حقوقي يُناقش محاكمات اليرموك ودورها في بناء منظومة العدالة الانتقالية في سوريا
كتب فضل عبد الغني، مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في مقاله على موقع تلفزيون سوريا أن المحاكمات الجارية في ألمانيا والسويد بشأن الجرائم المرتكبة خلال حصار مخيم اليرموك تمثل فرصة أساسية للانتقال نحو بناء منظومة عدالة انتقالية في سوريا، موضحاً أن هذه المحاكمات، التي تبحث سياسة التجويع المتعمد وأنماط العنف بين عامي 2012 و2014، تقدم دروساً يمكن لسوريا الاستفادة منها لترسيخ آليات المساءلة وإرساء سوابق قانونية متينة.
خلفية مخيم اليرموك والجرائم الموثقة خلال الحصار
أشار عبد الغني إلى أن مخيم اليرموك، الذي أُنشئ عام 1957 للاجئين الفلسطينيين وأصبح لاحقاً "عاصمة الشتات الفلسطيني"، كان موطناً لما يقارب 180 ألف لاجئ فلسطيني ومئات الآلاف من السوريين قبل الحرب في سوريا، مبيناً أن حصار قوات الحكومة السورية في تموز 2013 أدى إلى قطع الغذاء والماء والدواء، وأسفر بين تموز 2013 وشباط 2014 عن وفاة 194 مدنياً، بينهم 128 قضوا نتيجة الجوع، وفقاً لبيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
المحاكمات في ألمانيا والسويد ونطاقها القانوني
أوضح الكاتب أن محكمة كوبلنز الإقليمية العليا ستعقد محاكماتها بين 19 تشرين الثاني 2025 و25 حزيران 2026 على مدى أكثر من أربعين جلسة، بينما تستمر محاكمة سولنا في السويد منذ تشرين الأول 2024 وحتى آذار 2026، مؤكداً أن هاتين المحاكمتين تُجسِّدان دور الولاية القضائية العالمية في سد الفجوة بين الإفلات من العقاب حالياً والعدالة المحلية المستقبلية.
وذكر أن توثيق الجرائم، وتحديد مسؤوليات القيادة، والتحقق من شهادات الضحايا يجعل من هذه المحاكمات ركيزة أساسية لبناء سجل قضائي يمكن لسوريا أن تعتمد عليه في مرحلة العدالة الانتقالية.
السوابق القانونية والتحولات الفقهية
لفت عبد الغني إلى أن محاكمة كوبلنز تُعد أول ملاحقة تعتمد الولاية القضائية العالمية للتحقيق في تجويع المدنيين السوريين كجريمة حرب، بالاستناد إلى تعديل قانون الجرائم المخالفة للقانون الدولي في ألمانيا، وخاصة المادة 11/1/5 من قانون العقوبات الألماني، بعد تصديق برلين على تعديل نظام روما الأساسي.
وأشار إلى قضية المتهم محمود أ.، التي تُجسِّد إطارًا قانونياً يعالج جريمة عزل المدنيين وحرمانهم من الإمدادات الأساسية، مؤكداً أن هذا النموذج يمكن أن يشكل مرجعاً قانونياً للمحاكم السورية عند مقاضاة جرائم الحصار خلال الحرب في سوريا.
المتهمون وأنماط الجرائم المرتكبة
قال عبد الغني إن المحاكمات الألمانية تشمل خمسة متهمين — جهاد أ. ومحمود أ. وسمير س. ووائل س. ومظهر ج. — إلى جانب متهم سوري/فلسطيني في السويد، موضحاً أن القضايا تتناول جرائم ضد الإنسانية مثل القتل والتعذيب والحرمان من الحرية المؤدي إلى الوفاة، إضافة إلى جرائم حرب تشمل القتل والشروع فيه والتعذيب، مؤكداً أن هذه الاتهامات توفر نماذج قانونية يمكن لسوريا تبنيها في مقاضاة الانتهاكات الواسعة التي ارتُكبت خلال النزاع.
وبيّن أن المحاكمات تشرح كيفية عمل حركة فلسطين الحرة والجبهة الشعبية – القيادة العامة كميليشيات موالية للنظام، وتعاونهما مع فرعي المخابرات العسكرية 227 و235، وهو ما يقدم تصوراً واضحاً لمسؤولية القيادة وتنظيم الهياكل الأمنية التي شاركت في الانتهاكات.
أهمية سابقة موفق د. في تعزيز المحاسبة
استذكر عبد الغني إدانة محكمة ألمانية لموفق د. عام 2023، بعد إطلاقه قذيفة صاروخية على مدنيين ينتظرون مساعدات غذائية، موضحاً أن الحكم المؤبد المشدد يشكل سابقة مهمة في مقاضاة الهجمات على العمليات الإنسانية، وأن استنتاج المحكمة بأن الجريمة ارتُكبت "بدوافع خبيثة" يوفر معياراً صارماً يمكن للمحاكم السورية الاستناد إليه مستقبلاً.
التوثيق القضائي وحفظ الأدلة
أوضح عبد الغني أن المحاكمات الأوروبية تولد سجلات موثقة تُعد أساساً مرجعياً لعمليات العدالة الانتقالية السورية، مشيراً إلى أن توثيق أحداث مثل استهداف المتظاهرين في اليرموك عام 2012 وتحويلها إلى حقائق قانونية راسخة يمنع طمسها في الروايات السياسية.
وأشار إلى الدور المحوري للآلية الدولية المحايدة والمستقلة التابعة للأمم المتحدة في جمع الأدلة وحفظها وتبادلها مع المحاكم الدولية والوطنية، مؤكداً أن هذه البنية التحتية تُعد ركيزة لا يمكن لسوريا الاستغناء عنها.
التعاون القضائي بين ألمانيا والسويد وأثره على سوريا
أبرز عبد الغني أن التعاون بين السلطات القضائية الأوروبية ومنظمات المجتمع المدني السورية أسفر عن مداهمات متزامنة في تموز 2024 في ألمانيا والسويد، موضحاً أن هذا النموذج يوفر لسوريا آليات عملية لجمع الأدلة عبر الحدود، وحماية الشهود، وتنفيذ الاعتقالات في ولايات قضائية متعددة.
وأشار إلى دور يوروجست ويوروبول في توفير الدعم الفني والاستخباراتي، مؤكداً أن هذه الخبرات يمكن لسوريا تكييفها بما يحافظ على سيادتها أثناء بناء منظومة عدالة انتقالية وطنية.
انعكاسات الولاية القضائية العالمية على المستقبل السوري
لفت الكاتب إلى أن الولاية القضائية العالمية في ألمانيا، التي تتيح مقاضاة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية دون الحاجة لارتباط جغرافي أو شخصي، ترسّخ حق سوريا في مقاضاة هذه الجرائم محلياً، بينما يقدم النهج السويدي مثالاً على كيفية التوازن بين السيادة ومتطلبات العدالة في قضايا تتطلب تحقيقات هيكلية معقدة.
الخاتمة.. نحو عدالة انتقالية شاملة في سوريا
اختتم عبد الغني مقاله بالتأكيد على أن محاكمات اليرموك تشكل دعامة أساسية لبناء العدالة الانتقالية في سوريا، موضحاً أن الخرائط المعرفية التي تنتجها هذه المحاكم — من منهجيات التوثيق إلى نماذج التعاون القضائي — تضمن تعزيز القدرات السورية في مقاضاة الجرائم المرتكبة خلال الحرب في سوريا، وتمنح الضحايا أملاً بأن تحقيق العدالة ما يزال ممكناً رغم تأخره.