هيومن رايتس ووتش تطرح توصيات للسلطات السورية… تحديات معقدة أمام العدالة
هيومن رايتس ووتش تطرح توصيات للسلطات السورية… تحديات معقدة أمام العدالة
● أخبار سورية ١٩ نوفمبر ٢٠٢٥

هيومن رايتس ووتش تطرح توصيات للسلطات السورية… تحديات معقدة أمام العدالة

أعلنت منظمة هيومن رايتس ووتش أن سوريا تمتلك، للمرة الأولى منذ عقود، فرصة تاريخية لبناء مسار عدالة شامل بعد سقوط حكومة بشار الأسد وانتهاء ستة عقود من حكم حزب البعث. وأكدت المنظمة، في تقرير موسّع صدر في 17 نوفمبر 2025، أن الطريق نحو المحاسبة لا يزال معقّداً لكنه ضرورة لا يمكن تجاوزها إذا أرادت البلاد الخروج من دوامة الإفلات من العقاب التي غذّت الجرائم والانتهاكات منذ عام 2011.


وركّز التقرير على ضرورة التزام السلطات السورية الحالية، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، بمحاكمة المسؤولين عن الجرائم الدولية التي ارتُكبت خلال السنوات الماضية، سواء من جانب النظام السابق أو من قبل بقية أطراف النزاع المسلح، مؤكدة أن العدالة الانتقائية أو المحدودة ستكون وصفة مؤكدة لزعزعة الاستقرار واستمرار دوامات العنف.


لحظة مفصلية بعد سقوط الأسد
قالت المنظمة إن سقوط الحكومة السابقة مثّل تحولاً تاريخياً فتح الباب لطيّ صفحة حكم امتد لعقود، لكنه في الوقت ذاته كشف حجم الدمار المؤسساتي والحقوقي المتراكم. فالملايين من السوريين داخل البلاد وخارجها يواصلون المطالبة بمعرفة الحقيقة حول الجرائم التي ارتُكبت بحقهم أو بحق ذويهم، وتحقيق العدالة، والكشف عن مصير المختفين قسرياً.


ورصد التقرير التزامات أولية أعلنتها السلطات الانتقالية، والتي تضمّنت الإشارة إلى العدالة الانتقالية في الإعلان الدستوري، والترحيب بالقضية المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية ضد الحكومة السابقة على خلفية التعذيب، إضافة إلى وعود بالتعاون مع آليات الأمم المتحدة. لكنه شدّد على أن هذه التعهدات “خطوات أولية” تتطلب ترجمة عملية عاجلة وواسعة وشاملة.


وترى المنظمة أن مسؤولية التحقيق والمحاسبة يجب أن تبدأ داخل سوريا، حيث يمكن للمحاكم الوطنية أن تترك أثراً مباشراً على المجتمعات المتضررة. لكنها أشارت في الوقت ذاته إلى أن ضعف القدرات، وغياب الإرادة، وتحديات النزاع، تجعل من الضروري استمرار العمل الدولي والمحاكم خارج سوريا.


توثيق الجرائم: شبكة واسعة من الانتهاكات
قدّم التقرير سرداً شاملاً للانتهاكات التي شهدتها البلاد خلال ثلاثة عشر عاماً، بدءاً من قمع احتجاجات 2011 وصولاً إلى الجرائم الموثقة بعد ديسمبر 2024. وأكدت المنظمة أن قوات الحكومة السابقة مسؤولة عن طيف واسع من الجرائم: القتل والتعذيب والاختفاء القسري واستخدام الأسلحة الكيميائية واستهداف المستشفيات والمدارس ومنع المساعدات الإنسانية وتهجير السكان. كما أوضح التقرير أن روسيا وإيران وحلفاء الحكومة السابقة لعبوا دوراً مباشراً في الانتهاكات، بما في ذلك الهجمات الجوية على البنى المدنية ودعم عمليات الحصار والقمع.


ولم تغفل المنظمة جرائم الأطراف الأخرى، بدءاً من داعش وجبهة النصرة وهيئة تحرير الشام، وصولاً إلى فصائل المعارضة المسلحة المختلفة. وذكر التقرير أن هذه المجموعات ارتكبت الاغتيالات والاعتقالات التعسفية والهجمات العشوائية والتجنيد القسري واستخدام الأطفال في القتال، إضافة إلى عمليات الإعدام والخطف واستخدام الأسلحة الكيميائية.


كما وثّقت هيومن رايتس ووتش الانتهاكات التي استمرت بعد سقوط الأسد، بما في ذلك عمليات القتل الجماعي التي طالت مدنيين علويين في الساحل خلال مارس 2025، والانتهاكات الواسعة في محافظة السويداء خلال يوليو 2025، إضافة إلى استمرار انتهاكات الفصائل المدعومة من تركيا في الشمال السوري.


سنوات من النضال المدني: الضحايا يقودون المعركة
أشار التقرير إلى أن النشطاء السوريين كانوا منذ 2011 في طليعة معركة البحث عن العدالة، سواء عبر التوثيق أو عبر الملاحقات القضائية في أوروبا. وروى شهادات مؤثرة قدّمها ناجون من التعذيب وأهالي المختفين أمام محكمة العدل الدولية عام 2023، وهي شهادات اعتبرتها المنظمة جزءاً من “ذاكرة العدالة السورية” التي لا يمكن تجاهلها عند بناء أي عملية انتقالية.


هذه الجهود الشعبية، وفق التقرير، أسست شبكة ضخمة من الأدلة والملفات التي باتت اليوم تشكل قاعدة أساسية للعمل في المحاكم الأجنبية، مثل ألمانيا وفرنسا والسويد، والتي أدت بالفعل إلى صدور أحكام تاريخية ضد ضباط سوريين سابقين وعناصر من داعش وفصائل أخرى.


المؤسسات الدولية: إرثٌ قائم ودورٌ يتوسع

استعرضت هيومن رايتس ووتش دور الآليات الدولية التي نشأت بسبب انسداد الطريق نحو العدالة داخل سوريا، ومنها:
 • الآلية الدولية المستقلة والمحايدة (IIIM) التي جمعت وأحلّت آلاف الأدلة وقدمتها لمئات القضايا.
 • لجنة التحقيق الدولية (COI) التي أنتجت أكثر من 30 تقريراً حول الجرائم المرتكبة في البلاد.
 • منظمة حظر الأسلحة الكيميائية التي أثبتت مسؤولية النظام السابق وداعش عن استخدام المواد السامة.
 • المؤسسة الأممية للمفقودين في سوريا (IIMP) التي بدأت عملها عام 2023 لتحديد مصير مئة ألف مفقود.
 • المحاكم الأوروبية التي اعتمدت مبدأ الولاية القضائية العالمية لمحاكمة جرائم الحرب.


وبعد 2024، بدأت هذه المؤسسات تتقدم بخطوات نحو دمشق، مع طلبات متزايدة لفتح مكاتب محلية وتوسيع التعاون، وهي فرصة جديدة تقول المنظمة إنها لا ينبغي تفويتها.


تحديات معقدة أمام العدالة

خصص التقرير قسماً كبيراً لتحليل التحديات التي تواجه مسار المحاسبة، ومن أبرزها:


1. السياق السياسي الهش
تحذر المنظمة من أن تكرار أخطاء دول مثل تونس والعراق ولبنان يمكن أن يشلّ مسار العدالة في سوريا، خصوصاً مع خطر الانتقائية في المحاسبة أو منح العفو عن الجرائم الجسيمة. كما أشارت إلى خطورة استمرار نفوذ جماعات مسلحة لا تزال تحتفظ بولائها وممارساتها خارج سلطة الدولة.


2. ضعف استقلال القضاء

رغم إعلان استقلال القضاء في الإعلان الدستوري الجديد، ترى المنظمة أن عدم وجود ضمانات فعلية يجعل السلطة القضائية عرضة للتدخل السياسي، وهو ما يهدد أي محاكمة عادلة.


3. فجوات قانونية واسعة

لا يزال القانون السوري يفتقر إلى تعريفات الجرائم الدولية مثل الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، ولا يضمن حماية الشهود، ويُبقي على عقوبة الإعدام، ما يجعل التعاون الدولي أكثر تعقيداً.


4. حفظ الأدلة ومنع ضياعها

أشارت المنظمة إلى أن كثيراً من الأدلة في مقارّ الأمن والسجون السابقة تعرّضت للنهب أو العبث أو التلف، بما في ذلك وثائق وأماكن التعذيب والمقابر الجماعية، وحذّرت من تكرار ما حدث في العراق عندما ضاعت أدلة حيوية بعد 2003.


5. التنسيق بين مؤسسات العدالة

مع تعدد الآليات المحلية والدولية، تخشى هيومن رايتس ووتش من تداخل الأدوار وضياع الجهود، ما يتطلب قيادة واضحة وتنسيقاً مركزياً يربط بين التحقيقات الوطنية والدولية.


6. إشراك الضحايا

على الرغم من وجود وعود بمسار يضع الضحايا في مركز العملية، إلا أن المنظمة ترى أن السلطات لم تقدّم حتى الآن خطة واضحة لمشاركة الناجين وعائلاتهم في تصميم آليات العدالة وبرامج الإصلاح.


7. التمويل

أكد التقرير أن الأزمات المالية التي تعاني منها الأمم المتحدة والنقص الحاد في دعم منظمات المجتمع المدني السورية يهددان استمرارية آليات المحاسبة، داعية إلى تمويل دولي ثابت وطويل الأمد.


طريق العدالة: توصيات نهائية

اختتمت هيومن رايتس ووتش تقريرها بتوصيات تفصيلية دعت فيها السلطات السورية إلى:
 • الالتزام العلني بالمحاسبة دون استثناء أي طرف.
 • توسيع صلاحيات لجنة العدالة الانتقالية لتشمل الجرائم التي ارتكبتها كل الأطراف.
 • منح آليات الأمم المتحدة وصولاً كاملاً إلى الأراضي السورية.
 • الانضمام إلى نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية.
 • إصلاح المنظومة القضائية والتشريعية وإلغاء عقوبة الإعدام.
 • حماية الأدلة وتأمين مواقع المقابر الجماعية والسجون السابقة.
 • إشراك المجتمع المدني والضحايا في كل مراحل العملية.


كما دعت المجتمع الدولي إلى توفير التمويل والدعم التقني، وإنشاء تحالف من الدول لدفع مسار العدالة، وضمان عدم تكرار أخطاء الماضي في سوريا أو في دول المنطقة.


فرصة نادرة… ومسؤولية جسيمة
يختتم التقرير برسالة واضحة: رغم حجم الانتهاكات الهائل الذي شهدته سوريا منذ 2011، ورغم تشابك المشهد السياسي والأمني، فإن الفرصة ما تزال قائمة لبناء مسار عدالة حقيقي، بشرط وجود إرادة سياسية وطنية صادقة، وشراكات دولية قوية، وإشراك فعلي للضحايا.


وترى المنظمة أن سوريا تقف اليوم أمام منعطف تاريخي، فإما أن تختار طريق العدالة والمساءلة، أو تكرر سيناريوهات الدول التي ضاعت فيها الحقيقة وضاعت معها فرص السلام.

الكاتب: فريق العمل
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ