فضل عبد الغني: عزل المتورطين أساس للتحول الديمقراطي في سوريا
فضل عبد الغني: عزل المتورطين أساس للتحول الديمقراطي في سوريا
● مقالات رأي ٣ نوفمبر ٢٠٢٥

فضل عبد الغني: عزل المتورطين أساس للتحول الديمقراطي في سوريا

قال "فضل عبد الغني" مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في مقال بعنوان "عزل المتورّطين وانتهاج عدالة انتقالية بشأن الضحايا"، إن انهيار الأنظمة الاستبدادية يشكّل تحدّياً بالغاً للمجتمعات في مساري التحوّل المؤسّسي وتحقيق العدالة، وفي السياق السوري، وبعد أكثر من نصف قرن من سيطرة نظام الأسد، تغدو كيفية معالجة إرث الانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان بالتوازي مع بناء مؤسّسات ديمقراطية مسألةً بالغة الأهمية.


 ينطلق هذا المقال - الذي نشره موقع العربي الجديد - من فكرة مفادها بأنَّ إقصاء المتورّطين في الانتهاكات الجسيمة من مؤسّسات الدولة ضرورة قانونية وأخلاقية متجذّرة في مبادئ القانون الدولي وآليات العدالة الانتقالية. فالتحوّل الحقيقي لا يكفيه تغيير النظام، بل يقتضي تفكيك البنى التي مكّنت من ارتكاب الفظائع وإعادة تأسيس مؤسّسات تقوم على احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون. ومن دون معالجة حضور الجناة داخل هياكل الدولة، تفقد بقية أدوات العدالة الانتقالية فاعليتها، ما يفرغ العملية من مضمونها ويقوّض مسار الانتقال برمّته.

يبدأ الإطار النظري للإصلاح المؤسّسي في سياقات ما بعد الاستبداد بإدراك كيف تُحوّل الأنظمة القمعية مؤسّسات الدولة من حامية للمواطنين إلى أدوات قمع، وتمثّل الحالة السورية مثالاً بيّناً على التسييس والفساد المُمنهجَين اللذين استشريا في معظم مؤسّسات الدولة، إذ تمدّدت الأجهزة الأمنية لتغدو أداةً للقمع الوحشي تعمل بوصفها ذراعاً تنفيذية مباشرة، وفرضت السلطة التنفيذية هيمنتها على السلطتَين التشريعية والقضائية، فجرّدت القضاء من استقلاله وحوّلته أداةً سياسيةً لإصدار أحكام تعسفية وقمع المعارضة.

"من دون معالجة حضور الجناة داخل مؤسّسات الدولة، تفقد العدالة الانتقالية معناها وفاعليتها

ولا يقتصر هذا الانهيار البنيوي لنزاهة المؤسّسات على أفعال أفرادٍ معزولين، بل يشمل شبكات واسعة من التواطؤ، وتؤكّد الدراسات المقارنة للأنظمة القمعية أنَّ بقاء هذه الأنظمة يعتمد على منظومات من المتعاونين تتجاوز مرتكبي الجرائم المباشرين لتطاول هياكل مؤسّسية واجتماعية متعدّدة. وتتضمن شبكة التواطؤ عناصر من الأجهزة الأمنية والعسكرية، وقضاة شرعنوا القمع بأحكامٍ تعسّفية، وموظّفين حكوميين سهّلوا الانتهاكات بإجراءاتٍ إدارية، فضلاً عن شخصيات اقتصادية وثقافية وفنية قدّمت دعماً رمزياً واجتماعياً للنظام. ويولّد هذا التواطؤ المتعدّد الطبقات ما يمكن تسميته "غطاء اجتماعيّاً" يطبع الانتهاكات، ويمنحها مظهراً من القبول يمكّن من استمرارها.
ويقتضي تحويل المؤسّسات الاعترافَ بأنَّ الانتهاكات لم تكن محصّلة قرارات فردية معزولة اتخذها قادة النظام فحسب، بل نتاج منظومة واسعة من التواطؤ شملت عشرات الآلاف داخل جهاز الدولة. ومن ثمّ، يتطلّب الإصلاح المؤسّسي نهجاً شاملاً لا يكتفي بمساءلة الجناة المباشرين، بل يطاول البنية التحتية التي مكّنت ارتكاب الانتهاكات المنهجية. وتنبع الضرورة الأخلاقية لهذا الإصلاح من الإقرار بأنَّ إبقاء المتّصلين بانتهاكات الماضي في مواقع النفوذ يعيد إنتاج ثقافة مؤسّسية مسؤولة عن تسهيل الانتهاكات، ويحول دون حدوث تحول حقيقي، ويهدّد استقرار أي انتقالٍ ديمقراطي.
ويُرسِي القانون الدولي أسساً واضحة لاستبعاد المتورّطين في انتهاكات حقوق الإنسان من المناصب العامة استناداً إلى مبدأ ضمان عدم التكرار. ويتجاوز هذا المبدأ، الذي يكتسب وزناً خاصاً عقب فترات الانتهاكات الجماعية، مجرّد وقف الانتهاكات إلى إلزام الدول بإعادة هيكلة مؤسّساتها على نحوٍ يحول دون تكرار الفظائع. ويُجسِّد عزل المتورّطين من المواقع الرسمية تطبيقاً مباشراً لهذا الالتزام، إذ إنَّ استمرارهم يرسّخ الثقافة المؤسّسية التي سهّلت الانتهاكات ابتداءً.
ويتجلّى هذا الإطار القانوني في عدد من الصكوك والفقه الدولي والإقليمي، فالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يوجب على الدول اتخاذ تدابير تشريعية ودستورية وإدارية تكفل إعمال الحقوق وحماية الأفراد من الانتهاكات، مع جواز فرض قيود ضرورية ومشروعة في سياقات ما بعد النزاع بشرط احترام ضمانات الإجراءات القانونية الواجبة. كما قضت هيئات قضائية إقليمية بوجوب قيام الدول بإعادة تنظيم أجهزتها والهياكل التي تُمارَس من خلالها السلطة العامة بما يضمن الاحترام الكامل والفعّال لحقوق الإنسان. وفي الاجتهاد الأوروبي لحقوق الإنسان، ثبّتت أحكام في قضايا بارزة أنّ تدابير "التطهير" متى نُفِّذت وفق ضمانات المحاكمة العادلة تتفق مع معايير حقوق الإنسان، بل قد تُعدّ لازمة في بعض السياقات لصون الأنظمة الديمقراطية من أخطار الفساد البنيوي.
وفي إطار العدالة الانتقالية، تبرز عمليات التدقيق والتطهير أداتَين محوريتَين لإصلاح مؤسّسات الدولة. فالتدقيق هو تقييم للنزاهة والملاءمة الوظيفية يهدف إلى التأكّد من أهلية الأشخاص لتولّي المناصب العامة في النظام الجديد بما ينسجم مع قيمه ومعاييره. أمَّا التطهير، المشتق من "lustratio"، فيرمي إلى تنقية المؤسّسات من إرث السلطوية عبر إبعاد من رسّخوا ثقافتها القمعية. وتخدم هاتان الآليتان غايات متكاملة: استعادة ثقة الجمهور بإقصاء المتورّطين، وتحويل المؤسّسات المسيئة إلى كيانات وطنية حامية للحقوق، وتفكيك البنى التي أتاحت وقوع الجرائم، والحيلولة دون ارتدادٍ سلطوي بأشكال جديدة.
ويُعدّ التمييز بين التدقيق وبين المتابعة الجزائية مسألةً حاسمة لفهم شمول الإصلاح المؤسّسي، إذ إنَّ التدقيق إجراءٌ إداري/سياسي لا يستهدف إيقاع عقوبات جنائية، بل يركّز في الصلاحية الأخلاقية والوظيفية لشغل المنصب العام. ويملأ هذا التمييز فجوة الإفلات من المساءلة التي قد لا تُعالجها الإجراءات القضائية وحدها، من خلال عزل أشخاص لا تبلغ أفعالهم عتبة الإدانة الجنائية، لكنَّها مع ذلك تقوّض ثقة الجمهور وتهزّ شرعية الدولة الديمقراطية.

التحوّل الديمقراطي لا يكتمل ما لم يُستعاد القضاء إلى استقلاله، والإدارة إلى نزاهتها
يتجاوز البعد الأخلاقي للعزل الإداري نطاق الالتزامات القانونية ليشمل واجباتٍ أساسية تجاه الضحايا ومشروع المصالحة الاجتماعية الأوسع. فبالنسبة إلى ملايين المتضرّرين، يُعدّ استمرار وجود المتورّطين في الجرائم داخل مؤسّسات الدولة تذكيراً يومياً ومؤلماً بالظلم، بما يكرّس ما يسمّيه باحثون في حقل العدالة الانتقالية بـ"الإيذاء الثانوي". ويغذّي هذا الوضع مشاعر الألم والغضب ويُظهر بوضوح أنَّ معاناة الضحايا لم تحظَ باعترافٍ كافٍ. في المقابل، يشكّل العزل الإداري لهؤلاء الأفراد تعويضاً رمزياً وعملياً في آنٍ معاً ينطوي على اعترافٍ رسمي بمعاناة الضحايا واستعادةٍ لكرامتهم وتأكيدٍ لمكانتهم مواطنين ذوي حقوق.
وتتجلّى الصلة بين التطهير المؤسّسي وبناء السلم الاجتماعي في منع دورات الانتقام وترميم الثقة العامة في مؤسّسات الدولة، فعندما تفشل السلطات في إقصاء الجناة المعروفين أو مساءلتهم، يتولّد فراغٌ خطير في منظومة العدالة يفتح الباب أمام الانتقام الفردي ويُمهّد لدوراتٍ جديدة من العنف تُهدّد الاستقرار وتُقوّض آفاق المصالحة الوطنية. وعلى النقيض من ذلك، تُعدّ عملية التدقيق المنهجية والشفافة أداةً أساسيةً لبناء السلام، إذ تُظهر للمجتمع أن لا أحد فوق القانون وتُقوّض ثقافة الإفلات من العقاب التي غذّتها الأنظمة السابقة.
وعليه، ينبغي فهم الإصلاح المؤسّسي بوصفه متشابكاً عضوياً مع كرامة الضحايا واحتياجاتهم، فالاعتراف بالمعاناة، عبر إبعاد الجناة عن مواقع السلطة، خطوةٌ لازمة لاستعادة الثقة والشرعية في المرفق العام. ويُقرّ هذا النهج بأنَّ العدالة الانتقالية لا يمكن أن تنجح إذا أبقت على الهياكل البشرية التي مكّنت الانتهاكات؛ لأنَّ ذلك يبعث رسائل متناقضة عن غياب القطيعة مع الماضي، ويُهدّد المشروع الانتقالي من خلال الإبقاء على البنية التي سمحت بحدوث الفظائع.

المصدر: العربي الجديد الكاتب: فضل عبد الغني
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ