صورة مصممة بالذكاء الاصطناعي
صورة مصممة بالذكاء الاصطناعي
● مقالات رأي ٢٤ ديسمبر ٢٠٢٥

الاستبداد السياسي يعيد إنتاج نفسه مجتمعيًا: هل يحرّض التحرير على تحوّل اجتماعي؟

إن لكل مملكة استبداد علائق وتوابع تطفو على السطح بعد زوالها، فلا يمكن الحديث عن استبداد النظام البائد بمعزل عن العوامل التي سهّلت صناعته واستحكامه، ولأن حدث التحرير ليس مجرد انتقال سياسي مفصول عن سياقاته الأخرى، وحتى يكون نموذجًا متكاملًا فلا بدّ من اشتباكه مع الواقع الاجتماعي بعد فضّ اشتباكه العسكري. هنا يبرز سؤال محوريّ: هل انتهى الاستبداد السياسي ليحلّ مكانه فصل جديد من فصوله عنوانه الاستبداد المجتمعيّ؟ وهل نكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة؟

فلول الموروثات والأفكار.. إرث يستوجب النبذ

بعد التحرير جرى حديث تداولته الأوساط الثورية حول أولى موجبات الاستقرار والتي تتمثل بعزل ونبذ فلول النظام ممن علا صوت تحريضهم وإسنادهم للإجرام، لكن ومن زاوية تأمل، أليس من الاتساق أيضًا نبذ الكثير من الأفكار الموروثة بوصفها إجرامًا صامتًا لا صوت له؟

إن للاستبداد نزعة تمددية لا تنفذ إن لم تجد ثغرة القبول المبدئي وقاعدة فكرية هشة واستعدادًا مجتمعيًا لها، ومع زوال النظام البائد الذي اعتمد سياستي التخويف والتجهيل كدعّامتين لإطالة أمده، كان لزامًا أن تبيد معه كل مقومات الاستبداد، ولا تكون أي رحلة اجتثاث ظلم ممتد بلا آلام وأعراض انسحابية، خصوصًا بعد سنوات طويلة من الإمعان في الفساد وصنوف الكوارث المركبة التي طرأت على الإنسان حتى تشظّت إنسانيته، ثم إن الفراغ الذي يعقب الظلم يُسلّمنا إلى مخيال المجهول: ما البديل؟ هل للظلم بديل حقًا؟

وعلى افتراض أن العامل الأخلاقي في أي أزمة إنسانية الأصل فيه ألا يغيّبه أي ظرف مهما بلغت قسوته، إلا أنه قد ينحسر في ظل منظومة قمعية كالتي سلفت، وبسقوط هذه المنظومة تسقط معها كل الأعذار، غير أن التعافي أمر ليس بالسهل السريع، إنما هو رحلة شاقة وطويلة تتطلب استنهاض وتضافر كافة الجهود.

حريّ بالإنسان الحر والراكب في رحلة الإعمار تفعيل وازع الوعي الذاتي لاستدماج منهجيات تفكير جديدة تناسب واقعه الجديد، كتعوّد الجماعة مقابل الفردية المطلقة، وتمكين المهمّش مقابل لغة الإقصاء، وإحلال الاندماج بدل المناطقية، وتشجيع التغيير مقابل غلبة الترهيب، وإعمال التفكير النقدي بدل تسرّع الانسياق، وتعلّم آليات التعافي مقابل عقلية المظلومية.

سلطات غير مرئية

إن داخل كل مجتمع سلطة عميقة حاكمة تنضوي تحت الأسرة، وكون الأسرة أهم مساحات الاختبار لأي تغيير جذري، فهي تشكّل عامل خطر كونها تكرّس ضمنيًا لأي استبداد لاحق، فمحيط التنشئة إذا اعتمد التسلّط الأبوي كمرتكز تربوي فإنه يؤسس لتسلّط مبكّر أوسع في الأفق البعيد.

وفي تلكم المحيطات محاكم علاقات إنسانية بها قضايا ومظالم تبقى معلّقة أو طيّ الكتمان، تتسرّب آثارها بالتعاملات اليومية وتُطبَّع مع مرور الزمن إلى أن تصبح مألوفة في كافة أشكال الحياة.

يرى الاستبداد الاجتماعي كأداة استغلال للسلطة تستخدمها فئة معينة في أي تشكيلة بشرية ضد فئة أخرى في غير وجه حق دون رقيب أو حسيب، ولأن عملية الإصلاح عملية تراكمية وجماعية بالضرورة تشترك فيها كل مكونات المجتمع، فالرقابة والمحاسبة أفعال تتدرج وتتبادل تباعًا من الأفراد على أنفسهم، ومن النخب على من يؤثرون بهم، ومن الإعلام على من يصيغون خطابه، ومن المؤسسات الدينية على من يتحدثون بلسانها، ومن مؤسسات المجتمع المدني على من ينشطون فيها.

المرأة وتد العدالة الاجتماعية

في معرض إجابته عن سؤال حول ضمان حقوق المرأة السورية أمام منتدى الدوحة قالها الرئيس السوري أحمد الشرع ممازحًا: “ليس هناك خوف على المرأة السورية، خافوا قليلًا على الرجل السوري”.

عندما نأتي على ذكر المرأة في الثورة يجب أن نذكر مرورها بثورتين: ثورة على الاستبداد السياسي، وثورة على الاستبداد الاجتماعي.

إن الثورة فجّرت في المرأة السورية طاقات كامنة لم يسبق لها أن تظهر تحت أي ظرف آخر، ومنحتها تجربة ذاتية زاخرة بالبطولة والتضحيات ومواجهة التحديات.

إن الانتقال من قيم مفروضة إلى قيم مختارة، يحتاج شجاعة المراجعة وإعادة التمثّل، فليس من المعقول إعادة تدوير أساليب حقبة الماضي بأن تُفرَّغ الشعارات من مضمونها فتتحول إلى تناقضات أول ما تُطبَّق تكون على المرأة، ولم يعد مقبولًا حرمانها في بعض الأوساط من تولي زمام السيطرة والمسؤولية على مساحات طبيعية في الحياة الأصل فيها أنها تبادلها التأثير والتأثر، وفي تحقق ذلك تُدفع لأن تتطرف وتستبد في مساحتها الوحيدة المشروعة، هذه المساحة التي قولبها فيها المجتمع وضيّق عليها خياراتها وحاصرها في اختياراتها لمسوّغات كثيرة لا يسع المجال ذكرها هنا، في حين أن المرأة السورية اليوم بات لها دور أساسي تكاملي في صياغة عمليتي السلام والبناء، وهذا منوط بإنصافها وتمكينها وتصديرها.

ليس ملف المرأة وحده من يحتاج مساءلة ومكاشفة من المجتمع والحكومة على حدّ سواء، هناك الكثير من القضايا التي تنتظر هممًا صادقة تسعى في مناكبها.

مسؤولية الدولة في رعاية المسار الاجتماعي الجديد

يجب على الدولة أن تتبنى استراتيجية جرد وتجريد على خط الإنتاج الفكري، باعتبار نجاح تجربتها الحديثة مرهونًا بأي عملية استثمار في رفع الوعي الجمعيّ. لأن نواة أي تغيير حقيقي تبدأ من كينونة الإنسان نفسه مرورًا وتوسّعًا بدوائر تحيطه وصولًا إلى السلطة التي منحها شرعية إدارة شؤونه، فالوعي هو مبتدأ ومنتهى هذه العملية، لذا تأتي مسؤولية إرساء قوانين أو التعديل عليها في إطار حماية الأفراد لا نيابة عن وعيهم أولوية قصوى، ثم اعتماد الإعلام والتعليم كأدوات وظيفية لتيسير هذه المرحلة البنائية.

إرادة تغيير وفرصة تاريخية للتأثير

إن إعادة تنصيب برمجة اجتماعية جديدة قائمة على التكافل والصلابة المجتمعية هو من الأهمية بمكان، إذ إنه جذوة لإشعال مخيال عربي وعالمي جديد يليق بسوريا وشعبها، بعد حالة المسخ القسري التي أصابتهما طيلة تولي النظام البائد سدّة الحكم، ويبقى جوهر سؤال المصارحة لأنفسنا:

ماذا نصادق من موروثنا في العقود السابقة، وماذا نفارق منه؟

 

الكاتب: آمنة عنتابلي
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ