
ما بين طفلة متهمة بالإرهاب وزوج اختفى في مكالمة... شهادات دامغة عن معتقلين غيّبتهم سجون الأسد
في بلد علمونا فيه منذ الصغر أن السجون تُفتح في وجه الخارجين على القانون، لم يتوقع السوريون أن تكون الزنازين مصير أطفالهم وأحبائهم، لا لذنب اقترفوه، سوى أنهم كانوا أبناء لثورة طالبت بالحرية. سجون نظام الأسد لم تكن يوماً أدوات قانون، بل تحوّلت إلى أقبية موت تخنق صوت الحقيقة، ووسيلة لإرهاب كل من حلم بوطن بلا قمع.
ومع كل يوم يمضي، تتكشف المزيد من الحكايات المؤلمة، يسردها من نجا، وينقلها من بقي على أمل اللقاء بمن لم يعد. فيما يعيش أهالي المعتقلين والمغيبين حياة منكسرة لا يُرممها الزمن، يطاردهم سؤال واحد: "ماذا حلّ بأحبائنا خلف تلك الجدران؟".
أميرة أبو زيد... أنثى من نور اقتادها الظلام
لم تكن أميرة أبو زيد سوى فتاة سورية عادية تحمل ملامح الطيبة والانتماء، لكنها اختطفت من شوارع دمشق بتاريخ 8 شباط/فبراير 2013، وتحديداً من منطقة دف الشوك. ومنذ ذلك اليوم، لا أثر لها، ولا خبر.
صورتها لا توحي بشيء من التطرف أو حتى الهمس السياسي، وجهٌ من وجوه آلاف السيدات السوريات اللواتي لم يعرفن في حياتهن سوى البساطة وحب الحياة. لكنها اختفت في زمنٍ يُرمى فيه الأبرياء في المعتقلات، بينما يسرح القتلة والفاسدون في الأرض. وحده النظام حينذاك من حوّل البراءة إلى تهمة، والوجود إلى خطر، والأنوثة إلى ذريعة.
من حمص... شهادة أبّ قُصفت أحلامه
في بابا عمرو، أحد أحياء مدينة حمص، يخرج صوت أحمد حماد الحلبي محمّلاً بالحسرة، باحثاً عن حقه وكرامته التي سُلبت ذات يوم. فقد اعتقل النظام السوري السابق أفراداً من عائلته، وذاق مرارة استشهاد ابنه الأكبر في سجن صيدنايا سيئ الصيت، ذلك المعتقل الذي أصبح عنواناً للإبادة المنظمة.
"ابني مريض قلب، أجرى عملية مفتوحة قبل اعتقاله، وكان بعيداً عن السياسة والعمل العام"، يقول الحلبي، مؤكداً أن الاعتقال لم يكن إلا تنكيلاً. أما زوجته، فقد نالت نصيبها من العذاب، حيث تعرضت لتعذيب وحشي تسبب بشلل دائم، قبل أن تُنقل إلى صيدنايا. وفي مشهد لا يقلّ قسوة، اعتُقلت ابنته، وكان عمرها حينها 15 عاماً، ووجهت لها تهماً "جاهزة" أبرزها تمويل الإرهاب والعمل الإعلامي ضمن مشفى ميداني!
يختم الحلبي شهادته بغضب: "من تسبّبوا باعتقالنا ونفذوا هذه الجرائم ما يزالون أحراراً، يعيشون بلا مساءلة. نطالب بمحاسبتهم".
زوجة تسمع آخر كلمات زوجها: "طمشوني"
القصة التي ما زالت تُروى بمرارة هي ما حدث مع معتز أسمر، الذي كان في الأربعين من عمره حين اعتُقل عام 2013. في مكالمة هاتفية أخيرة مع زوجته هيفاء عرقسوسي، قال لها: "طمشوني"، ثم انقطع الاتصال للأبد. المكان كان حاجز "بيجوا" في ريف دمشق، والسبب؟ لا سبب.
أسمر لم يكن ناشطاً ولا منخرطاً في أي عمل سياسي، ولم يشغل منصباً حكومياً. كان مواطناً عادياً. لكن في ظل نظام لا يعترف بالبراءة ولا بالحياد، تحوّلت حياته إلى رقم على لائحة مجهولي المصير، وسط آلاف الملفات التي أُغلقت بلا إجابة.
انتظار لا ينتهي... وأمل لا يموت
في سوريا، ما بعد سقوط النظام، لا تزال أبواب السجون تُفتح، ولا تزال الأسر تبحث في الوجوه الخارجة عن أحبتها. لا أثر في السجلات، ولا أسماء في قوائم الموتى، وكأنهم لم يكونوا.
عشرات الآلاف من المعتقلين لا يزال مصيرهم مجهولاً، وأسرهم تحيا على فتات الأمل. "ربما يظهر"، "ربما خرج"، "ربما نُقل"... هي العبارات التي يرددها كل أب وأم وأخ وزوجة، بينما السنين تمضي ببطء، حاملة في طياتها كل وجع الانتظار.
إنّ ما حدث في سوريا من تغييب قسري ممنهج لم يكن عرضياً، بل سياسة دولة، شاركت فيها الأجهزة الأمنية، والقضاء، بل وأحياناً الإعلام. لكن الثورة التي بدأت بحثاً عن الكرامة، ستظل تلاحق قاتلي الحلم حتى تضعهم أمام العدالة. فلا أحد ينسى صوت ابنته الصغيرة، أو آثار دموع أم على باب سجن، أو آخر مكالمة قال فيها معتقل: "طمشوني".