التحالف والروس.. انتهاكات تعطّل القانون الإنساني وتعزز المظلومية في سوريا
من البديهي أن ينظر سكان المناطق الخاضعة لتنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا، إلى التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، على أنه عدوان لا يقل وحشية عن أرباب الخلافة المزعومة، وربما يدور في أذهان المنكوبين تساؤل حول جدوى أعمال عسكرية أراقت دماء المدنيين بحجة “مكافحة الإرهاب”. فالإرهاب هنا، بمعناه الفضفاض والرائج دوليًا، بات مظلة تُشرعِن قتل الأبرياء.
أقر التحالف الدولي بتنفيذ غارات أودت بحياة مدنيين سوريين في مناسبات عدة، وقال إنه سيتحقق من وقائع أخرى، بينما نفى اتهامات بارتكاب مجازر جسيمة، آخرها ما حدث في قرية المنصورة بريف الرقة الغربي مطلع آذار الماضي، حين وثّق ناشطون مقتل عشرات المدنيين النازحين بقصف جوي، وصفه الجنرال الأمريكي ستيفن تاونسند بـ”الضربة النظيفة”.
الضربات “النظيفة”، المتصاعدة بشكل لافت في الآونة الأخيرة، بغية “مكافحة الإرهاب” و”تعزيز الديمقراطية والسلم الأهلي”، بحسب المفهوم الأمريكي للانتهاكات، تزامنت مع ضربات مماثلة من حيث النتائج والأهداف المعلنة لروسيا حليفة النظام السوري، وتقول منظمات حقوقية محلية ودولية، إنها عطّلت القوانين الدولية الإنسانية في سوريا وعززت من مظلومية المكوّن السنّي، ما قد ينعكس سلبًا على المنطقة ويكون سببًا في نشوء تنظيمات متطرفة جديدة، إذ إنّ “قتل الأبرياء كمن يربّي الذئاب” بحسب تغريدة لصحفي سوري في “تويتر”.
تركز عنب بلدي في هذا الملف على انتهاكات اتهم بها التحالف الدولي لمحاربة تنظيم “الدولة”، والتقييم القانوني لها، وأثرها على المجتمع السوري عمومًا، بالاستناد إلى آراء وخبراء حقوقيين ومختصين، مع الأخذ بعين الاعتبار تسليط الضوء على بنود قوانين ومواثيق دولية بهذا الخصوص، وأرقام إحصائية تكشف حجم المأساة.
مجازر بحق المدنيين تنصّل منها التحالف والروس
ست مجازر وقعت بحق المدنيين في مناطق متفرقة من سوريا خلال أقل من عام (على سبيل المثال لا الحصر)، اتهمت منظمات حقوقية محلية ودولية التحالف الدولي وروسيا بتنفيذها، وتنصل الجانبان منها في بيانات منفصلة.
مجزرة “توخار” في منبج
اتهمت مصادر حقوقية منفصلة، التحالف الدولي بتنفيذ غارات على بلدة توخار كبير الواقعة في منطقة منبج في ريف حلب الشرقي، 19 تموز 2016، وقال ناشطون إن 125 شخصًا معظمهم نساء وأطفال قضوا فيها، بينما أشار تنظيم “الدولة” إلى أن عدد الضحايا يفوق 160 شخصًا.
المتحدث باسم التحالف، العقيد كريس غارفر، عقّب على الحادثة بالقول إن “التحالف يدرس تقارير عن مقتل مدنيين” لكنه “يتوخى الحذر الشديد”، ليتأكد من أن الغارات لا تقتل سوى “مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية”، وأضاف “الغارة كان من المقرر أن تستهدف كلاً من المباني والمركبات التابعة لداعش، إلا أن تقارير وردت لاحقاً من مصادر مختلفة تحدثت عن احتمال وجود مدنيين بين مسلحي التنظيم الإرهابي يستخدمهم كدروع بشرية”
مسجد “الجينة” في إدلب
اتهمت مصادر حقوقية محلية، الولايات المتحدة الأمريكية بتنفيذ مجزرة بحق مدنيين في قرية الجينة بريف إدلب، 16 آذار 2017، راح ضحيتها بين 47 و 49 قتيلًا بحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان”.
ونفى الجيش الأمريكي أن تكون طائراته قد قصفت المسجد، وقال إنه استهدف تجمعًا لتنظيم “القاعدة” على بعد 15 مترًا من المسجد، وأضاف أن عددًا ممن سماهم الإرهابيين قتلوا.
متحدث باسم القيادة المركزية الأمريكية، زعم أن الموقع الذي تم استهدافه “دمّر”، وأن المسجد مايزال قائمًا، بينما أوضحت صور نشرها ناشطون تعرّض المسجد لدمار كبير، وقال المتحدث إن الموقع الدقيق لهذه الضربة “غير واضح”، مضيفًا أنه سيُفتح تحقيق في ما وصفها بـ “الادعاءات” بأن الغارة قد تكون أدت إلى سقوط ضحايا مدنيين.
مدرسة “المنصورة” في الرقة
اتهمت مصادر حقوقية محلية، التحالف الدولي، بتنفيذ غارات استهدفت مدرسة تؤوي نازحين في بلدة المنصورة بريف الرقة الغربي، 21 آذار 2017، تسببت بمقتل 33 إلى 53 مدنيًا بينهم أطفال، بحسب مصادر منفصلة.
“المرصد السوري لحقوق الإنسان” قال إن التحالف نفذ مجزرة راح ضحيتها 33 مدنيًا بينهم أطفال، في حين أوضحت منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (يونيسيف)، أن القصف الجوي “تسبب بمقتل 53 مدنيًا بينهم 12 طفلًا”.
قائد القوات الأمريكية في العراق، الجنرال ستيفن تاونسند، نفى أن تكون المدرسة تضم نازحين، وقال “لدينا مصادر مخابراتية مؤكدة ومتعددة، أبلغتنا أن العدو يستخدم تلك المدرسة، ولاحظنا ذلك ورأينا ما كنا نتوقع أن نراه”، وأضاف دون إيراد أدلة “أودّ أن أقول لكم إننا لم نستكمل تقييمنا لهذه الواقعة، أعتقد أنها كانت ضربة نظيفة”.
استهداف أحياء إدلب
اتهم ناشطون مؤسسات حقوقية، منها “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، الطيران الروسي بتنفيذ مجزرة في مدينة إدلب، 7 شباط 2017، راح ضحيتها 28 شخصًا معظمهم مدنيون.
وقال الجنرال إيغور كوناشينكوف، المتحدث الرسمي باسم الدفاع الروسية، تعقيبًا على الحادثة “طائرات القوات الجوية الفضائية الروسية لم توجه أي ضربة إلى مدينة إدلب السورية أمس أو هذا الأسبوع أو حتى منذ بداية العام، وكل الأنباء حول هذه الضربات مجرد كذب”، وأضاف “من اللافت للانتباه أن وسائل الإعلام ذاتها تقوم بفبركة مثل هذه التقارير الإعلامية وفقًا لقوالب موحدة، وبشكل دوري، ودائمًا تستند إلى ناشطين مجهولين من الدفاع المدني”.
قافلة الإغاثة في حلب
اتهمت المعارضة السورية ودول غربية، بينها الولايات المتحدة وبريطانيا، الطيران الروسي باستهداف قافلة إغاثة أممية غرب مدينة حلب، 19 أيلول 2017، ما تسبب بمقتل 32 شخصًا بينهم 12 متطوعًا في الهلال الأحمر، بحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان”.
ونفت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، الاتهامات الموجهة لموسكو بشأن هذه الضربة، وقالت إن الإدارة الأمريكية “لا تملك حقائق” تؤيد زعمها.
مستشفيات حلب الميدانية
اتهمت منظمات دولية، من بينها “المجلس الأطلسي” في واشنطن، القوات الجوية الروسية بتدمير ثلاث مستشفيات في حلب، في حملة تصعيد جوي استمر من أيلول وحتى كانون الأول 2016، راح ضحيته 440 مدنيًا بينهم 90 طفلًا وفق منظمة “هيومن رايتس ووتش”.
ونفى المتحدث الرسمي باسم وزارة الدفاع الروسية، الجنرال إيغور كوناشينكوف، استهداف مستشفيات حلب، وقال “إن تقارير قناة الجزيرة القطرية والمرصد السوري لحقوق الإنسان الذي يقع مقره في بريطانيا، وغيرها من المصادر المماثلة، حول قصف طائرات سلاح الجو الروسي لثالث مستشفى في حلب خلال 24 ساعة محض كذب”.
ورغم محاولات التنصل المتكررة من المجازر بحق المدنيين، إلا أن التحالف اعترف أكثر من مرة بسقوط ضحايا حرب، أبرزها ما جاء في بيان القيادة العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط (سنتكوم)، تشرين الثاني 2016، حينما قالت إن الغارات الأمريكية تسببت بمقتل 119 مدنيًا في سوريا والعراق منذ آب 2014.
التقييم القانوني للمجازر المنسوبة للتحالف الدولي
وللحديث عن التقييم القانوني للانتهاكات المنسوبة للتحالف الدولي، توجهت عنب بلدي إلى فضل عبد الغني، مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، للاستفسار حول آلية التعامل مع الانتهاكات بحجة “مكافحة الإرهاب”، وقال “أصدرنا كمًا كبيرًا من التقارير عن المجازر التي ارتكبتها قوات التحالف الدولي بحق المدنيين، وسجلنا مرتين قصفهم للمعارضة المسلحة”.
وأشار عبد الغني إلى أن “هناك مجازر كثيرة وقعت بحق المدنيين وقلنا إنها ترقى لجرائم حرب، لأن قوات التحالف دخلت سوريا على خلفية النزاع، ووجب عليها الالتزام بالقانون الدولي الإنساني، والتمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية”.
وعن محاولة تبرير التحالف أخطاءه بحجة “معلومات خاطئة”، قال عبد الغني “لا تهمنا التفاصيل في أنها حصلت على معلومات استخباراتية خاطئة من حلفائها على الأرض، وحدات حماية الشعب الكردية أو قسد (قوات سوريا الديمقراطية)، هم من يتحملون المسؤولية الكاملة”.
وتابع موضحًا آلية عمل الشبكة، “نصدر تقارير توثق المجازر، ونرسلها إلى دول مشاركة في التحالف، وبشكل أساسي إلى الخارجية الأمريكية، وهم على اطلاع كامل عليها”، منوهًا أن “الخارجية سألتنا مرارًا عن تفاصيل بعض الحوادث، وفتحنا هذا الموضوع عندما التقينا معهم مؤخرًا وحملناهم المسؤولية”.
وبناءً على التقارير التي أصدرتها الشبكة الحقوقية، اعترفت وزارة الدفاع الأمريكية (بنتاغون) بـ 71 حادثة لقصف قتل فيه مدنيون فقط، بحسب عبد الغني، مستطردًا “نملك ملفًا بالحوادث التي اعترف بها”.
بينما اعتبر منيف الطائي، مدير منظمة “أورنامو للعدالة وحقوق الإنسان” في سوريا، أن التحالف الدولي “لا يأبه لقانون الحرب”.
وأضاف في حديث إلى عنب بلدي أن “التحالف الدولي مكون من قرابة 60 دولة تصنف نفسها على أنها مدافعة عن حقوق الانسان، وهي لا تأبه لقانون الحرب بوجوب تحييد المدنيين عن الصراعات”، داعيًا الأمم المتحدة للتأكيد على هذه الدول بوجوب “التزامها الصارم بتحييد المدنيين”، محذّرًا أن تكرار المجازر “يقوض من مصداقية التحالف في حربه ضد داعش”.
ولا يمكن تقييم ما ارتكبته قوات التحالف من مجازر بحق المدنيين إلا كـ “جرائم”، بوجهة نظر الكاتب والباحث السياسي السوري ساشا العلو، موضحًا أن من واجب الأمم المتحدة التدخل للحد منها، وفتح تحقيق جدي بما يتعلق بطبيعة تلك “الجرائم”، خاصة وأنها تزامنت بين الموصل وسوريا بشكل مثير للشك، وتسببت بعدد كبير جدًا من الضحايا، بحسب تعبيره.
وأبدى العلو، في حديث إلى عنب بلدي، استغرابه من تصريحات رئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي، والتي لم تطالب بوقف العمليات العسكرية في الموصل، وإنما اعتبرت التصعيد الإعلامي ضد التحالف الدولي دعاية من قبل تنظيم “الدولة” لعرقلة العمليات العسكرية، في حين “لم نشهد في سوريا أي إدانة للمجزرة من قبل مؤسسات المعارضة الرسمية أو حتى النظام”.
نتائج التحقيقات في انتهاكات التحالف، لو فتحت، لن تظهر قريبًا وإنما قد تمتد إلى سنوات، كما رجّح العلو، وأضاف “لعل تجربة الانتهاكات للجنود الأمريكيين في العراق بعد الغزو عام 2003، والتي لم تتحول إلى قضايا وملفات حتى الانسحاب الأمريكي، قد تدلل على طبيعة التعاطي مع هذا النوع من الملفات”.
ويرى المختصون الثلاثة، أن الاعتراف بالانتهاكات، هي خطوة معنوية للتحالف في الاتجاه الصحيح، لكنها لن تكون كافية، وقال فضل عبد الغني إن الاعتراف “لابد أن تتبعه خطوات أولها توقف المجازر، وتدارك الأخطاء التي اعترف بها التحالف بالأصل، ومن ثم تعويض أسر الضحايا وتعويض الخسائر المادية، ومحاسبة ومحاكمة الضباط الذين ارتكبوا هذه الجرائم يجب أن تكون علنية ليرتدع الضباط الآخرون”.
ورأى ساشا العلو أن “المطلوب فتح تحقيق في الطبيعة الاستخباراتية لتحديد مواقع القصف، والكشف بشكل واضح عن المسؤول عن تلك العمليات واتخاذ إجراءات عملية للمحاسبة، مقابل تعويض المتضررين، واستحداث آليات جديدة في استهداف مواقع التنظيم، بحيث تضمن التقليل من خطر استهداف المدنيين، وخاصة أن التنظيم مايزال يسيطر على مناطق واسعة من العراق وسوريا، ما ينذر بتهديد حقيقي لمئات آلاف المدنيين”.
هل بات التحالف الدولي عدوًا للشعب السوري؟
ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بصور ضحايا المجازر المنسوبة للتحالف الدولي، في مناطق تنظيم “الدولة”، أو الغارات الأمريكية على الشمال السوري، ما خلّف كراهية ملحوظة للدول الغربية عمومًا، والتي لم تكتفِ بخذلان الثورة السورية، بل ساهمت في قتل المدنيين، وفق آرائهم.
فضل عبد الغني، اعتبر أن العداوة “تقاس بكمية الضرر والمتسبب به، فهناك عوامل متعددة وعناصر مختلفة تدخل في تفسير العداوة ودرجتها، وهو بحاجة إلى تحليل منفصل”، وأضاف “لكن درجة العداوة الأكبر بحسب الوقائع وليس الأماني، مازالت للنظام السوري باعتباره المتسبب الأول بالمجازر، وهو من استجلب كل هذه الجهات نتيجة قمعه وتوحشه”.
وصنّف عبد الغني تنظيم “الدولة” كأحد أبرز أعداء السوريين، باعتباره “غاية في العدمية والوحشية والتكفير ولا يمكن التعايش معه، وربما لو أنه امتلك مؤسسات الدولة وقدراتها أن يكون أكثر قتلًا ودموية من النظام السوري”، وفق رأيه.
وأشار الحقوقي السوري إلى أن القوات الروسية تأتي في مرتبة العداء الثالثة، باعتبارها تتعمد قصف المستشفيات والمدارس بشكل واضح، ووقفت إلى جانب النظام السوري لوجستيًا وسياسيًا، منتقدًا أيضَا الولايات المتحدة الأمريكية “ربما نحملها مسؤولية من جانب آخر، وهي إعلان رئيسها في تموز 2011 أن الأسد يجب أن يرحل، وعدم اتخاذه أي إجراءات لرحيله، وتجاوز خطوط حمراء بما فيها مسألة الكيماوي، وخذلانه للسوريين مرارًا”.
و”إذا اعتمدنا المنطق في تصنيف أعداء الشعب السوري، فإننا سنصنف ما لا يقل عن نصف العالم من المجتمع الدولي من جهات إقليمية إلى النظام وفصائل محلية تحسب نفسها على الثورة”، يقول الباحث ساشا العلو، مضيفًا “المشكلة ليست في العدو، وإنما في توزع دم الشعب السوري على أكثر من غريم ما يجعل المطالبة به صعبًا، أي كحادثة اجتماع القبائل لقتل محمد (ص)، كل وفق أدواته وآلياته”.
مظلومية “سنّية” تنذر بما هو أمرّ
يحذّر باحثون ومختصون في شؤون الجماعات الجهادية في سوريا، من نشوء تنظيمات متطرفة تعتاش على “المظلومية السنية”، التي وقعت على الأهالي الرازحين في مناطق سيطرة تنظيم “الدولة”، من قصف وقتل وتهجير تمارسه جهات أبرزها التحالف الدولي وروسيا و”قوات سوريا الديمقراطية”، في تجربة مشابهة لظروف نشأة تنظيم “دولة العراق الإسلامية” على أنقاض القصف الأمريكي قبل عقد من الزمن.
واعتبر فضل عبد الغني، أن “تنظيم داعش يعتاش على المجازر والمظلومية، وهي أحد أسباب نشوئه وارتفاع معدلات التطرف والغلو”، وأضاف “هناك استبداد وقمع وعدم تحقيق للعدالة في المجتمع، والمستبد يزيد من استبداده وتسلطه وهمجيته، ما يولد شعورًا بالظلم والانفجار، يؤدي إلى تشكيل تحالفات للانتقام، ترفع شعارات الدين والإيديولوجيات المختلفة لتنظم نفسها”.
وتحدث عبد الغني عن ظروف دخول “جبهة النصرة” إلى سوريا، “كان السوريون فيها معدودين، وانضم لها الشباب نتيجة استمرار المقتلة والمحرقة والكارثة السورية، وهو ما ينطبق على السوريين الذين اضموا إلى تنظيم الدولة”.
مدير منظمة “أورنامو”، منيف الطائي، وافق إلى حد بعيد ما قاله عبد الغني، معتبرًا أن “أحد أهم أسباب ظهور داعش هو الإفراط في استخدام القوة من قبل النظام ضد المعارضين في بداية الحراك في سوريا، وأحد أهم المبررات على المستوى الشخصي لأفراد التحقوا بتنظيمات إرهابية، هو إحساسهم بالظلم، وأن لا عدالة يقدمها العالم لهم، وأن الانتقام هو السبيل الوحيد الذي عليهم أن يسلكوه”، موضحًا “إذا ما أردنا التخلص من هذه الظواهر، علينا البدء بمرحلة عدالة انتقالية، تشعر أهالي الضحايا بنوع من الإنصاف ولو قليلًا”.
فيما رأى الباحث ساشا العلو، أنه “من الطبيعي أن تصب تلك الجرائم والانتهاكات في خدمة دعاية تنظيم الدولة، وتعزيز المظلومية لدى المكوّن العربي السني، الذي بدأ يشعر أنه مستهدف بشكل خاص من مختلف الجهات، سواءً من شركائه بالوطن أو من تنظيم الدولة، الذي ولد في هذا المكوّن، وإلى اليوم انتهاكاته تستهدف هذا المكون فقط، إلى التحالف الدولي الذي يستهدفهم بحجة التنظيم، ما قد يولد حالات تطرف باتجاهات مختلفة.. تلك الحالات التي تزداد مع سقوط كل ضحية وتنمو داخل المخيمات وتحملها ذواكر الأطفال”.
شهدت الدول الأوروبية خلال العام الفائت هجمات من نوع جديد، لشباب مسلمين من جنسيات مختلفة، سُمّوا إعلاميًا بـ “الذئاب المنفردة”، هاجموا مدنيين في ميادين ومحطات نقل عام وملاه ليلية، بهدف “نصرة الدولة الإسلامية” ومحاربة “الصليبيين في عقر دارهم”، وذهب باحثون إلى أن معظم هؤلاء ارتبطوا بتنظيم “الدولة” عاطفيًا لا عضويًا، ما عزاه باحثون إلى نجاح التنظيم في نشر دعاية “المظلومية السنية” في أوروبا.
أرقام “مهولة” لضحايا “مكافحة الإرهاب“
وبعيدًا عن الإحصائيات التي وثقها ناشطون سوريون، نورد إحصائيات منظمات ومؤسسات حقوقية وإنسانية، ذات صفة اعتبارية متخصصة في التوثيق، وتعتمدها مؤسسات وجهات دولية حقوقية، وأبرزها “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، وحصلت عنب بلدي منها على نسخة محدّثة عن ضحايا التحالف الدولي وروسيا في سوريا.
ووثقت الشبكة مقتل 1112 مدنيًا بينهم 414 طفلًا و133 سيدة، على يد قوات التحالف الدولي في سوريا، منذ تدخلها في 23 أيلول 2014 وحتى 29 آذار 2017، أي بمعدل يتجاوز مدنيًا واحدًا يقتل يوميًا بنيران التحالف في غضون 30 شهرًا مضوا.
كما وثقت الشبكة مقتل 4239 مدنيًا بينهم 1187 طفلًا و342 سيدة، على يد القوات الروسية في سوريا، منذ تدخلها في 30 أيلول 2015 حتى 29 آذار 2017، أي بمعدل نحو ثمانية مدنيين يقتلهم الروس يوميًا في غضون 18 شهرًا مضوا.
ووفقًا لما سبق، فإن 5351 مدنيًا بينهم 1601 طفلًا و475 سيدة قتلوا على يد التحالف الدولي والقوات الروسية في سوريا، حتى 29 آذار 2017.
وبالنظر إلى أرقام منظمة “Air wars” غير الحكومية، المتخصصة برصد غارات التحالف الدولي، فإنها لخصت حصيلة الغارات الجوية للتحالف على سوريا والعراق من آب 2014 وحتى 28 آذار 2017، بأعداد تراوحت بين 7581 إلى 10962 قتيلًا من المدنيين غير المقاتلين، الذين قضوا بفعل 1103 حادثة مسجلة بشكل منفصل، أي بمعدل نحو 11 مدنيًا يقتلهم التحالف يوميًا في البلدين في غضون 31 شهرًا مضوا.
والجدير بالذكر، أن كلا الطرفين: التحالف الدولي، وروسيا، برروا تدخلهم العسكري في سوريا بحجة “مكافحة الإرهاب” والقضاء على تنظيم “الدولة الإسلامية”، إلا أن الأرقام السابقة توضح أن المتضرر الأكبر من التدخل هم المدنيون بمن فيهم الأطفال والنساء.
القانون الدولي الإنساني تعطّله الأطراف الفاعلة في سوريا
يستند القانون الدولي الإنساني، والذي ينطبق في أوضاع النزاع المسلح، إلى جملة اتفاقيات ونصوص مكتوبة، ونركز هنا على اتفاقية “جنيف الرابعة” المبرمة في آب 1949، والمعنية بحماية السكان المدنيين في وقت الحرب، والبروتوكولات الملحقة بها، والتي أقر مجلس الأمن الدولي بها وبالاتفاقيات الثلاث المعنية في ذات الشأن، عام 1993، ما جعلها ملزمة لغير الموقعين على الاتفاقيات والمنخرطين في النزاعات المسلحة.
وتقضي الاتفاقية في المادتين 14 و15 بجواز إقامة نوعين من مناطق الحماية للمدنيين: مناطق ومواقع الاستشفاء والأمان والمناطق المحيّدة، والغرض منها هو حماية الجرحى والمرضى والعجزة والمسنين والأطفال دون الخامسة عشرة، والحوامل وأمهات الأطفال دون السابعة من عواقب الحرب، أي فئات من الأشخاص لا يتوقع منها أن تسهم في المجهود الحربي.
وتوجب الاتفاقية احترام وحماية المستشفيات المدنية المعترف لها بهذا الطابع والعاملين بها، وكذلك وسائط النقل البري والبحري والجوي المستخدمة في نقل المدنيين الجرحى والمرضى والمعاقين والنساء الحوامل والأطفال.
وتلزم المادة 23 من الاتفاقية كل طرف من أطراف النزاع بأن يكفل حرية مرور جميع شحنات الأدوية والمعدات الطبية ومستلزمات العبادة المرسلة إلى المدنيين المنتمين إلى طرف متعاقد آخر، حتى ولو كان خصمًا، وكذلك أي شحنات من الأغذية والملابس والمقويات المخصصة للأطفال والنساء.
وأورد القرار 2444، الصادر عن المؤتمر الدولي للصليب الأحمر والهلال الأحمر (فيينا 1965)، أربعة مبادئ أساسية لقانون النزاعات المسلحة، وفي عام 1968 صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على ثلاثة من هذه المبادئ باعتمادها للقرار 2444 ، ويتعلق مبدآن منهما بمسألة حماية السكان المدنيين.
وتنص مبادئ القرار الأممي على أنه “من المحظور شن هجمات على السكان المدنيين بصفتهم هذه، ووجوب التمييز في جميع الأوقات بين الأشخاص المشاركين في القتال وأفراد السكان المدنيين، بما يؤدي إلى تجنب إلحاق الأذى بالأخيرين قدر المستطاع، وحظر الهجمات على السكان المدنيين والأعيان المدنية”.
كما تورد المادة 51 من البروتوكول الأول الصادر عام 1977، والملحق باتفاقيات جنيف، أحكامًا تفصيلية بشأن حظر اتخاذ المدنيين هدفًا للهجوم، وتبين الفقرة الثانية من المادة أن أعمال العنف أو التهديد به، الرامية أساسًا إلى بث الذعر بين السكان المدنيين، محظورة، بينما تحظر المادة 54، استخدام أساليب للحرب ترمي إلى تهديد بقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، وتورد في فقرتها الأولى المبدأ الذي يحظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب.
وتحظر المواد 14و15و16 الأعمال الحربية الموجهة إلى أعيان محددة، وهي الأعيان التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، كالأشغال الهندسية والمنشآت المحتوية على قوة خطرة، وهي: السدود والجسور ومحطات توليد الطاقة الكهربائية والآثار التاريخية أو الأعمال الفنية أو أماكن العبادة التي تشكل التراث الثقافي أو الروحي للشعوب.
وتحظر الفقرة الأولى من المادة 17 من البروتوكول ذاته، إصدار أوامر بترحيل السكان المدنيين لأسباب تتصل بالنزاع، وتحظر الفقرة الثانية إرغام المدنيين في أي حال من الأحوال على النزوح من أراضيهم لأسباب تتصل بالنزاع.
وعليه، فإن معظم الأطراف الفاعلة في سوريا، ونلخصها بـ : التحالف الدولي، وروسيا، والولايات المتحدة الأمريكية، والنظام وحلفائه، وتنظيم “الدولة”، و”قوات سوريا الديمقراطية”، وفصائل من المعارضة المسلحة، لم تلتزم بمعظمها بالقانون الدولي الإنساني، وتحديدًا اتفاقية جنيف الرابعة والبروتوكولات الملحقة بها.
وذلك من خلال استهداف المدنيين بشكل مباشر، وقصف واستهداف المناطق الحيوية والخطرة كاستهداف جسور الرقة ودير الزور وسد الفرات من قبل التحالف، والمستشفيات والمدارس من قبل الروس، وإرغام المدنيين على النزوح خلال المعارك كما يفعل النظام السوري وحليفته إيران، وغيرها من الانتهاكات متعددة الأطراف، التي وثقتها منظمات دولية وسورية، أبرزها منظمة “هيومن رايتس ووتش”، ومنظمة “Air wars”، و”الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، عدا عن التقارير الدورية الصادرة عن الأمم المتحدة.
هجمات التحالف وقوانين الحرب
أفادت تقارير إخبارية عديدة ومجموعات حقوقية بارتكاب التحالف الدولي ضد داعش والذي تقوده الولايات المتحدة، انتهاكات لقوانين الحرب وقتله مدنيين في سوريا منذ عام 2014.
رغم أن الولايات المتحدة أقرت بمسؤوليتها عن بعض الهجمات، وإعلانها أنها ستحقق في الحوادث، ولكن إلى اليوم لم نسمع بقيام الولايات المتحدة التي تقود هذا التحالف بإنشاء لجنة للتحقيق في هذه المزاعم أو حتى البدء بتحقيق حيادي وشفاف، ولم يُنصف الضحايا أو عائلاتهم.
ينظّم قانون الحرب استخدام القوة ويقيدها في النزاعات المسلحة، وينصّ القانون الدولي الإنساني على أنه على أطراف النزاع التمييز بين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية.
يحظر القانون الدولي الإنساني الهجمات التي قد تسبب خسارة في أرواح المدنيين أو إصابتهم أو بالأعيان المدنية. يرد مبدأ التناسب في القانون الدولي الإنساني في النزاعات المسلحة أو قانون الحرب للحد من الضرر الناجم عن العمليات العسكرية على السكان والأعيان المدنية.
تلتزم الدول الأطراف في النزاعات المسلحة بالتحقيق في المزاعم ذات المصداقية عن ارتكابها جرائم حرب او انتهاكات خطيرة، وعليها الالتزام بملاحقة المشتبه بارتكابها بقصد إجرامي، أو نتيجة للإهمال.
لذلك على الولايات المتحدة إنشاء فريق للتحقيق في هذه الانتهاكات المزعومة، والالتزام بمبادئ الشفافية في هذه التحقيقات والإعلان عن نتائجها.
تصريحات ترامب السابقة التي تؤيد احتجاز الناس لأجل غير مسمى دون محاكمة، وتعذيب المعتقلين، وقتل عائلات “الإرهابيين” لا توحي أنه سيحترم قوانين الحرب والقانون الدولي الإنساني أو أرواح المدنيين في سوريا.
مع فشل ترامب الذريع بتحقيق عدة وعود متعلقة بالشأن الداخلي الأمريكي، قد تكون حساباته السياسية ووعوده لمنتخبيه بالقضاء على داعش خلال فترة قصيرة، أحد الأسباب في تصعيد الهجمات غير المدروسة أو ربما غير القانونية، بما يؤدي إلى تصاعد أعداد المدنيين الضحايا.
كما ورد في تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان: “للمرة الأولى قوات التحالف الدولي تقتل مدنيين أكثر من القوات الروسية في شهر كانون الثاني 2017. على الولايات المتحدة اتخاذ التدابير والاحتياطات اللازمة لضمان عدم سقوط ضحايا مدنيين في المستقبل، بموجب قوانين الحرب الدولية”.
على السوريين من وسائل إعلام وصحفيين وجماعات حقوقية، توثيق هذه الهجمات بشكل دقيق وحيادي وكامل قدر الإمكان، والتواصل مع الضحايا أو عائلاتهم وحفظ شهاداتهم والأضرار التي تعرضوا لها، بما فيها الأضرار المادية.
كما أن عليهم اللجوء إلى جهات حقوقية محلية ودولية لتجهيز دعاوى قضائية لرفع دعاوى بهذا الشأن، والمطالبة بمحاكمة مرتكبي الجرائم إن ثبتت، وبالتعويض المادي والمعنوي، والعلاج للمصابين.
يجب توجيه هذه الإجراءات ضد جميع مرتكبي الجرائم المزعومة في سوريا إن كان التحالف الدولي ضد داعش، أو القوات الروسية والسورية وغيرها.