
ما جنيته في سنوات أضاعه الأسد في لحظة.. شهادة عن "منزل المستقبل" الذي تحول إلى ركام
كم هو محظوظ من عاش في بلدٍ لم تطرق الحرب بابه. منذ طفولتي، كنتُ أرسم ملامح مستقبل بسيط: أكمل دراستي، أحصل على وظيفة، أشتري منزلاً وسيارة، وربما أفتتح مشروعاً صغيراً. لم يخطر في بالي يوماً أن تلك الأحلام البسيطة ستصبح من ضروب المستحيل.
بدايات الحرب.. وانكسار الطموح
في آذار/مارس 2011، كنتُ طالباً في الصف العاشر عندما بدأت الثورة السورية. عاماً بعد آخر، تصاعدت الأحداث واشتد القصف على قريتنا في ريف إدلب الجنوبي. مع حلول عامي الدراسي الثالث عشر، أُغلقت المدارس بسبب الغارات الجوية، ولم تكن لدي القدرة المالية على الالتحاق بدورات خاصة كما فعل كثيرون. فُرضت إدلب كمركز لتقديم الامتحانات، لكنها كانت تحت سيطرة النظام، فلم أتمكن من الذهاب.
حينها، اتخذت قراراً صعباً: تعليق دراستي والدخول إلى سوق العمل. مارست أعمالاً زراعية وتاجرت بالدراجات النارية. وخلال عام واحد، ادخرت مبلغاً جيداً دفعني للتفكير بالسفر إلى تركيا.
الهجرة والعمل في إسطنبول
دخلت تركيا بطريقة غير نظامية عام 2015، واستقر بي الحال في إسطنبول، حيث عملت في معمل حديد. لم أتوانَ عن قبول أي فرصة عمل إضافي، فكنت أعمل لساعات طويلة، وأرسل المال شهرياً لعائلتي في إدلب. لكن الضغط الجسدي كان كبيراً، وتسبب لي بآلام متكررة في الظهر تجاهلتها طويلاً حتى سقطت عاجزاً عن الحركة.
بعد رحلة علاج قصيرة، عدت إلى قريتي في إدلب، حيث منحني والدي قطعة أرض صغيرة بمساحة دونمين. بدأت ببناء منزلٍ حلمت به طويلاً. بيت بسيط من غرفتين وصالون ومرافق، محاط بأشجار الليمون والبرتقال والزيتون والرمان والتين.
لحظة الانهيار.. الفرح المؤجل إلى أجل غير معلوم
في نيسان/أبريل 2019، انتهيت من بناء المنزل، جهزته بالأبواب والنوافذ، وطلبت من والدتي أن تبحث لي عن عروس. لم أنم فيه ليلة واحدة. لم أرتشف القهوة على شرفته، ولا شعرت بدفء جدرانه. بعدها بأيام، بدأت حملة عسكرية عنيفة على ريف حماة الشمالي وإدلب الجنوبي، فأُجبرنا على النزوح.
أصر الأقارب على نزع الأبواب والنوافذ لحمايتها من السرقة، لكنني رفضت. لم أتوقع أن يغيبني النزوح لأكثر من خمس سنوات. كنت أظنها أياماً قليلة ونعود.
حين عدت... لم أجد شيئاً
بعد سقوط النظام في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، سارعت بالعودة مع بعض الأصدقاء للاطمئنان على المنزل. كنت أحمل أملاً صغيراً في أن يكون قد نجا. لكنني وجدته ركاماً. لا جدران، لا سقف، لا أثر للأشجار. دُمرت أحلامي، ذبلت أوراق الأشجار كما ذبلت فرحتي.
جلستُ أمام الدمار أتأمل ذكرياتي، تذكرت كل لحظة عمل وكل قرش ادخرته وكل أمل علّقته في ذلك البناء الصغير. أنفقت عليه ما يقارب ستة آلاف دولار من عرق غربتي، واليوم لم يتبقَ منه سوى الحطام.
ختاماً... لست وحدي من خسر
لم تكن خسارتي فريدة. مئات الآلاف فقدوا أعزاء، وهُدمت بيوتهم، وتقطعت أوصالهم. كل سوري عاش فصلاً من الألم. أما أنا، فقد عاهدت نفسي أن أعود مجدداً، وسأبني بيتاً آخر، وربما يكون أجمل من الأول. لأن الحياة، برغم كل ما مررنا به، يجب أن تُستعاد.