بشار آخر سلالة الأسديين في الحكم
صمم حافظ الأسد سوريا، سلطة وجغرافيا وديمغرافيا، على مقاسات ورثته، وورثة ورثته، عبر عملية معقدة اشتملت مستويات عديدة، أمنية وعسكرية وحزبية، حيث قام الأسد بهندسة هذا التنظيم بالاستثمار بمعطيات داخلية وخارجية، والاستفادة من متغيرات، في البيئتين الداخلية والخارجية، على قاعدة تحويل التحديات إلى فرص.
اتبع الأسد الأب سياسة فرض الأمر الواقع بكل شيء، اعتبارا من جعل حزب البعث الحزب الحاكم للدولة والمجتمع، ودمج هذا الأمر في دستور الدولة، وتدجين المعارضة وتحويلها إلى مجرد ديكور ورديف للبعث في إطار ما سمي "الجبهة الوطنية التقدمية"، بالإضافة إلى صناعة هيكلة أمنية خاصة بمنظومة حكم الأسد، وليس لها أدنى استقلال وطني، بل إنه ذهب أبعد من ذلك عندما أعاد تصميم ديمغرافية العاصمة دمشق، عبر إنشاء عشرات المستوطنات السكنية لمؤيديه تحيط بدمشق من كل الاتجاهات، وجزء كبير منها يشرف على العاصمة ويضعها تحت سيطرته في حال حصول أي انقلاب على سلطة الأسد.
وفي السياسة الخارجية، قسّم الأسد المجتمع السوري إلى طرفين لا ثالث لهما، النظام الذي تقوده عائلة الأسد، ويملك القدرة على الانفتاح والتعامل مع العالم الخارجي، ويحترم مصالح الغرب تحديدا، عبر الحفاظ على أمن إسرائيل وضبط القوى المعادية لها.. والطرف الثاني هم معارضو الأسد، سواء من الإسلاميين أو اليساريين الراديكاليين، المعادين لإسرائيل والغرب، والذين يراهم هؤلاء وفق صورة نمطية قوامها التوتر والتسرع وافتقاد البراغماتية، ما يجعلهم غير مؤهلين لإدارة اللعبة السياسية لا في الداخل ولا مع العالم الخارجي.
ولم يكن ثمة ما يؤشر على إمكانية تعكير صفو هذه الهندسة الأسدية، وقد أبدت القوى الخارجية، العربية والغربية، استعدادها لضمان استمرار هذه الصيغة، من خلال دعمها للوريث بشار الأسد، مع يقينها أن هذا سيورث بدوره السلطة لابنه حافظ، الثاني، ضمن سلسلة لا أحد يعلم كم ستدوم وليس هناك مصلحة في إنهائها.
لكن أحد المتغيرات التي جاءت بها الثورة السورية، كان التدخل الروسي الذي جاء بهدف إنقاذ سلطة بشار الأسد من السقوط، واستثمار الفرصة لتثبيت مرتكزات الوجود الروسي في حوض البحر المتوسط، ولكن، وبما أن السياسة تحكمها في أحايين كثيرة؛ التطورات غير المقصودة، وليست الاستراتيجيات المبرمجة، وخاصة إذا كانت تلك الاستراتيجيات تسير وسط حقول ألغام كثيرة، فإن الوجود الروسي في سوريا يتحوّل شيئا فشيئا إلى دينامية لإنهاء سلطة آل الأسد وإلى الأبد.
ليس سرا أن السيطرة الروسية على مسرح الحدث السوري استلزمت إعادة تصميم وبناء هذا المسرح بطريقة جديدة، اضطرت معها إلى نسف مرتكزات التصميم الأسدي السابق، الذي بناه الأب، والذي لا يصلح لبناء وتطبيق الخطط الروسية. ويعتبر الجيش أحد هذه البنى التي تعمل روسيا على إعادة بنائها، عبر خليط من مليشيات وفصائل ومكونات مختلفة. ولا زالت التركيبة النهائية للجيش غير واضحة، لكنها لن تكون كما كانت في السابق، وأقل ما يقال عنها أنها فوضوية إلى حد بعيد، كما أن البنية الأمنية مؤهلة لمثل هذا التغيير، في ظل الاستقطاب الحاصل بين روسيا وإيران حول السيطرة على الأجهزة الأمنية وتبعيتها لهذا الطرف أو ذاك، وما يحدثه هذا الأمر من صراعات بين هذه الأجهزة كانعكاس للصراع الدائر بين المشغلين.
وفي جميع التسويات التي أجرتها روسيا مع المجتمعات المحلية الثائرة على سلطة الأسد، جرى الاتفاق بين روسيا وهذه المجتمعات، سواء عبر الضمانات التي قدمتها روسيا، أو من خلال صيغة العلاقة بين هذه المجتمعات والدولة السورية، دون اعتبار أن سلطة الأسد هي الممثل المطلق والنهائي للدولة السورية، وتأكيد البعد الخدمي لهذه العلاقة مقابل المحافظة على الأمن، وهذا النوع من العقود، حتى لو لم يتم التصريح به، هي عقود مرحلية وليست دائمة، وإن كانت تنطوي على تنازلات معينة فهي تصب في مصلحة الخطة الروسية للسيطرة على الأوضاع في سوريا أكثر من مصلحة سلطة الأسد، التي لم تخف عدم رضاها وتبرمها من هذه الترتيبات.
ومثل هذه الإجراءات، يتوقع أن يتم سحبها على مختلف المجالات في سوريا، وخاصة الاقتصادية، وصياغة الدستور، وعلاقات سوريا الخارجية وتوجهاتها السياسية وطبيعة المحاور التي تنخرط بها، وبما أنه يستحيل على روسيا إعادة إنتاج سوريا ما قبل 2011، فإن أي بنية سترسو عليها سوريا الجديدة لن تكون مناسبة لاستمرار سلطة آل الاسد.
ولعل ما يدعم هذه الفرضية، أن روسيا انخرطت بشبكة معقدة وواسعة من التفاهمات مع الأطراف المحلية والدولية، ولم تستطع تحقيق سيطرتها في سوريا إلا بناء على هذه الشبكة من العلاقات، التي لا يمكن تطويرها مستقبلا دون إجراء ترتيبات جديدة على الواقع السوري.
وتأتي عملية إعادة الإعمار، التي بدأت روسيا في الترويج لها، كواحدة من التغيرات التي ستفضي إلى قطع سلسلة حكم سلالة الأسد، ورغم التعنت الروسي الرافض لربط العملية بحصول تغييرات سياسية، إلا أن روسيا ستكتشف عاجلا وليس آجلا استحالة مثل تحقيق هذا الأمر، في ظل وجود بشار الأسد على رأس السلطة، ذلك معناه مغامرة اقتصادية وجيوسياسة لن تقدم عليها دولة لدى مسؤوليها ذرة عقل.