التحرك العسكري التركي في عفرين وانتهاء حجج أمريكا
التحرك العسكري التركي نحو عفرين تأخر أشهراً عديدة، ومنذ انتهاء عملية درع الفرات في مارس 2017 تحدثت السياسة التركية عن عملية عسكرية مقبلة في عفرين ومنبج، ولكن السياسة التركية أرادت أن تثبت للشعب التركي، قبل غيره، أن وجهة نظرها نحو سوريا كانت ولا تزال وستبقى سياسة دفاعية، وإن أخذت مظاهر السياسة الهجومية.
وقد أثبتت كذلك أنها لا تستعجل في تحقيق أهدافها، وفي مقدمتها عودة الشعب السوري إلى أراضيه في مدنه وقراه، التي هُجر منها غصباً وتشريداً وتطهيراً عرقياً من حزب العمال الكردستاني (ب ك ك)، مهما كانت تسمية الكتائب والمليشيات العسكرية التي يستخدمها، سواء كانت قوات حماية الشعب (ب ي د) أو باسم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) أو باسم قوات حماية الحدود شمال سوريا، بجيش قوامه ثلاثون ألف مسلح، كما أعلن البنتاغون قبل أيام، فوجهة النظر التركية أن لا تتورط بعمل عسكري في سوريا، إلا بقرار سياسي واضح للشعب التركي وللعالم العربي والعالمي، وبقرار عسكري مدروس ومتوافق مع الرؤية الدولية، خاصة روسيا وإيران الدولتين اللتين لهما قواعد عسكرية وجيش وطيران وميليشيات عسكرية منتشرة على الأرض، ولا سيما في منطقة عفرين.
إن الدواعي الحقيقية للتحرك العسكري التركي معلومة للجميع وقديمة أيضاً، وهي منع إقامة دولة كردية جنوب تركيا، وهذا الهدف ـ وهو إقامة دولة كردية شمال سوريا، تسعى أمريكا لتحقيقه ولو على مدى سنوات، ولذلك كان اختلاق أو استثمار أو استغلال وجود «داعش» في شمال سوريا من قبل أمريكا والبنتاغون ـ لا ينطلي على السياسة التركية، فمنذ إعلان أمريكا تشكيل التحالف الدولي الستيني لمحاربة داعش في سبتمبر 2014 رفضت تركيا المشاركة فيه، إلا بعد الاطلاع على خططه وأهدافه، لأن تركيا كانت تعلم بالنوايا الأمريكية السياسية لتقسيم سوريا، وأنها تسعى لسرقة الأحزاب الكردية من الوصاية الروسية إلى الوصاية الأمريكية، وتقديم الدعم العسكري لها، حتى لو كانت على قوائم الإرهاب الدولي، لأن أمريكا تقدم مصالحها على مصالح الدول الأخرى، بما فيها الدول الحليفة لها مثل تركيا، حتى لو أدى ذلك إلى تهديد أمن حلفائها القومي، فالحجج الأمريكية بمحاربة «داعش» في كوباني وغيرها لم تكن تنطلي على تركيا، ولكن تركيا انتظرت حتى تفرغ أمريكا كافة حججها لدعم الارهابيين، سواء كانوا من «داعش» أو من حزب العمال الكردستاني وفروعه قوات حماية الشعب الكردي، أو قوات سوريا الديمقراطية، بل أنها صبرت حتى بعد أن اعلنت روسيا ودول أخرى القضاء على «داعش» في سوريا، وكان ذلك يعني عدم وجود ذريعة لأمريكا لتقديم أربعة آلاف شاحنة محملة بالأسلحة إلى قسد في الأشهر القليلة الماضية، فقد كانت تلك الأسلحة تكفي لإنشاء جيش قوامه ستون ألف مسلح، ثم جاء إعلان أمريكا قبل أيام عن تشكيل جيش قوامه ثلاثون ألف مسلح ليؤكد ذلك، بينما الهدف ليس تشكيل الجيش فقط، وإنما جعله نواة عسكرية لتأسيس الدولة الكردية المقبلة شمال سوريا، التي ستمنح الجيش الأمريكي حق إقامة قواعد عسكرية على أراضيها، حتى تصبح متوافقة مع القانون الدولي، كما فعل بشار الأسد ـ الفاقد لحق الحكم في سوريا ـ بتقديمه اتفاقا لروسيا بإقامة قواعد عسكرية على الأراضي السورية في طرطوس والحميميم وغيرها لإبقائه في الحكم.
إن التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الأمريكي تيلرسون التي قال فيها: «إن أمريكا لم تكن تسعى لإقامة جيش شمال سوريا». وكذلك تصريح رائد عسكري من البنتاغون قبل يومين بأن أمريكا لا تدعم قوات حماية الشعب في عفرين، وأن منطقة عفرين ليست من ضمن انتشارها العسكري لمحاربة «داعش»، هذه التصريحات تؤكد أن أمريكا أدركت جدية الموقف التركي بالقضاء على التواجد العسكري الارهابي في عفرين أولاً، وبالتالي فهي أي أمريكا تتناغم مع التصريحات العلنية للرئيس التركي أردوغان، ومع تصريحات مجلس الأمن القومي التركي، الذي قرر أن يمنع تشكيل أي جيش يهدد الأمن القومي التركي شمال سوريا، وعلى الأخص إذا كان هذا الجيش تابعاً للأحزاب الكردية الانفصالية الارهابية، فهذه الأحزاب استهدفت الأراضي التركية بالتفجيرات وتهريب الأسلحة، وقتلت أبناء الشعب التركي بمن فيهم المواطنون الأكراد في المدن التركية العديدة في السنوات الماضية.
وتركيا لن تنتظر حتى تبني أمريكا أوكار الفتنة والتهديد والإرهاب على حدودها، بل ستخوض حربا حقيقية، ولكنها في الوقت نفسه، لا تريد أن تريق قطرة دم واحدة، بدليل إعلان تركيا عن هذا التحرك العسكري قبل أشهر وأسابيع وأيام، لإعطاء الفرصة لكل من أخطأ سابقا واشترك في هذه الأعمال الارهابية للتراجع والانسحاب ومغادرة هذه المناطق، فليس الهدف مجرد الحرب ولا المباغتة العسكرية، وإنما ترك الفرصة والوقت لكل من يرغب في النجاة أن يغادر أرض الحرب قبل وقوعها.
وذهاب رئيس الأركان التركي الفريق أول خلوصي آكار، ورئيس المخابرات الوطنية التركية هاكان فيدان إلى روسيا يوم الخميس 18 يناير الجاري هو خطوة في الاتجاه نفسه، فتركيا تريد ان تسمع القيادة الروسية وجهة نظرها الأمنية والعسكرية في عفرين ومنبج وشمال سوريا عموما، وهي لا تسعى للاصطدام مع روسيا ولا مع إيران، ولا مع جيش بشار الأسد في ادلب ولا غيرها، وإنما هي في حالة الدفاع عن نفسها، بمنع الأخطار المحدقة بالأمن القومي التركي، ولا شك في أن وجهة النظر التركية العسكرية تجد آذاناً صاغية في موسكو أولاً، لأن روسيا ترفض وجودا عسكريا أمريكيا في سوريا، وهذا ما أعلنه وزير الخارجية الروسي سيرغي لابروف مراراً، وروسيا تطالب حكومة بشار الأسد برفض الوجود العسكري الأمريكي في سوريا، واعتباره غير قانون وعدواني، فمن مصلحة روسيا أن تقطع تركيا على أمريكا إقامة دولة كردية شمال سوريا، وبالتالي أن تقطع الآمال الأمريكية بإقامة قواعد عسكرية لها في سوريا.
أما إيران فلا شك أن التفاهم معها أكثر صعوبة حول ذلك، لأن إيران لديها اتفاقيات أو تفاهمات أمنية وعسكرية مع امريكا، ولو بتفاهمات أمنية سرية تولى أمرها وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري، في مباحثاته السرية أولاً مع إيران في سلطنة عمان، ثم بعد تحويلها إلى مباحثات علنية بحجة الملف النووي الإيراني قبل توقيعه في يونيو 2014، فينبغي للسياسة التركية أن لا تثق كثيرا بالمواقف الإيرانية، ولذلك فإن السياسة التركية مطالبة بأن تأخذ من موسكو كافة التعهدات التي تريدها في سوريا قبل تنفيذ العملية العسكرية في عفرين أولاً، ثم في منبج ثانياً، وحتى لو تم تأخير عملية منبج مرة أخرى، فإن ذلك سيكون مفهوم الأسباب، حيث إن أمريكا لن تتخلى عن بعض أمنياتها الضارة بتركيا، في حال دفعها أو تشجيعها الأحزاب والمنظمات الارهابية لمواجهة تركيا في منبج، بدليل أن نفي التصريحات الأمريكية عن تقديم دعم لـ (ب ي د) تعلق في عفرين فقط، ولم تتحدث عن منبج، بينما كانت الوعود الأمريكية القديمة تتعهد بسحب المقاتلين من منبج بعد طرد «داعش» قبل سنتين، عندما تعهدت امريكا بإخراجهم من غرب الفرات، لولا التعهدات الأمريكية في ذلك الوقت، التي قام بها وزير الخارجية التركي بتذكير أمريكا بهذه التعهدات مرة أخرى.
إن التحركات العسكرية التركية نحو عفرين ليست سهلة الخطوات أولاً، ولا سهلة المهمات ثانياً، ولكنه قرار الدفاع عن النفس من أعلى الدرجات، وما يطمئن هو أن الجيش التركي لا يتصرف كجيش احتلال داخل سوريا، وإنما يجعل من الشعب السوري نفسه، وبالأخص من الجيش السوري الحر صاحب المشروع والتحرير بوصفه صاحب الأرض، ثم يجعل من عودة اللاجئين إلى أراضيهم وإعادة الإعمار فيها أهدافا حقيقية للحملة، لأنها هي الضمانة الحقيقية لمنع عودة الارهابيين إليها، فأهل الأرض السورية وأصحابها هم اولى الناس بحمايتها واستثمارها وإعمارها.