
تقرير لـ "الشبكة السورية" .. العدالة الانتقالية والسلم الأهلي: أخطاء لجنة السلم الأهلي في سوريا وضرورة تصويب المسار
أصدرت الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان اليوم تقريراً حقوقياً بعنوان: “العدالة الانتقالية والسلم الأهلي: أخطاء لجنة السلم الأهلي في سوريا وضرورة تصويب المسار”، يتناول التقرير الإطار النظري والمفاهيمي للعلاقة بين العدالة الانتقالية والسلم الأهلي، ويحلل طبيعة هذه العلاقة المركبة، مقدماً قراءة نقدية مفصلة لأداء لجنة السلم الأهلي المُشكَّلة في سوريا، ويُختتم بجملة من الاستنتاجات والتوصيات الموجَّهة إلى الجهات المعنية.
يشير التقرير إلى أنَّ العلاقة بين العدالة الانتقالية والسلم الأهلي تُعدّ من أكثر التحديات تعقيداً في مجتمعات ما بعد النزاع، إذ تتقاطع متطلبات المساءلة عن الانتهاكات الجسيمة مع ضرورات بناء الاستقرار المجتمعي، ويطرح التقرير في هذا السياق جملة من الأسئلة الجوهرية حول إمكانية التوفيق بين مقتضيات المحاسبة القانونية وحاجات المصالحة المجتمعية في الحالة السورية.
ينطلق التقرير من تعريف العدالة الانتقالية بوصفها منظومة من العمليات والآليات التي يعتمدها المجتمع للتعامل مع إرث الانتهاكات، وتشمل الملاحقات القضائية، ولجان تقصي الحقائق، وبرامج التعويضات، والإصلاحات المؤسسية، إضافة إلى المبادرات المعنية بتخليد الذكرى.
كما يستعرض التقرير مفهوم السلم الأهلي كحالة من الانسجام والتعاون المجتمعي، ويشمل برامج منع العنف، وتحويل النزاعات، وتعزيز أسس السلام المستدام، هذا المفهوم الواسع يؤكد على الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي طويل الأمد.
ويؤكد التقرير على نقاط الالتقاء والتكامل بين العدالة الانتقالية والسلم الأهلي، مستعرضاً أبرز التوترات النظرية والتطبيقية بين المسارين، مع التشديد على أهمية تجاوز الثنائية الزائفة بين “السلام مقابل العدالة”، وضرورة تكييف النماذج والمفاهيم بما يتلاءم مع السياق المحلي.
تحليل نقدي لعمل لجنة السلم الأهلي
يتناول التقرير السياق السوري الذي اتسم بتعقيد النزاع، وما ترتب عليه من انتهاكات جسيمة شملت القتل الممنهج، والتعذيب، والإخفاء القسري، والاعتقال التعسفي، ويبرز التقرير الحاجة إلى تصميم دقيق لآليات العدالة الانتقالية بما يتناسب مع طبيعة الانتهاكات، محذراً من غياب التنسيق بين الهيئات المختلفة، ومنها لجنة السلم الأهلي، ولجنة العدالة الانتقالية، ولجنة المختفين قسرياً.
يسلط التقرير الضوء على أبرز الإشكالات المتعلقة بعمل لجنة السلم الأهلي، ومنها "تجاوز الصلاحيات القضائية، من خلال ممارسة اللجنة لصلاحيات تنفيذية تتعلق بالإفراج والعفو دون تفويض قانوني، وإصدار قرارات بالعفو دون سند قانوني واضح، ما يشكل انتهاكاً للمبادئ القانونية.
ويلفت إلى غياب المعايير والضوابط التي تنظم عمل اللجنة، وصدور قرارات دون الإعلان عن أسسها، كذلك الخلط بين الدور المجتمعي من جهة، والدور القضائي والتنفيذي من جهة أخرى، بما يهدد مبدأ استقلال السلطة القضائية، علاوة عن غياب الشفافية والمساءلة.
يرصد التقرير مجموعة من الانتهاكات الإجرائية، أبرزها "عدم نشر المعايير التي تستند إليها قرارات العفو والإفراج، بما يقوّض مبدأ الشفافية، وتجاهل حقوق الضحايا في المعرفة والمشاركة في عملية اتخاذ القرار، واستخدام تبريرات عامة وغير محددة، مثل “المساهمة في ردع العدوان”، دون توضيح كافٍ، والانعكاسات السلبية على مسار العدالة الانتقالية
يوثق التقرير جملة من الآثار السلبية التي نجمت عن أداء لجنة السلم الأهلي، من بينها "تقويض ثقة المجتمع في مسار العدالة الانتقالية بسبب اتخاذ قرارات خارج الإطار القانوني، وإرسال رسائل خاطئة إلى الضحايا توحي بتغليب الاستقرار على العدالة، وتعميق خطر الإفلات من العقاب، ما يسهم في إعادة إنتاج العوامل المؤدية إلى النزاع.
المسار الصحيح: نحو تكامل حقيقي
يدعو التقرير إلى عدد من الخطوات التصحيحية، أهمها "سنّ قانون خاص بالعدالة الانتقالية من خلال المجلس التشريعي، مع ضمان مشاركة مجتمعية واسعة، وتنسيق المسارات الأربعة للعدالة الانتقالية: المساءلة، الحقيقة، التعويضات، والإصلاح المؤسسي، واحترام استقلال السلطة القضائية، وضمان حقوق الضحايا في التقاضي ورفع الدعاوى الفردية، والاستفادة من الخبرات المحلية والدولية، مع تكييفها بما يتناسب مع الواقع السوري.
يخلص التقرير إلى أنَّ العدالة الانتقالية والسلم الأهلي ليسا مسارين متناقضين، وأنَّ ممارسات لجنة السلم الأهلي التي تتسم بتجاوز الصلاحيات، وغياب الشفافية، وتجاهل حقوق الضحايا، تمثل تهديداً حقيقياً لمسار العدالة وتقويضاً لفرص السلام المستدام.
وأوصت الشبكة السورية، الحكومة السورية الانتقالية بإعداد إطار قانوني متكامل للعدالة الانتقالية بمشاركة جميع الأطراف المعنية، وإعادة تحديد مهام لجنة السلم الأهلي، لتقتصر على الحوار والمصالحات المحلية، وضمان استقلالية القضاء ومنع تدخل أي جهة غير قضائية في صلاحياته، مع اعتماد الشفافية من خلال نشر جميع قرارات العفو والإفراج مرفقة بتبريراتها.
وأوصى لجنة السلم الأهلي بالالتزام بدورها المجتمعي دون ممارسة أي صلاحيات قضائية أو تنفيذية، وتعزيز المشاركة المجتمعية من خلال تنظيم جلسات استماع دورية، ووضع دليل إجرائي واضح، ومعايير معلنة تحكم عمل اللجنة، إلى جانب آلية رقابة وتقييم مستقل.
وطالبت الشبكة المجتمع الدولي بتقديم الدعم التقني والمالي للمبادرات المتعلقة بالعدالة الانتقالية، وتدريب القضاة والمحققين، ودعم منظمات المجتمع المدني، وتبادل الخبرات مع الدول التي خاضت تجارب مماثلة في العدالة الانتقالية.
وقدمت الشبكة الحقوقية توصيات عامة لجميع الأطراف بالالتزام بمبدأ “لا سلام دون عدالة”، واعتماد منهجية تشاركية في العملية الانتقالية، والاستفادة من التجارب الدولية مع تكييفها للسياق السوري.
وأكدت الشَّبكة السورية لحقوق الإنسان أنَّ مسار العدالة الانتقالية في سوريا يجب أن يستند إلى أسس قانونية وحقوقية راسخة، تضمن العدالة والشفافية والمشاركة المجتمعية. كما تحذر من أنَّ أي تجاوز لهذه الأسس، بما في ذلك تدخل لجنة السلم الأهلي خارج نطاق اختصاصها، سيؤدي إلى تقويض الجهود الرامية إلى بناء دولة القانون وتحقيق المصالحة المجتمعية المستدامة.