والاجتماعية والاقتصادية، ويحتاج إلى جهد كبير لاستعادة توازنه والاندماج مجدداً في حياته الطبيعية. في هذا التقرير، نستعرض بعضاً من هذه الصعوبات، استناداً إلى شهادات ميدانية جمعناها من أصحاب التجربة أنفسهم ومن ذويهم.

الندوب النفسية والآثار الجسدية
غالباً ما يعاني الناجون من الاعتقال من استمرار استرجاعهم للأحداث الصادمة التي تعرضوا لها داخل السجن، مثل التجويع، والضرب، والإهانة، وغيرها من أساليب القمع التي اعتاد النظام السوري استخدامها ضد المساجين. 


وقد أفادَ عدد من المعتقلين السابقين بأنهم يرون كوابيس متكررة تجسد مشاهد مشابهة لما عاشوه، مما يعكس استمرار تأثير الصدمة النفسية حتى بعد الإفراج عنهم. ويُعد الشعور الدائم بالخوف، واضطرابات النوم، والقلق والتوتر من الأعراض الشائعة لما يُعرف بـ"اضطراب ما بعد الصدمة"، وهو أمر طبيعي في مثل هذه الحالات وفق ما تؤكده الدراسات النفسية.

ولا تتوقف آثار الاعتقال عند الجانب النفسي فقط، بل تمتد إلى الجسد الذي ناله نصيب وافر من العذاب، مخلفًا إعاقات دائمة ومزمنة لدى كثير من المعتقلين. فالتعذيب القاسي داخل السجون تسبّب بإصابات بالغة لعدد من المعتقلين، وصل بعضها إلى إعاقات دائمة، وفقًا لما أكدته تقارير صادرة عن منظمات حقوقية دولية، مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، إلى جانب توثيقات الشبكة السورية لحقوق الإنسان. 


وقد أشارت هذه المصادر إلى أن عدداً من المعتقلين تعرّضوا لإصابات جسدية خطيرة، شملت حالات بتر أطراف نتيجة الضرب المبرح أو الإهمال الطبي، بالإضافة إلى شلل جزئي أو كامل بسبب الصعق بالكهرباء أو إصابات في العمود الفقري. كما وثّقت التقارير فقدان بعض المعتقلين لحاسة البصر أو السمع، إلى جانب إصابة آخرين بأمراض مزمنة أو فشل في بعض الأعضاء نتيجة الحرمان من العلاج وسوء ظروف الاحتجاز.

أعباء اقتصادية وتحولات اجتماعية
وإلى جانب الجوانب النفسية والجسدية، يواجه المعتقلون المحررون تحديات اقتصادية واجتماعية هائلة، تُثقل كاهلهم وتُعيق اندماجهم في الحياة الطبيعية. إذ أن معتقلون اصطدموا بواقع اقتصادي متردٍ، لا سيما في ظل اضطراره لإعادة بناء حياته من الصفر. 


وفي كثير من الحالات، لا يمتلك ذوه القدرة المادية الكافية لتأمين احتياجاته اليومية أو دعمه في تجاوز المرحلة الانتقالية بعد خروجه من السجن. كما أن السنوات التي قضاها في الاعتقال قد حرمته من فرص التعليم أو العمل، ما يقلل من إمكانية اندماجه مجددًا في سوق العمل ويزيد من صعوبة تأمين مصدر دخل ثابت.

كما صُدم عدد من الناجين من الاعتقال بالتغيرات الجذرية التي طرأت على أوضاع أسرهم خلال فترة احتجازهم، بعضها كان مأساوياً؛ إذ فقد بعضهم أحد الوالدين أو أحد أفراد الأسرة دون أن تتاح لهم فرصة الوداع أو حتى معرفة التفاصيل. 


ولم تتوقف الصدمة عند هذا الحد، فقد عانوا أيضاً من آثار الحرب المدمرة، خصوصاً في المناطق التي تعرضت لقصف أو اجتياح من قبل قوات النظام، والتي سُجّلت فيها حالات انتقام جماعي من السكان بسبب مواقفهم المعارضة. وجد كثير من الناجين أنفسهم أمام مشهد قاسٍ: منازل مدمّرة، أراضٍ محروقة، وأشجار مقطوعة، ليتبدد ما تبقى من ملامح الطفولة والانتماء.

تُظهر قصص المعتقلين الناجين من سجون النظام السوري أن الخروج من السجن لم يكن نهاية رحلة المعاناة، بل بداية فصل جديد من التحديات التي لا تقل قسوة عمّا سبق. فالألم النفسي، والضرر الجسدي، والضياع الاقتصادي، والانهيار الاجتماعي، جميعها تلتقي لتشكّل واقعًا معقّدًا يحتاج إلى استجابة شاملة من قبل المؤسسات الحقوقية والإنسانية والمجتمعية. 


واليوم، بعد أن كُشف جانب من الحقيقة، تبقى العدالة والمساءلة، إلى جانب برامج الدعم وإعادة التأهيل، ضرورات لا بد منها لتمكين الناجين من استعادة حياتهم وكرامتهم، ولضمان ألا تتكرر هذه المأساة في مستقبل سوريا.

الكاتب: سيرين المصطفى
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ