
مناف طلاس.. جنرال منتهي الصلاحية يبحث عن دور في سوريا الجديدة
أثار الظهور المفاجئ للعميد المنشق عن النظام السوري السابق، مناف طلاس، في باريس عبر سلسلة محاضرات وتصريحات، جدلًا واسعًا حول موقعه المحتمل في المشهد السوري بعد سقوط نظام بشار الأسد. بين من يراه واجهة لإعادة تدوير النخب العسكرية القديمة، ومن يعتبره لاعبًا منتهي الصلاحية بلا حاضنة شعبية أو عسكرية، يبقى السؤال الأهم: هل يشكل طلاس خطرًا فعليًا على مسار الثورة السورية والدولة الانتقالية بقيادة الرئيس أحمد الشرع، أم أن حضوره لا يتجاوز الضجيج الإعلامي؟
أولًا: لماذا الآن؟ توقيت الظهور ورسائله
اختار مناف طلاس العودة إلى الأضواء عبر منبر أوروبي، وتحديدًا في معهد العلوم السياسية في باريس، بحضور دبلوماسيين وصحفيين. توقيت الظهور—بعد أكثر من عقد من الغياب—ليس تفصيلًا عابرًا. فالمحاضرات المتزامنة مع حديث عن تفاهمات دولية تخص مستقبل سوريا، توحي بمحاولة استعادة دور سياسي أو عسكري تحت شعار “حماية المرحلة الانتقالية”. لكن السؤال يبقى: هل يمتلك أدوات القوة لفرض نفسه، أم أن الأمر لا يعدو كونه محاولة لإحياء اسم طُوي منذ 2012؟
ثانيًا: “المجلس العسكري” كعنوان للمشروع
يضع طلاس كل ثقله على فكرة المجلس العسكري، الذي يطرحه بوصفه جسمًا يوحد القوى المسلحة، ويمنح الجيش عقيدة “وطنية علمانية”. ويقترح أن يتم تقليص صلاحيات الرئيس لصالح هذا المجلس، الذي سيكون بنظره الضامن للأمن والسلم الأهلي.
لكن، ورغم تكرار الطرح في أكثر من مناسبة (2023 ثم 2025)، فإن غياب أي خطة عملية أو آليات تنفيذية يجعل المشروع أقرب إلى الشعار السياسي منه إلى برنامج عمل. فلا إجابة واضحة عن كيفية دمج الفصائل، أو ضمان الانضباط والمحاسبة، أو تجنب إعادة إنتاج عسكرة السياسة.
ثالثًا: العلاقة مع السلطة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع
في كل خطاباته تقريبًا، يكرر طلاس دعمه للرئيس أحمد الشرع متمنيًا له النجاح، لكنه يرفق هذا الدعم بانتقاد واضح لما يسميه “التفرد بالسلطة”. وهو يدعو الشرع إلى “الدخول على الدولة لا على السلطة”. عمليًا، يظهر طلاس كمعارض من خارج المنظومة: يمدح بيد ويضغط بالأخرى، في محاولة لتسويق نفسه كـ”شريك ضروري” لا كخصم مباشر.
لكن هذا الطرح، بحسب مراقبين، يحمل في جوهره مشروع وصاية عسكرية على السلطة المدنية، وهو ما يتعارض مع روح الثورة السورية القائمة على كسر احتكار الحكم العسكري.
رابعًا: الرقم الإشكالي.. “10 آلاف ضابط”
في أكثر من تقرير نُسب لطلاس قوله إنه على تواصل مع “ما لا يقل عن 10 آلاف ضابط” منشق أو من قسد وفصائل أخرى. هذا الرقم الضخم انتشر بسرعة، لكنه بقي بلا توثيق مستقل. منصات تحقق، مثل تأكّد، نفت سابقًا تصريحات مشابهة زُعمت على لسان طلاس، ما يجعل من الصعب التعامل مع الرقم كحقيقة.
بالنسبة لخبراء عسكريين، حتى لو صح الرقم، فإن مجرد التواصل لا يعني الولاء أو الجاهزية للعمل تحت قيادة طلاس. لذلك، يبقى الادعاء أقرب إلى محاولة تضخيم سياسي أكثر من كونه معطى واقعيًا.
خامسًا: لا طموح رئاسي.. بل طموح وصاية؟
حرص طلاس على نفي أي نية للترشح للرئاسة أو قيادة البلاد سياسيًا، مؤكدًا أن هدفه “بناء الدولة لا السلطة”. لكن، في المقابل، اقتراحه نقل جزء من صلاحيات الرئيس إلى مجلس عسكري، يعني عمليًا طموحًا في النفوذ العسكري على القرار السياسي. وهو ما قد يكون أشد خطرًا من السعي المباشر للرئاسة، لأنه يعيد تكريس منطق الوصاية الأمنية.
سادسًا: الموقف من إسرائيل.. ورقة رمزية
أكد طلاس أكثر من مرة أن الحديث عن التطبيع مع إسرائيل “مبكّر” وأن أي خطوة في هذا التوقيت ستكون “استسلامًا”. هذا الموقف، رغم أهميته الرمزية، لا يضيف جديدًا، لأنه ينسجم مع المزاج الشعبي والسياسي السوري العام. لكنه يُظهر محاولة واعية من طلاس لقطع الطريق أمام أي اتهام بالتفريط، ما يعزز صورته كـ”وطني جامع”، دون أن يغير من جوهر مشروعه الداخلي.
سابعًا: الإسلام السياسي والإسلام المعتدل
في أكثر من محاضرة، قال طلاس إنه يفضّل إسلامًا “أشعريًا أو صوفيًا” يشارك بالسياسة دون أن يفرض نفسه عليها. بهذا الخطاب، يحاول التموضع بين رفض الإسلام السياسي كقوة حاكمة، والقبول بوجود أحزاب ذات مرجعية إسلامية تعمل في إطار تشاركي.
لكن هذا الطرح، وفق مراقبين، يحمل تناقضًا: فهو يستبعد فعليًا قوى إسلامية كبرى كانت جزءًا من الثورة، ما قد يفتح الباب أمام اصطفافات مضادة بدل أن يؤدي إلى الدمج الوطني الشامل.
ثامنًا: هيئة حكم تشاركية و2254 المعدّل
في محاضرته الأخيرة، دعا طلاس إلى هيئة حكم تشاركية تضم كل القوى السياسية والاجتماعية، ورأى أن المسار السياسي يجب أن يستند إلى قرار مجلس الأمن 2254 مع تعديله ليناسب واقع ما بعد سقوط الأسد. لكن مرة أخرى، لم يوضح تفاصيل عملية: من يختار هذه الهيئة؟ كيف تُمنح الشرعية؟ وما موقع الحكومة الانتقالية القائمة برئاسة الشرع؟، لذلك خطاب طلاس يعيد تدوير أدبيات المعارضة التقليدية دون تقديم خريطة طريق جديدة قابلة للتطبيق.
تاسعًا: العودة إلى الداخل.. حلم مؤجل
أعلن طلاس عزمه زيارة سوريا “من أجل العمل”. لكن، واقع الحال يقول إن هناك مؤسسات أمنية وعسكرية قائمة، وبيئات مقاتلة تملك عشرات الآلاف من المقاتلين الرافضين لأي دور له. إضافة إلى شبكة دعم إقليمي وعربي واضحة للرئيس أحمد الشرع وحكومته وجيشه، ما يجعل أي عودة لطلاس أقرب إلى زيارة رمزية منها إلى انتقال فعلي لمركز قرار.
عاشرًا: صورة الرجل.. من جسر قديم إلى واجهة مُعاد تدويرها
تاريخ طلاس معروف: ابن وزير الدفاع الأسبق مصطفى طلاس، صديق الطفولة لبشار الأسد، وضابط رفيع في الحرس الجمهوري. انشق عام 2012 لكنه لم يتزعّم أي فصيل مسلح أو يشغل منصبًا ثوريًا. بقي في موقع “المراقب”، ليعود اليوم محاولًا تقديم نفسه كجسر بين القوى.
لكن، بعد 14 عامًا من الغياب، تبدو صورته أقرب إلى واجهة تُعاد تدويرها من الخارج، أكثر منها قائدًا يملك رصيدًا على الأرض
حادي عشر: لماذا فشل في 2012؟
عندما انشق مناف طلاس عام 2012 وانتقل إلى باريس، جرت محاولات فرنسية وغربية لفرضه على الثورة السورية كقائد عسكري بديل، بحجة أنه قادر على قيادة الجيش الحر ومحاربة المتطرفين وإسقاط النظام. لكن هذه المحاولات قوبلت برفض تام من غالبية قادة الجيش الحر والنشطاء السياسيين، الذين اعتبروا طلاس امتدادًا للنظام وفاقدًا لأي شرعية ميدانية.
هذا الرفض الواسع جعل طلاس يُوضع على الرف طوال فترة الثورة، دون أن ينجح في لعب أي دور قيادي أو ميداني. فشله المبكر هذا يفسّر محدودية تأثيره اليوم، إذ لم يستطع استثمار اللحظة التي كان يمكن أن تمنحه شرعية حقيقية داخل الثورة. ويبدو أنه يحاول الآن الخروج من الرف ليجلس على الطاولة من جديد.
ثاني عشر: هل يشكل خطرًا على انتصار الثورة؟
بميزان القوى الحالي:
• الدولة الانتقالية تمتلك جهازًا عسكريًا وأمنيًا كبير جدا يصعب على أي جهة تفتيته.
• المقاتلون على الأرض بعشرات الآلاف، وغالبيتهم لا ترى في طلاس ممثلًا شرعيًا.
• الدعم الإقليمي (تركيا والخليج) يذهب بوضوح لصالح السلطة القائمة عبر التمويل وإعادة الهيكلة والتدريب.
بالتالي، فإن قدرة طلاس على قلب الموازين أو إطلاق “ثورة مضادة” تبدو ضعيفة للغاية. أقصى ما يمكن أن يفعله هو إحداث ضجيج سياسي وتشويش إعلامي، دون تأثير جوهري على مسار الثورة وانتصارها.
ثالث عشر: أي خطر فعلي إذن؟
الخطر الأساسي في مشروع طلاس لا يكمن في قوته، بل في محاولته سحب ملف إصلاح المؤسسة العسكرية إلى يده. إذ أن أي تأخير أو ضعف في معالجة هذا الملف من داخل مؤسسات الدولة قد يفتح له نافذة خطابية يستغلها، حتى وإن لم تتحول إلى نفوذ عملي.
فالحقيقة الساطعة أن توحيد فصائل الثورة السورية لم يتم بشكل كامل بعد، فما تزال الفصائلية تتحكم في جيش الدولة، وهو واضح تمامًا مع التعامل مع القيادات العسكرية وحتى العناصر التي تعرف عن نفسها أنها تابعة للفصيل الفلاني وتعمل مع القائد الفلاني. وأكثر ما يظهر هذا هو جيش سوريا الحرة العامل في منطقة التنف الواقع تحت سيطرة الجيش الأمريكي والتحالف الدولي، والذي من المفروض أن يكون قد اندمج في الجيش السوري ووزارة الدفاع إلا أن ذلك لم يتم بعد. كما أن ذلك واضح أيضًا مع الفصائل التي كانت مدعومة من تركيا. لذلك، فالعمل الفعلي على توحيد الفصائل بشكل كامل هو السبيل الوحيد لقطع أي محاولة فعلية دولية أو أممية أو حتى عربية لإدخال طلاس لحل هذا الملف.
العودة المتأخرة لمناف طلاس تحمل أكثر من رسالة، لكنها لا تغير في جوهر المشهد السوري. فالرجل بلا قاعدة شعبية ولا قوة عسكرية حقيقية، ويعتمد على منصات خارجية أكثر من اعتماده على شرعية الداخل. مشروعه لـ”المجلس العسكري” يبدو أقرب إلى وصفة وصاية أمنية على السلطة المدنية، وهو ما يتناقض مع روح الثورة السورية.
وبينما يحاول تسويق نفسه كـ”ضامن للانتقال”، تبقى الحقيقة أن ميزان القوى يميل لصالح ترسيخ الدولة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع، مدعومة بجيشها ومقاتليها وحلفائها الإقليميين. وعليه، فإن عودة طلاس لا تشكل سوى ضجيج سياسي مؤقت، لن يبدّل قواعد اللعبة في سوريا الجديدة.