أمهاتنا.. مصدر قوة لا ينقطع
ننهار وينهار العالم من حولنا وتزلزل الأرض من تحت أقدامنا وتثور البراكين من فوق رؤوسنا وتضيق الأرض بنا وتبقى الأم شامخة وملجأً لنا عند الشدائد والمصائب. لا أعلم عن البقية، من أين يستمدون قوتهم لكني أتكلم عن نفسي أني أستمد قوتي من صبر أمهاتنا، أمهاتنا اللاتي فقدن أولادهن بالمعتقل، أمهاتنا اللاتي صار أولادهن بخانة المفقودين، أمهاتنا اللاتي سقط أولادهن بين شهيد وجريح ومبتور اليد ومبتور الساق، أمهاتنا الجبل الشامخ. أمهاتنا يعلمن جيداً أننا نحن معشر الرجال الذين ندعي القوة والعظمة والجبروت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار والسقوط.
جميعنا نرى في أمهاتنا مصدر قوة وضعف، قوتها في صبرها وجلدّها على الصعاب والمشاق، وتحملها للألم الذي يعتصرنا ونخبئه في أعماقنا، ولكنها تشعر به وتدركه بأمومتها ومشاعرها الجياشة وعاطفتها الحنون فتلجأ إلى المساعدة والعون دون طلب أو إذن. هي الحضن الرؤف الذي أخذ على عاتقه مساعدة وحماية جميع أبنائه دون استثناء، ومصدر قوتنا في ثباتها وصبرها على أهوال الأمور وشدائدها. فكم من أم فقدت ولدها في سجن ومعتقل، وكم من أم فقدت أمها شهيد أو فقيد، تحمل في قلبها ألم وحزن لا تحمله الجبال ولا تستطيع، ومع ذلك تحمله أمهاتنا وتخبئه دون أن تبديه لأحد، لأنها تحاول أن تساعد وتصبّر من حولها على شدة الفاجعة وصعوبتها. فالأب يحزن وكذلك الأخ والأخت، فلا يجدون أقوى من عزيمة الأم وصبرها ومساعدتها لهم رغم كونها الأشد وجعاً. فهي فقدت فلذة من كبدها تجتاحها عواطف الحزن والغم، مع ذلك لا تبديها خوفاً على الأخرين من أبنائها، وتثبيتاً لقلوبهم على تحمل الصعاب والفقد.
أجد في أمي مصدر قوة لا ينقطع ولا يتأثر بما يجري من حوله رغم الشدّة وصعوبة العيش في بلد ينهش فيه القوي الضعيف، وتضيع حقوق أبنائه بين مغتصب وجلاد ومتآمر وخائن. كل ذلك تجده في سوريا، البلد المتمزق والمتأكل والمظلوم شعبه تحت مباركة ورعاية دولية وأممية. كل ذلك يهدف إلى تحطيم معنويات أبنائه وتمزيق بلادهم وتحطيم أحلامهم ومعنوياتهم، فأنت حين تنظر إلى ذلك البلد المغصوب أرضه وحريته، ستجد الكثير ممن تحطمت أحلامهم وآمالهم وأخذت تتبدد مع الظلم الراسخ فوق الأرض والشعب. لكن بين ثنايا ذلك الظلم والقهر والخوف، ستجد دائماً أشخاص يبنون الأمل ويعيدون الثقة إلى أبناء سوريا. تلك المحاولة تأتي من أشدهم خوفاً وحزناً، تأتي من الأمهات أولاً، تستعجب أمرها وتحسدها وتشجعها كل ذلك في آن واحد، فلا يوجد في سوريا أم لم تفقد أحد أبنائها أو أقاربها. لن تجد في بلدي أي أم لم تفجع على غالي، لن تجد هناك أي أم لم تنزف دموعها دماً ونار، وصدقني لن تجد هناك في سوريا أي أم من أمهاتنا لم يجتاح الحزن والقهر والخوف قلبها.
هذه هي حالها، ومع ذلك ورغم الحزن والخوف والقهر، فهي كانت وستبقى أول مدرسة للصبر والشجاعة والثبات في وجه ذلك كله، فهي التي وقفت في وجه الظالم وتحملت ما تحملته ولا زالت تتحمل ذلك كله لأجل الباقي من أبنائها. فرغم سنين الظلم والحقد المنتشر فوق أرض بلدي لم تفقد الأم الأمل والشجاعة، فهي تتضرع إلى الله كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة ليحمي الباقي من أبنائها، وتسأله الرحمة لمن فقدتهم منهم. وتُعلم أولادها الصبر والشجاعة والثقة بأن الله حق، وأن الحق سيدوم وستزول الغمة عنهم وتتغير أحوالهم وتتحقق أحلامهم وآمالهم بالله فقط. ثقة جاءت من الإيمان الذي في قلبها الحزين، ثقة بالله لم تفقدها أبداً، بأن ما يصيبها ويصيب أبنائها من خوف وفقد وفقر، فهو كله من عند الله ليجزيهم بخير من لدنه. تعلم أبنائها بأن الصبر حكمة، وأن النصر آت لا محالة، وأن الله معهم وبجانبهم رغم كل الأهوال والشدائد.
تعلمني أمي بأن لا أخسر آخرتي إن كنت قد خسرت كل شيء في دنياي، فما عند الله أكبر وأعظم. تعلمني أمي بأن أخي لم يمت ولم يفارق الحياة حين تقول إنه شهيد في الجنة يقف على أبواب الرحمن يسأله الجنة لمن خلفه من إخوانه. حين أبكي تعلمني أمي أن الدموع لا تُخفف شيئاً من الأوجاع بقدر ما يخففها الثقة بالله وذكره والنجدة به والتضرع إليه. تقول بأن كل ما حدث ويحدث هو اختبار من عند الله لعباده الصابرين فكن منهم يا ولدي واعلم أن الخير من الله، وأن الشر من الأنفس الضعيفة ومن الشيطان فإيّاك إياك أن تفقد ثقتك وتوكلك على الله فيما يصيبنا ومن حولنا، واعلم أن الظلم لا يدوم وإن طال أمده. أمهاتنا قُوتنا، حين تسمع منها ذلك الكلام تتشجع وتصبر، ولكن حين تنظر في عينيها وفي الحزن الساكن فيهما، تستحقر كل أمر عظيم في عينيك، فمصيبتها أجل وأعظم وأكبر من أي مصيبة سيمر بها إنسان على وجه الأرض، ومع ذلك تصبر وتتعلم من صبرها الكثير والكثير في طريق النجاة. صدقني حين أقول لك لا توجد أي كلمة من كلمات العالم أجمع، تخفف من حزن الأمهات الذين فقدوا أبنائهم وأحبابهم. لكنك ستجد في عيون الأمهات ألف مواساة تخفف من حزنك، وستجد في كلماتهن الدواء لكل داء قد يصيبك، أسأل الله تعالى أن يخفف عن أمي وجميع الأمهات ما أصابهن من حزن وألم، وأن يبدلهن بخير من لدنه يفرح به قلوبهن ويعيد البسمة إلى شفاههن.