في سوريا يتجاوز عدد القوات الإيرانية سبعين ألفا - وهناك من يقدر أن الرقم ضعف ذلك. وتتشكل من قواتها مع ميليشيات تولت جلبها من أنحاء المنطقة وتقوم بدفع تكاليفها - تصارع منذ أشهر عديدة من أجل السيطرة على حلب، وهي توشك على ذلك أخيرا، من خلال تدمير شرق المدينة الصامدة، وتتقدم تحت القصف الروسي الذي يستهدف المدنيين، وكلفت طائرات نظام الأسد برمي قنابل كيماوية، وغاز الكلور من أجل إفراغ المناطق قبل التقدم واحتلالها.
وأنا هنا لست بصدد إنكار احتمال سقوط حلب، أو استحالة طرد الدواعش من الرقة، بل الهدف توضيح الواقع الحقيقي وليس الدعائي في سوريا. فالحرب في سوريا أعمق وأكثر تعقيدا.
وحتى لو استولى الإيرانيون، وقوات الأسد، على حلب الشرقية، فإن سوريا لن تستقر، ولن تستكين للنظام الذي يقاتل منذ خمس سنوات، لأن أمامه سنوات عديدة حتى يفرض وجوده، وهو المشكوك فيه. وهذا ما يجعلنا نتساءل عن الحكمة وراء تصرفات حليفي النظام السوري، أي إيران وروسيا. هل ينويان الاستمرار لسنين مقبلة في مساندة النظام على الأرض بنفس القوة والخسائر، من أجل أن يظل في الحكم؟ هل يفضلان الحرب لسنوات أخرى على الحل السياسي الذي يمثل تنازلا متبادلا، أي نظاما مختلطا، من القديم والمعارضة دون القيادة الحالية؟ مثلا، عند استيلائهما على حلب الشرقية المهدمة، نتيجة القصف المجنون، الذي أفرَغَها من معظم سكانها، ما الذي سيفعله الإيرانيون والروس لاحقا، هل سيمضيان عام 2017، الذي هو على الأبواب، في القتال للاستيلاء على ما تبقى من بلدات سوريا، بما فيها ريف دمشق الذي لا يزال جزء منه تحت سيطرة الثوار؟ ثم ماذا بعد ذلك؟ كيف سيحكم النظام السوري دولة ممزقة، مليئة بالثارات ضده، وقواته لا تشكل سوى ثلاثين في المائة من القوات الحالية، حيث إن البقية هي قوات إيرانية، وميليشيات مجلوبة من العراق ولبنان وأفغانستان وباكستان وغيرها! فهل تنوي إيران الإبقاء على ميليشيات أجنبية وطائفية بسوريا في السنوات المقبلة من أجل تثبيت حكم الأسد؟ من المؤكد أن بقاء الميليشيات الطائفية سيكون جاذبا للمزيد من المقاتلين من أنحاء المنطقة والعالم، وستستمر الحرب. هذه هي المعضلة التي لا بد أن النظام في طهران اكتشفها متأخرا، فهو إن انتصر ورحل سيسقط النظام في دمشق، وإن استمر في الوجود عسكريا ستستمر الحرب بتكاليفها ومخاطرها الداخلية عليه.
أما لماذا يبالغ الغزاة في احتفالاتهم في نواحي حلب هذه الأيام، ويوحون بأنها نهاية الحرب؟ السبب أنهم في حاجة إلى رفع معنوياتهم داخل بلدانهم: إيران، وروسيا، وميليشيات «حزب الله» اللبنانية، وعصائب أهل الحق العراقية، وغيرها. الدعاية موجهة لشعوبهم والعالم الذي يتفرج منذ زمن على هذا الصراع، والذي عجزوا فيه عن الانتصار رغم ضخامة تسلّحهم في وجه معارضة محرم عليها الأسلحة النوعية.
لكن يدرك الإيرانيون، أكثر من الروس، أنهم متورطون في هذه الحرب الفاشلة، التي حتى لو كسبوا فيها الجولات الحالية، فإنها ستستمر وستجبرهم أخيرا على القبول بما استمروا يعارضونه ويقاتلون ضده، وهو الحل السياسي. أما حلفاؤهم الروس، الذين ينظرون إلى القتال في سوريا من منظور الصراع الدولي، فلن يجدوا غضاضة في الانسحاب فجأة، كما دخلوا فجأة، دون الالتفات إلى نتائج ذلك على دمشق وطهران.
وتبدو السياسة الإيرانية الحالية في المنطقة مختلفة عن السابق، كما لو أنها تهتم بالمكاسب السريعة، بعد أن اشتهرت سابقا بأنها ذات الاستراتيجية البعيدة المدى. نرى ذلك في الإصرار الإيراني على الانخراط في دوائر القتال في المنطقة، في العراق وسوريا وكذلك اليمن، مع أنه لا يوجد في أي منها ما يضمن لها، أي لإيران، تحقيق انتصارات نهائية. في سوريا سيدوم الاقتتال، ولن يستتب السلام في العراق بسبب تبني إيران مشروع القوى الطائفية، كما أن الفريق الموالي لإيران في اليمن، أي الحوثي، أصغر من أن يحقق الانتصار في النزاع هناك، وإن كان قادرا على إحداث الفوضى.
دول المنطقة الأخرى، قد تسكت على الهزيمة في حلب لكنها تعلم جيدا أن الحفرة السورية عميقة، ولن تخرج منها إيران إلا بثمن مكلف.
عملياً سقطت حلب في يد النظام السوري بدعم روسي استكمل دعماً إيرانياً كان يؤذن بالفشل. حصل ذلك بانكفاء أميركي متعمد شكّل عملياً غطاء سياسياً للتدخل الروسي. في هذه الأثناء بدأ الرئيس بشار الأسد يتحدث عن نصر قادم، وعن إعادة الإعمار، وتوزيع شهادات الوطنية على السوريين. قال الخميس الماضي في حديث لصحيفة «الوطن» السورية إن «من يربح في دمشق أو حلب يحقق إنجازاً عسكرياً كبيراً». هذا لا يعني، كما يقول «نهاية الحرب في سورية، لكنه محطة كبيرة في اتجاه هذه النهاية». يبدو من حديث الرئيس، ومعه جوقة إعلام «الممانعة»، أنه تم إنقاذه، وأنه يقترب من تحقيق نصر نهائي على «الإرهابيين». هل هذا ما حصل؟ أو ما يمكن حصوله قريباً؟ هذا سؤال ينبغي للرئيس قبل غيره أن يتوقف عنده ملياً، وهو الأعرف بما حصل، وبحجم التدخلات الأجنبية في الحرب السورية ودوره في ذلك، وبخفايا ما يقال، وما يحدث وراء الكواليس الإقليمية والدولية. لا أظن أنه يغيب عن بال الأسد أن السؤال أكثر تعقيداً مما يبدو عليه.
ربما أن التدخل الإيراني والروسي، وقتال الميليشيات الأجنبية إلى جانبه، أنقذ الأسد من مصير مشابه لما حصل للعقيد معمر القذافي، أو للرئيس المصري حسني مبارك، أو التونسي زين العابدين بن علي. ربما أن مصيره سيكون أقرب لما انتهى إليه الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، وربما سيكون مختلفاً عن كل ذلك. في كل الأحوال إذا كانت سورية سوف تولد من جديد بفعل الثورة والحرب التي انتهت إليها، فالأرجح أن بشار الأسد سيبقى جزءاً من ماضي الشام، وليس من مستقبله. حديث الرجل الخميس الماضي يشير بوضوح باذخ إلى أنه إما في حالة إنكار لما حصل، أو أنه يحاول تجاهل ذلك وكأنه لم يحصل. في هذا الحديث الذي استهلك أكثر من عشرة آلاف كلمة، كان الأسد يتحدث بذهنية النظام القديمة، كأنه لم تحدث ثورة، ولا حرب أهلية، ولا أحد مسؤول عما حصل. في مقابل ذلك تبدو سورية ما قبل الثورة شيئاً من الماضي البعيد. كيف يمكن تجسير الهوة بين إنكار الرئيس، وواقع البلد؟
في مثل الحرب الأهلية السورية يصعب الحديث عن منتصر ومهزوم بين السوريين. لكن بشار الأسد هو الخاسر الأكبر، لماذا؟ لأنه الرئيس، المسؤول الأول الذي خان العهد وانتهك الدستور، اختار عن عمد، وتيمناً بتاريخ والده، الحل الأمني منذ اللحظات الأولى في وجه انتفاضة شعبية، لم يفكر في استيعابها، والاستجابة لمطالبها. كانت انتفاضة سورية صرفة، لا تطرح أكثر من مطالب إصلاحية، لم يتدخل فيها أحد من الخارج طوال سنتها الأولى. ثانياً: أنه اختار نموذج حماة الذي استخدمه والده عام 1982، أو نموذج الأرض المحروقة ضد شعبه. ثالثاً: أنه استعان في البداية بشبيحة سورية من الهوية الطائفية نفسها التي ينتمي إليها الرئيس نفسه، ما أضفى على المواجهة صبغة طائفية لم يعهدها السوريون. رابعاً: عندما فشل الحل الأمني استعان بإيران. وهذه كانت تدعم الأسد منذ اليوم الأول للانتفاضة بالأموال والسلاح، وعندما لم يثمر ذلك، بدأت بإرسال مقاتلين وجنرالات وخبراء إيرانيين، ثم ميليشيات بعضها عربي (من العراق ولبنان)، والبعض الآخر غير عربي (من أفغانستان)، لكنها جميعها من لون طائفي واحد (اللون الشيعي) لمواجهة ما اعتبره النظام والإيرانيون انتفاضة سنية ضده. عزز هذا اللجوء المنحى الطائفي لمشهد تحوّل مع الوقت إلى حرب أهلية. خامساً: عندما فشلت الاستعانة بإيران وميليشياتها، اضطر للاعتراف بأن قواته لم تعد قادرة على السيطرة على كل المناطق السورية، وأن الالتحاق بالجيش أخذ يتراجع بشكل كبير. كان ذلك بمثابة استغاثة في صيف 2015، في خطاب ألقاه الأسد أمام أعضاء ورؤساء «المنظمات الشعبية والنقابات المهنية». وجاءت الإغاثة من روسيا في أيلول (سبتمبر) من العام نفسه.
السؤال في هذه الحالة، إذا افترضنا - جدلاً - أن الأسد انتصر، فعلى من انتصر؟ وبمن انتصر؟ انتصر على شعبه، وبقوات وميليشيات أجنبية ذات لون وهوى طائفيين. وإذا كانت مساعدة إيران للأسد جاءت لأنه علوي يعدّ بقاؤه - كما تراه القيادة في طهران - سداً منيعاً أمام غالبية سنية سورية قد تشكل تهديداً لهيمنتها في العراق، فإن مساعدة بوتين تأتي من طموح لإعادة روسيا إلى المنطقة، في سياق موجة يمينية تحتاج للأسد الديكتاتور رافعة أمام الإسلامي السياسي، والتوسّع الغربي في اتجاه روسيا، وهي موجة تتقاطع مع شعبوية غربية لا تخلو من عنصرية تجاه المختلفين دينياً وجنسياً وقومياً. كل ذلك سيفرض أثماناً باهظة على الأسد، وما هو الثمن المادي والسياسي الذي ستكتفي به هذه الأطراف الأجنبية؟
بعبارة أخرى، اختار الأسد حلاً أمنياً تبيّن أنه لا يملك القدرة على فرضه، وتسبب في حرب أهلية أضفى عليها بخياراته وسياساته طابعاً طائفياً أفقده السيطرة عليها في نهاية المطاف. وإذا كان إنقاذ الأسد وبقاؤه في الحكم على يد قوات أجنبية يلقي بظلال كثيفة على شرعية الرئيس، فإنه يعيد إلى الذاكرة أن هذا الرئيس وصل إلى الحكم بآلية التوريث من والده في نظام جمهوري، تم فرضه بالمؤسسة الأمنية. وإذا كانت بذور توريث الأسد الابن تفتقت من مذبحة حماة، فإن بذور الثورة زرعتها عملية التوريث ذاتها بمتطلباتها وأكلافها وما ترتب عليها.
من ناحية ثانية، لا يقدِّر الأسد كما يبدو ما حصل للوضع الاجتماعي والسياسي السوري بعد الثورة، كان السوريون قبل الثورة قد انتظموا في حالة استسلام لقدر استبداد النظام ودمويته الشرسة، وهي حالة استفاد منها الأسد الأب طوال حكمه. سمحت له بحصر مذبحة حماة داخل حدود المدينة، وعزل تأثيراتها عن بقية المجتمع. قيام الثورة وما أسفرت عنه من تضحيات غير مسبوقة، أخذت معها كل أو جل ما له صلة بما قبل الثورة. وانفجار الثورة بحد ذاته مؤشر على أن تلك الحالة تعرضت لتصدع كبير، وبالتالي، وبعد كل ما حصل هل يقبل غالبية السوريين أن يحكمهم رئيس وصل إلى الحكم بالطريقة التي وصل بها، لينتهي به الأمر بالاستعانة بقوات ومرتزقة أجانب لتثبيت حكمه فوق جثث مئات الآلاف، وعلى أطلال دمار حوّل أغلب مدن وقرى سورية إلى أشباح؟ من الواضح أن الأسد يراهن على أن جرأته على التدمير والقتل والتهجير ستعيد الرعب إلى مفاصل المجتمع السوري، وستعيد الشعب السوري إلى حظيرة الاستسلام للأجهزة الأمنية مرة أخرى.
لكنه يعرف أن زمن هذه المعادلة بات في موقع آخر على خط الزمن، كما يدرك الأسد أنه لم يحدث أن انتصر بالشعب وللشعب، ولا لحقوق السوريين، ولا بقوات سورية، ولا باسم القانون الدولي وشرعة الإنسان، ولا باسم البعث على رثاثته، ولا بالقومية العربية، ولا بشعار «المقاومة والممانعة» التي يفترض أنه ينتمي إليها. كان انتصاره دائماً لاستئناف حكم أبيه. وبالتالي يدرك أن الثورة سلبت منه شرعيته بعد استعانته بالأجانب لتدمير بلده وقتل شعبه. كان والده يستخدم العنف لتفادي مواجهة الشعب، أما هو فسقط في براثن نصائح حسن نصرالله والإيراني قاسم سليماني. فوق ذلك فقد بشار غطاءه العربي، وقد اشتكى من ذلك بشكل مباشر في حديثه المذكور، خصوصاً عن علاقة مصر به. وهو لا يحظى بأي دعم دولي حقيقي، عدا إيران وروسيا. من ناحيتهم تأكد السوريون أنهم تأخروا في الثورة كثيراً، ولأنها تأخرت شاءت الأقدار أن تأتي في توقيت باراك أوباما، وعلي خامنئي، وفلاديمير بوتين. لكن يعرف السوريون أيضاً أن الثورة لا ترتهن في الأخير لتوقيت أحد سوى توقيتها، وأنها بذلك باتت حداً تاريخياً فاصلاً بين ما قبل الثورة، وما بعد الثورة. ومن ثم فالسؤال الذي يجب أن ينشغل به الأسد هو: هل أنقذ الروس حكمه؟ أم أنقذوا رقبته؟ هنا يتبدى الاختلاف بين الروس والإيرانيين. يريد الإيرانيون إنقاذ حكم الأسد ورقبته معاً، الروس لا يمانعون في ذلك، لكنهم لا يرتهنون له مثل الإيرانيين، بين هذا وذاك فصلت الثورة الشعب السوري عن رئيسه. وفرضت طرح ملف النظام السياسي بتاريخه وطبيعته الدموية وما إنتهى إليه. بقي الشعب في مكانه وزمانه، وإنتهى الرئيس رهينة معادلات وتوازنات خارجية، وعليه بالتالي أن يستبد به القلق من هذا الفصل وذاك الطرح اللذين كانا خارج التداول من قبل.
أما الآن وقد شارفت مدينة حلب على السقوط كلياً في أيدي قوات الحكومة السورية، فإن من الطبيعي أن تسعى فصائل المعارضة، على اختلافها، إلى استخلاص العبر من نكستها هذه. سيقول معظمها، على الأرجح، أن اللوم في المقام الأول يقع على روسيا وإيران. فالأولى وفّرت الغطاء الجوي للقوات الحكومية، فيما وفّرت الثانية عشرات آلاف المقاتلين الشيعة من جنسيات مختلفة، إضافة إلى آلاف «المستشارين» من الجيش النظامي و "فيلق القدس". وزيادة على ذلك، هناك من سيقول أيضاً أن اللوم يقع كذلك على الغرب الذي امتنع عن تقديم السلاح «النوعي» للمعارضين.
كل ما سبق صحيح، بلا شك. لكن ألا يقع اللوم أيضاً، ولو في جزء منه، على المعارضة نفسها؟ ومحور التساؤل حول هذا «اللوم» هنا يتعلق تحديداً بالعلاقة بين ما يُعرف بـ «المعارضة المعتدلة» وتلك «الإرهابية»، ومدى تأثير ذلك في «نكسة حلب» لاحقاً. وعلى رغم أن الروس تحديداً، هم من جادل على مدى شهور بضرورة «الفصل» بين هاتين المعارضتين (لتوريطهما ربما في صراع مسلح)، فإن الأميركيين، حلفاء المعارضة المفترضين، لم ينفوا أبداً هذا الواقع، لكنهم جادلوا بأن الفصل «غير ممكن» عملياً.
وسواء كان الفصل ممكناً أم لا، فإن «المعارضة المعتدلة» لا بد أن تُقر بأنها عجزت في نهاية المطاف عن اتخاذ موقف من «المتشددين» في الوقت الملائم. ويعود ذلك بالطبع إلى اعتبارات مختلفة ليس هذا مجال تعدادها، وإن كان أبرزها عدم القدرة عسكرياً، وسياسات النظام نفسه التي دفعت، بوحشيتها، المعارضين إلى الارتماء في أحضان المتشددين، كونهم الأقدر على رد الصاع صاعين.
لكن أحداث الجزائر، في تسعينات القرن الماضي، كان يجب أن تشكّل عبرة للمعارضة السورية (ربما لم يفت بعد أوان الاستفادة منها). بدأت تلك الأحداث مطلع عام 1992 عقب إلغاء نتائج الانتخابات التي فازت بها «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، وسرعان ما تطورت إلى حرب أهلية. التحق آلاف الإسلاميين بالجبال وشكّلوا جماعات مسلحة سيطرت على مساحات شاسعة من الأرياف، ومدّت نشاطها إلى داخل المدن. وبحلول عام 1994 كان الإسلاميون يتحضرون للزحف إلى العاصمة. لكن خططهم وآمالهم سرعان ما انهارت لأسباب عدة بينها بلا شك فشل «المعتدلين» في فصل أنفسهم عن «المتشددين». والمقصود بـ «المعتدلين» هنا هم الذين حملوا السلاح لأن النظام حرمهم الفوز في الانتخابات. أما «المتشددون» فهم من حملوا السلاح لهدف مختلف تماماً كونهم لا يؤمنون أصلاً بالانتخابات والديموقراطية.
هذه الخلفية الجزائرية يمكن بسهولة إسقاطها إلى حد كبير على الحالة السورية، مع تغيير الأسماء. فـ «الجماعة الإسلامية المسلحة» هي «جبهة النصرة». وكما حصل مع مناصري «الإنقاذ» الذين رفضوا فصل أنفسهم عن «الجماعة» - على رغم تشددها - لمجرد أنها تقاتل النظام (الذي في الوقت ذاته اخترقها وتلاعب بها)، تكرر الأمر ذاته مع المعارضين السوريين الذين رفضوا تصنيف «النصرة» بالإرهاب بحجة أنها تقاتل النظام.
تسبب تطرف «الجماعة» الجزائرية في نهاية المطاف في إلحاق الهزيمة بـ «الإنقاذ» من خلال السماح للحكومة بالظهور بمظهر من يتصدى للإرهاب. وحتى عندما أدرك بعض قادة «الجماعة» خطأهم هذا في نهاية التسعينات وحاولوا تداركه من خلال «تغيير اسمهم» المرتبط بالتشدد (نشأت «الجماعة السلفية» بدل «الجماعة المسلحة»)، كانت الكفة قد مالت لمصلحة النظام الذي نجح في الوقت ذاته في إقناع شرائح من المسلحين الموالين لـ «الإنقاذ» بعقد هدن محلية وتسليم السلاح والمصالحة مع الحكومة. ويتكرر هذا الأمر اليوم في سورية من خلال عقد النظام هدناً محلية مع معارضين سلّموا سلاحهم و «نفوا» المصرّين على القتال إلى «قندهار إدلب». كما أن تغيير «النصرة» اسمها إلى «جبهة فتح الشام» لم يؤدّ، كما يبدو، إلى تغيير النظرة دولياً إليها بوصفها «إرهابية» نتيجة ارتباطها بـ «القاعدة».
ما نتيجة كل هذا السرد؟ النتيجة واضحة: خسرت «الإنقاذ» في الجزائر لأنها فشلت في أن تنأى بنفسها في الوقت الملائم عن «الجماعة».
هل تخسر المعارضة السورية اليوم نتيجة السبب ذاته، أي فشلها في النأي بنفسها عن «المتشددين»؟ سيقول بعضهم أن هؤلاء «المتشددين» هم من يحقق «الانتصارات» ضد الحكومة. قد يكون ذلك صحيحاً، لكن «نكسة حلب» لا بد أن تستعيد «الدرس الجزائري»، فلعل في تجربة «الإنقاذ والجماعة» عبرة للسوريين.
معاناة العرب مع العنصرية بكل أشكالها قديمة قدم التاريخ، تختفي تارة وتعود تارة أخرى، لتخيم على أجوائنا فتسممها وتشعل نيران الفتن. فهي تنبع من الداخل: من العادات والتقاليد والتربية الخاطئة والجهل والتعالي وأوهام التفوق والتعصب لدين، عشيرة أو عائلة، حزب أو شخص.
ففي كل أدبياتنا، خصوصاً في القصائد، أشعار تثير نعرات ومواقف عنصرية، من بينها ما اشتهر به المتنبي عندما ذمّ كافور الأخشيدي، حاكم مصر آنذاك، وقوله في ما يدخل اليوم تحت حكم القوانين الدولية: لا تشتري العبد إلا والعصا معه، إن العبيد لأنجاسٌ مناكيد.
وهناك الكثير من الأشعار والكتب والأمثال الشعبية التي نتداولها من دون أن نفقه معانيها ونرددها كالببغاوات، على رغم ما تتضمنه من قدح وذم بالآخر المختلف لوناً وثراءً أو نسباً وانتماءً. وكنا في الماضي نسمع أوصافاً مثل عميل وجاسوس ورجعي وإمبريالي وملحد، وصرنا نردد تهم الإرهابي والكافر والعلماني، فيما نشتكي من الاتجاهات العنصرية المتطرفة ضد العرب والمسلمين. وبكل أسف، فإن الأخلاق والمبادئ العامة يفترض أن تشجب هذه المواقف الرعناء، فهناك أشعار تحذر من التباهي، مثل قول الشاعر: لا تقل أصلي وفصلي أبداً، إنما أصل الفتى ما قد حصل.
إلا أن الكلمة الفصل هي لله عز وجل الذي لا يحب كل مختالٍ فخور، ويحدد لنا مبادئ المساواة والإنسانية بقوله في محكم تنزيله: «يا أيها الذين آمنوا، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم». ولا مجال هنا للإسهاب في تعداد مكارم ديننا الحنيف لأنني أشرت إليها رداً على ما سمعناه من مواقف عنصرية مستنكرة تظهر في الإعلام اللبناني وشارك فيها بعض الجهلة أو السخفاء الذين يظنون أنفسهم فوق البشر ويتعرضون لكرامة الناس ويعممون ليشملوا شعوباً بكاملها، كما جرى للإخوة السوريين أخيراً. وجاء آخر عار عنصري في ما بثته قناة «أو تي في» التابعة لحزب رئيس الجمهورية (التيار الوطني الحر) وأوردت فيه إهانات للشاب السوري ورفض الزواج منه لأنه من غير culture وأقل مستوى من الفتيات المشاركات في الاستفتاء.
وما جرى ما هو إلا جانب من تيار عام يلصق التهم بهذا الشعب العريق، وسمعناه على لسان مسؤولين، بينهم وزير الخارجية جبران باسيل وغيره وبعض الإعلاميين الذين دأبوا على التحريض والتضليل بسرد السلبيات والتغاضي عن الإيجابيات والتركيز على تضخيم الأنباء عن أحداث وجرائم وسرقات توجه فيها السهام إلى السوريين الذين اضطروا إلى اللجوء هرباً من ويلات الحرب على رغم الظروف اللاإنسانية التي يعيشون فيها، مع أن الواجب يقتضي على كل إنسان أن يرحم عزيز قومٍ إن ذل مهما جرى لأنه صاحب فضل على الجميع، عبر التاريخ، وأولهم من اللبنانيين الذين لجأوا إلى سورية إبان الحروب والأزمات ووجدوا فيها الصدر الحنون والكرم وفرص العمل والتجارة.
ونسي المغرضون، أو تناسوا، حقائق تاريخية عن مستوى السوريين الحضاري في الداخل والخارج والإنجازات الكبرى التي حققوها على كل الأصعدة العلمية والثقافية والطبية والأدبية والإبداعية وكيف وصلوا إلى أعلى المناصب في الدول التي أقاموا فيها وكسبوا احترام الجميع. كما نسوا كم استثمر السوريون في لبنان وكيف أنقذوا الاقتصاد اللبناني من الانهيار في مناسبات كثيرة.
فموجات نزوح السوريين إلى لبنان حملت مئات الآلاف من رجال الأعمال والصناعة الذين أقاموا صروحاً صناعية وتجارية ومصرفية. كما أسهموا في بناء أجزاء كثيرة من بيروت والمدن الأخرى مثل رأس بيروت والحمرا والمنارة لتحقيق نهضة عمرانية كبرى شارك فيها عشرات الآلاف من العمال السوريين الذين جُبل كل مدماك فيها بدمائهم.
ولو أردت تعداد أسماء لشخصيات يعود أصلها إلى سورية الأم ولعبت دوراً تاريخياً في لبنان لما انتهيت، ولكنني أكتفي بالإشارة إلى رائدين راحلين عرفتهما شخصياً وكان لهما الفضل في تعليمي، وأقف لهما إجلالاً وأترحَّم عليهما وهما الدكتور إدمون رباط، واضع القانون الدستوري اللبناني وأصله من حلب الجريحة، والدكتور بطرس ديب، رئيس الجامعة اللبنانية وأصله من اللاذقية. كما أفتخر بأصدقاء أعزاء من رجال دين وبطاركة ومطارنة لعبوا دوراً بارزاً في تعزيز الوحدة الوطنية من دون أن ننسى أن مار مارون نفسه أصله سوري، ومثله مئات الآلاف من الموارنة والأشقاء المسيحيين.
وأذكّر المغرضين بصلة النسب والقرابة بين الشعبين وأن غالبية العائلات نصفها لبناني ونصفها الآخر سوري. وكنت قد جمعت إحصاءات عن عشرات الآلاف من الزيجات اللبنانية - السورية، وبينها لأسماء زعماء ورؤساء ونواب ورجال دين يردون على من تشدق بمزاعم التفوق. وأذكر بعض الأسماء، منها لرجل الاستقلال الرئيس رياض الصلح الذي تزوج من فائزة الجابري والرئيس صائب سلام من تميمة مردم بك، رحمهم الله، وتبعه الرئيس تمام سلام من ريما الدندشي والرئيس سعد الحريري المتزوج من لارا، كريمة الأخ بشير العظم. وعندما بدأت إعداد هذا المقال وجدت أن زميلي الأخ صقر أبو فخر قد سبقني بسرد أسماء أخرى من بينها الرئيس عبدالله اليافي من هند مؤيد العظم، الرئيس تقي الدين الصلح من فدوى البرازي، وليد جنبلاط من نورا الشرباتي، بشير الجميل من صولانج توتنجي، وغيرهم. والعكس بالعكس. ويشير الأخ صقر إلى أن الأب بولس نعمان من آل الأصفر الدمشقيين وأن البطريرك صفير من قرية الصفيرة في حوران.
يضاف إلى كل ذلك التضليل الإعلامي في شأن الأعباء الناجمة عن وجود مئات الآلاف من اللاجئين السوريين والذي تحول إلى مُسَلَّمة يتحدث عنها الجميع ويحذرون من الويل والثبور وعظائم الأمور من دون أن يتساءلوا عمن سمح لهم بالنزوح ومن أمّن إقامتهم ولماذا لم يعد عدد كبير منهم ما دامت الأمور قد حُسمت واستقرت في مناطق كثيرة. أما عن الأكلاف والأعباء، فالأرقام الرسمية توضح حقائقها في النقاط الآتية:
- إن بلايين الدولارات من الأموال دفعت للبنان من جانب الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها والدول والمنظمات الإنسانية وأنفقت لتحريك العجلة الاقتصادية، فذهب بعضها هدراً أو فساداً من دون حسيب ولا رقيب.
- إن المليون وأكثر من نصف المليون لاجئ ينفقون يومياً ملايين الدولارات تذهب جميعها لمصلحة التجار والصناعيين وأصحاب الأفران والمطاعم اللبنانيين.
- إن اليد العاملة السورية وفرت على المزارعين والصناعيين والتجار وحتى المستهلكين مئات الملايين بسبب رخص أجورها.
- آلاف السوريين أنقذوا الاقتصاد اللبناني من الركود بسبب الحروب والقطيعة مع دول الخليج عبر استثمار أموالهم في المتاجر والمصانع والمطاعم وغيرها.
- أكثر من مليون سوري وأجنبي بين دمشق وبيروت سافروا عبر مطار رفيق الحريري الدولي وأنفقوا مئات الملايين من الدولارات على ضرائب المطار (120 دولاراً على التذكرة) ومصاريف المواصلات والتبضع وشراء الحاجات.
- والأهم من ذلك كله أن الآلاف من الأثرياء وأبناء الطبقة المتوسطة أقاموا في لبنان واستثمروا مئات الآلاف على العقارات والمصاريف اليومية، إضافة إلى نحو سبعة بلايين دولار كودائع وضعت في المصارف اللبنانية خلال السنوات الخمس الماضية.
وكنت حذرت في كتابي «ربيع الدم والأمل» الصادر عن «دار الساقي» في العام 2014 من عواقب هذه الظواهر العنصرية التي ستولّد الأحقاد على مدى السنين وتتسبب في حساسيات يمكن ملاحظتها عند الحديث إلى أي سوري أو لبناني، وأوجز هنا بعض النقاط الواردة فيه، منها أن الشعب السوري لم يبخل يوماً تجاه أشقائه، وخصوصاً اللبنانيين، واقتسم معهم رغيف خبزه وأسكنه في بيوته بلا مِنَّة ولا مقابل ولا أذى. ومن غير المقبول أخلاقياً وإنسانياً أن نزيد من كرب هؤلاء الإخوة بشعارات الكراهية واتهامات باطلة وشعارات عنصرية والتعامل معهم على الحدود في شكل غير لائق.
كذلك فإن مسؤولية اللاجئين كبيرة بالبعد عن التطرّف والقيام بأي تصرف مسيء، وأن يحترموا القوانين والأعراف ويمتنعوا عن أي عمل يمكن أن يستغل ضدهم للترويج لإشاعات تسيء إليهم وتؤجج نار الكراهية.
ومع هذا، يجب أن نشيد بردود فعل اللبنانيين الشرفاء من رسميين ومواطنين وإعلاميين تصدوا للعنصرية واستنكروا ما يجري، وهو ما ينطبق على الإخوة العرب، والفلسطينيين خصوصاً، من مثل هذه النزعات البغيضة، مع واقعة تنطبق على الوضع الراهن نتذكر فيها كيف أن الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد كان يحرص على ترداد شعار «شعب واحد في دولتين» كتأكيد الوحدة بين اللبنانيين والسوريين. وبعدما كان اللبنانيون يشتكون من الوجود العسكري السوري، صاروا يشتكون بعد انسحابه من الوجود الشعبي السوري ليتحول الشعار القديم إلى شعار يتناسب مع الواقع، وهو: «شعبان في دولة واحدة».
وأخيراً، لا بد من مسك الختام مع المطربة الرائعة فيروز، القاسم المشترك الأحب بين الشعبين، للتذكير بإنشادها عن حب سورية في «سائليني يا شام» و «شام ما المجد، أنت المجد والحسب»، لعلنا نتذكر ونتفهم معاني أغنيتها الرائعة «سوا ربينا»... ومعها الجيرة والعشرة والأخوة والقرابة والنسب والمحبة والمصلحة الواحدة.
يدرك الـ ٧٠ ألف انسان المتواجدين حالياً في أحياء حلب الأخيرة، أن مصيرهم بات محسوماً بالموت بشتى الأنواع قصفاً و تصفية أو اعتقالاً يتلوه الاعدام، فلا خيارات ولا رفاهية أمامهم إلا ذلك، مع ايصاد آخر الأبواب اتجاه مبادرة الخروج، و اصرار روسيا على خيار الاستسلام فقط لاغير.
يصر القادة البارزون في حلب على الصمود حتى الرمق اأخير، ويصر معهم عوائلهم على هذا الخط، ويفضلون القضاء تحت القصف أو يتحولوا لرماد بعد أن تلتهمهم النيران التي تنتشر في كل سنتيمتر مربع من الـ٢ كيلو متر المتبقية لهم، على أن يكونوا أسرى أذلاء معرضين لكل شيء يفوق الموت بدرجات.
في الوقت الذي أيقنت أمريكا ، التي تفاوض روسيا، أن لا حل أمام المحاصرين إلا المقاومة على هذا الرتم، فنقل أحد المسؤولين الأمريكيين للفصائل أن روسيا حددت خياراتها بطريق واحد ، وهو استسلام كافة الثوار و تسليم أنفسهم للنظام ، أما مقاتلي جبهة فتح الشام فمصيرهم سيكون بيد الروس أنفسهم، الذين سيتولون أمر اعتقالهم و التحقيق معهم.
يقول الجانب الأمريكي لا خيار أمام (دولته العظمى)، شو شد أزر الثوار للصمود ما أمكن و دعوة من هم في محيط حلب فتح الجبهات، على أقصى درجة يتمكنون فعلها، علّهم يستطيعوا أن يؤخروا فناء حلب لصباح أو صباحين ، أو يحافظوا على ركونهم الحالي ، ليستقظوا يوم غد بلا “حلب”.
القضية في الحقيقة ليس لها مثيل في الثورة السورية على مر سنواتها الست الماضية، و لم نشهد هذا الكم من الاجرام الذي وصل إلى أن لا منجى للثوار ، ولا محاولة للتخفيف أو امتلاك طريق للتفاوض ، غير الانهاء التام (القتل) أو الانهاء التدريجي (التسليم فاعتقال ومن ثم الاعدام)، اذ دائماً كان هناك خيار تفاوضي نستطيع من خلاله حماية من تبقى ، إلا في حالة حلب، فقد تركت لمواجهة الفناء وحيدة مقهورة ومكسورة و ليست مكلومة فحسب و إنما مُبادة.
أحاديث القادة الفعلين في حلب، لاتشي بكثير من التفاؤل و لكن هناك رفض شبه تام، أن لاطريق أمامهم إلا القتال حتى الرمق الأخير، أما المدنيين الذين تقف عاجزاً أمام أصواتهم التي تحطم ما تبقى من فؤاد مدمر، و لعل الأكثر الشدة عندما تسمع قول أحدهم “ياريت موت أنا عيلتي كلنا ولا ياخدنا النظام”، لتتيقن أن الحاصل في حلب اليوم ليس قيامة ربانية ، و إنما قيامة بشرية بلا رأفة ولا رحمة.
حلب في صباحها الأخير ستبقى نيرة ووجهها باسم، كشهيد صادق و صدق مع الله ، و لكن الله اختار له الشهادة ليقربه منه، و ترك البقية في الأرض يلذون بها شمالاً وجنوباً هرباً ومن آلاف الأرواح التي ستقتص منه في مكان و زمان قريبين.
أن تكون فلاديمير بوتين في هذه اللحظات هو مطلب معظم زعماء العالم الغربي. نموذج الرجل الذي يفعل كل شيء، من دون أن يُحَاسَب أو يرتدع. وكلما يتجاوز مطلق إنسان القوانين، يُصبح "بطلاً" أو "شخصاً لا يطال". هكذا بوتين، منذ حروب الشيشان في التسعينيات، وصولاً إلى سورية حالياً. يمكنه الآن عقد الصفقات مع الأميركيين في الشرق الحلبي أو الرّقة، ويُمكنه، في الوقت عينه، الاتفاق مع الأتراك على خطوط النفط، ولن يجد من يتهمه بـ"الإبادة" أو "التّدخل في شؤون بلدانٍ أخرى". يمكنه فعل ذلك كله من دون أن يسرق منه أحدٌ هذه الأفضلية، فهو لم يكن بالأساس هنا، في الشرق، لو لم يكن هناك حدّ أدنى من غضّ نظر أميركي عن تدخّله، على اعتبار أن أي خيار آخر يعني مواجهةً غير محسوبة للطرفين.
في سورية، يعتبر نفسه "الرقم واحد". لهذا السبب، يعلن عن وقف العمليات العسكرية أو بدئها، وفقاً لما يراه هو مناسباً له، لا وفقاً لحسابات إيرانيةٍ بالأساس، أو حسابات النظام السوري. يعلم أنّ لا أحد قادر على منعه في فعل ما يشاء. في لحظةٍ ما، بات الرجل نقطة جذبٍ لمختلف القوى السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط. أما شعاراته فيمكن أن يضعها جانباً. يقول شيئاً ويفعل شيئاً آخر. أعلن عن سحب قطع عسكرية روسية في مارس /آذار الماضي، لكننا الآن بتنا أمام مرحلة توسّعٍ للوجود العسكري الروسي في سورية. أعلن عن نشر منظومة "أس 400" التي يصل مداها إلى عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة، في قاعدة حميميم السورية الساحلية، لكن تلك المنظومة "لم تنتبه" لعشرات الغارات الإسرائيلية، سواء في استهداف قادةٍ من حزب الله، أو في قصف قوافل أسلحة تابعةٍ للحزب، أو في قصف مواقع لقوات النظام السوري، من الجولان إلى دمشق.
مع ذلك، فإن بوتين "بطل قومي". لم يعلّق على المستوطنات العشوائية في فلسطين المحتلة، بل تشي علاقته الوثيقة برئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بأن شرط الوجود الروسي في الشرق مشابه للوجود الأميركي في محطات سابقة: أمن إسرائيل فوق كل اعتبار.
لا يعود ذلك فقط إلى قوة بوتين وتأثيره، على محيطه الضيّق ثم المحيط الأوسع، بل إلى أخطاء غربية جعلت من روسيا الدولة الأقوى في العامين الأخيرين. عادةً، حين تتجانس يوميات فرد أو مجتمع مع حاجاته، من دون الشعور بنقص الحاجات، لا يعود منتبهاً إلى فردٍ أو مجتمع يشعر بنقص في تلك الحاجات. بالتالي، حين يبدأ صاحب "النقص في الحاجات" رحلة العودة إلى "تأمين تلك الحاجات"، وسط شعور بـ"الاضطهاد"، يتحوّل شعوره أكثر نحو "التشبث بالمكتسبات" إلى حدٍّ قد تبدر منه تصرفاتٌ عنيفة أو متهورة.
هكذا روسيا التي انتقلت من شبه دولةٍ بائسةٍ ومفكّكة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، إلى دولةٍ في وسعها أن تحلم مع بوتين بمركز قيادي في العالم، مدعومة بنزعة قومية روسية وأعمال عسكرية في الجوار. الغرب "المصدوم"، عدا المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، لم يدرك كيفية التعاطي مع الصعود الروسي، بل يشعر بأنه "أضعف من مواجهته حالياً". لقد بلغت روسيا، مع بوتين حالياً، مرحلة شبيهة بخمسينيات القرن العشرين وستينياته أيام الاتحاد السوفييتي. مرحلة "القوة" و"انشغال الأقطاب الأخرى (الأميركي تحديداً)" بملفات عدة، داخلية وخارجية.
لن تكون المرحلة المقبلة في العهد الروسي تراجعية، فبوتين الذي اعتاد على "قضم" المساحات الجيوبوليتيكة، من دون أن يُحاسب عليه، بات مستعداً أكثر من قبل للهيمنة السياسية على ليتوانيا وأستونيا ولاتفيا وأوكرانيا وجورجيا ومولدافيا وغيرها، في العام المقبل. على اعتبار أن "الأمة الروسية" تمتد من الوسط الآسيوي إلى مداخل الغرب الأوروبي. أما المجازر في سورية فـ"تفصيلٌ صغير" أمام كل شيء.
هل جاء دور الفوضي الخلاقة في إيران، بعد أن اجتاحت المشرق، وشرعت تتمدّد إلى بقية بلدان المنطقة؟
ستطرح هذا السؤال علينا من الآن فصاعداً سياسات الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، وفريقه، والتي يبدو أنها ستعطي الأولوية في أنشطتها لعلاقات إيران مع العالم عامة، وأميركا خصوصاً. يؤكد ذلك اختيار الأشخاص الذين عرفوا جميعهم باعتراضهم على الاتفاق النووي بين دول "الخمسة زائد واحد" وإيران، ودعوتهم إلى تحجيم دورها الإقليمي، بجميع الوسائل السياسية والعسكرية، مع ما يتطلبه ذلك من فتح ملفات نظامها الداخلية وعلاقاته مع شعبه، ومن جعلها موضوعاً لسياسات واشنطن الدولية التي ستنتقل من الملاينة الراهنة إلى المواجهة، في حال طبق ترامب وعوده الانتخابية، بإلغاء الاتفاق النووي، وإخراج النظام الإيراني من المجال العربي.
ما هي مداخل واشنطن إلى معركتها المقبلة مع ملالي طهران؟ هناك، باختصار شديد مدخلان رئيسان إلى استئناف الصراع معها، بطرقٍ يبدو أنها ستكون مختلفة كل الاختلاف عن كل ما تبنته إدارة أميركا الأوبامية حيالهم، حسب تصريحات مسؤولي واشنطن الجدد: من وزير الدفاع إلى رئيس وكالة الأمن القومي إلى جميع مستشاري ترامب المقرّبين.
المدخل الأول: الخليج، حيث يوجد قسم كبير من الأسطول الخامس الأميركي، في قاعدته البحرينية، وتسهيلاته الكويتية والعمانية. ومن يتابع تصريحات العسكرتاريا الإيرانية، يجد أنها تحسب حساباً جدياً للخليج، باعتباره مكان الاحتكاك الرئيس بين البحريتين الإيرانية والأميركية، خصوصاً بعد أن أعلن أحد مستشاري ترامب أنه سيأمر بحريته بما أسماه "قذف زوارق إيران وسفنها إلى خارج مياهه". ثمّة هنا كثافة كبيرة جداً في القطع البحرية، بمختلف مسمياتها، من الزوارق السريعة إلى حاملات الطائرات. وهناك محاولات استفزاز متكرّرة، قامت بها البحرية الإيرانية للأميركيين، من دون أن تلقى غير ردود كلامية وتحذيرية، لكن الوضع سيتغير في فترةٍ يرجّح ألا تكون بعيدة، في ظل الإدارة الأميركية الجديدة.
المدخل الثاني: الوجود الإيراني في الوطن العربي، سواء عبر تنظيماتٍ محليةٍ درّبتها إيران وسلحتها ومولتها، لتكون وحداتٍ محلية من جيشها: في لبنان والبحرين والكويت واليمن والعراق وسورية، أم بواسطة وجود جيشها وحرسها الثوري المباشر في لبنان وسورية والعراق واليمن، حيث يعمل مستشارون من الحرس الثوري، وتقاتل وحدات مختارة من الجيش والباسيج، يقارب عددها عدد جيوش هذه البلدان أو يفوقه. بما أن الوجود الإيراني المرابط هنا مليء بالثغرات، فإنه سيغري ترامب بمواجهته، خصوصاً أن قتال أميركا ضده لا يتطلب استخدام جيشها الخاص، بل يمكن أن يتم بواسطة قواتٍ وطنية محلية، يقاتل بعضها إيران اليوم، وتتشوق جميعها لإخراج مرتزقتها من بلدانها، بمجرد أن يتوفر لها غطاء دولي فاعل، وأدوات قتال ملائمة.
بالنسبة لأولويات واشنطن، من المرجح أن تقوم خطتها على كبح التوسّع الإيراني في العالم العربي، من خلال محاصرته والتضييق عليه، تمهيدا لإنزال مجموعة من الهزائم به، تجبره على الانكفاء التدريجي إلى داخل إيران، حيث ستضغط على الملالي، بمختلف الوسائل الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ويعمل لإحداث ردود فعل داخلية متصاعدة ضدهم، عبر وضع خطط لاستنزاف قدراتهم المالية والبشرية، يؤثر تفعيلها على مكانة أجهزة السلطة العسكرية والقمعية ووظائفها، ويراكم نقمة متعاظمة ضد النظام، في حال اقترن الضغط الخارجي مع توسيع العقوبات عليه، وتصعيد الاستفزازات ضد البحرية الإيرانية داخل مياه الخليج، واعتراض زوارقها وسفنها في بحر العرب والبحر الأحمر، لإبعادها عن باب المندب واليمن، ومنعها من نقل السلاح إلى حزب الله والحوثيين.
هل سيفتح ترامب ملف إيران في ظل وجود قوات أميركية محدودة الأعداد في العراق؟ هذه نقطة سيكون من الصعب عليه تجاهلها، فهل سيعمد إلى سحب قواته من العراق، أم إنه سيأمر بزيادة عديدها وتسليحها، ليجعل منها قوة قادرة على ردع إيران، بالتلازم مع تكثيف الوجود البحري الأميركي في مداخل الخليج وممرات البحار المفضية إليه، وعقد اتفاقيات دفاعية مع الدول المطلة عليه، وخصوصاً منها بلدان الخليج ومصر؟
ثمة تصريحات ودلائل عديدة تفيد بأن "عظمة أميركا" التي تعهد ترامب باستعادتها ستنضوي في نهجٍ من أولوياته مواجهة إيران، المكشوفة اليوم كما لم تكن خلال الرئاسات الأميركية السابقة، وتوحي نظرية المؤامرة بأن العمل لإخراجها من المجال العربي سيفيد كثيراً من سياسات العهد الأوبامي الذي سهل دخولها إلى المشرق العربي واليمن، واستدرجها إلى خارج غطائها الداخلي الذي يحمي اليوم نظامها، تمهيداً لمجابهتها وتسديد ضربات جدية إليها في حقبة مقبلة، بينما تكون مكشوفةً، وفي حالٍ من الضعف تتيح لواشنطن تشتيت قواها وضربها.
بعد العرب، يأتي دور إيران. وبعد أن قالت نظمنا إن الفوضى الخلاقة لن تصل إلى بلدانها، غرق المشرق فيها إلى أذنيه، ودفعت النظام الأسدي الذي كان يزعم أنه حصين ضد الفوضى، إلى تدمير سورية بيتاً بيتاً، وقتل شعبها فرداً فرداً، لكي تبقيه في كرسيه. وقد شارك ملالي إيران، أعداء الغرب المزيفون، في الوليمة الدموية القاتلة، للثأر من العرب، مرة بحجة أنهم قتلوا الحسين (عليه السلام)، وأخرى بذريعة أنهم هزموا كسرى. واليوم، وبعد أن أنجز الملالي قسماً رئيساً من مهمتهم، يبدو أن دورهم قد جاء، وأن الفوضى التي سميت خلاقة التي لعبوا دوراً خطيراً في إنجاحها عندنا، ستصل إليهم، لكن وقائعها ستكون أضعاف الوقائع السورية والعراقية، بسبب ما يعتمل في المجتمع الإيراني من نقمةٍ على فاسدين وكذبة، يغطّون رؤوسهم بعمائم النفاق، ويحكمون مواطنيهم بالنار والحديد، وكذلك بسبب ما ارتكبوه في العالم الإسلامي عامة، والعربي خصوصاً من مجازر دموية لم يسبق أن شهدا مثيلاً لها، حتى في ظل الفرنجة، والمغول، والتتار.
يكثر الحديث في وسائل الإعلام العربية والأحزاب الموالية لحكومة الملالي الفارسية، وبعض وسائل الإعلام ووكالات الأنباء الغربية، عن صراع النفوذ الدائر بين السعودية وإيران، أو النزاع السعودي الإيراني على تقاسم منطقة الخليج، أو السعودية وإيران تشعلان حروبا بالوكالة في المنطقة، مثلما صرح وزير خارجية بريطانيا مؤخرًا، ما اضطره لاحقاً إلى الاعتذار لبلادنا عن هذا الخلط العجيب. والأدهى من ذلك هو إصرار بعض الإعلاميين العرب على تسمية الاعتداء الإيراني على المنطقة العربية، بأنه صراع سعودي إيراني حصراً، وليس صراعاً عربياً إيرانياً.
لا شك أن وضع بلادنا في خانة واحدة مع دولة الملالي المعتدية، كمسؤولة عما يحدث في المنطقة، أو حصر الإشكال بين بلادنا وإيران فقط، وليس ضد الأمة العربية بأسرها، تجاوز ليس له من تفسير سوى أنه تحامل وحقد لا تخفى علينا أسبابه وأربابه، بل هناك بعض من العرب يعتبر بلادنا السبب في كل ما يحدث من صراع ونزاعات في المنطقة، وهذا ما دأبت عليه كل القنوات التابعة للولي السفيه، والموالون له من أحزاب وساسة عرب ومستعربين، ناهيكم عن بعض الإعلاميين الذين بلغ بهم التطاول مؤخراً على بلادنا حداً يصدق عليهم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن خلق المنافق الذي إذا خاصم فجر..
إن من يتجاهل دور الملالي في كل ما يحدث في منطقتنا من إرهاب منظم، وتحريض وإثارة للفتنة بكل أشكالها، ليس إلا عميلاً متعاطفاً إن سياسياً أو مذهبياً! فعلى الرغم من كل ما يصدر عن الملالي من استفزازات وتهديدات وبيانات يعلنون فيها صراحة عن مخططاتهم وأهدافهم، علاوة على ما يُكشف عنه في بلداننا الخليجية من شبكات تجسس وتخريب وأعمال إرهابية، إلا أن أولئك الأفاقين يصرون على تجاهل كل هذا، ليرمونا بداء أسيادهم.
إن وقوف بلادنا سداً منيعاً أمام طموح إيران، هو من صميم دفاعها عن أمنها وأمن دول الخليج العربي واليمن، تلك الدول التي تشكل بلادنا لها عمقاً إستراتيجياً، وهذا حق لها ولهم، ولا يمكن أن تقف موقف المتفرج من انتهاكات الملالي، وهنا يحق لنا أن نسائل أولئك العملاء الخانعين عمن يتعدى على الآخر ويتدخل في مجاله الجغرافي، نحن أم الولي السفيه؟ ومن الذي يوظف المذهبية المقيتة ويجرها إلى ساحاتنا؟ ومن ذا الذي يستدعي الحرب بكل حمولاتها، من تهديد وتحريض وتهريب أسلحة وإعداد خلايا وميليشيات، لترتحل بكل ما فيها من موبقات عبر عملائها إلى مناطقنا؟ إنه لا أمل يُرجى من مخاطبة أولئك الإعلاميين الذين استبدت بهم الأحقاد ضدنا، بأمر هم يعلمون حقيقته جيداً!
لم ينفك الملالي منذ ثورة المقبور الخميني عن التهديد باحتلال أجزاء من منطقة الخليج العربي، وبعض الدول العربية، وقد أعلنوا عن مطامعهم تلك مرات عديدة بلا مواربة، وفي غاية الصراحة، ومن هذه التهديدات ما صرح به أحد علمائهم المعروف باسم (الكناني) لقناة فضائية بقوله: "نحن أمة جاهدنا من ألف وأربع مئة سنة، كنا ألفي شخص الآن أصبحنا ثلاث مئة مليون.. ونحن نسعى إلى السيطرة على الحجاز، وعلى نجد، وعلى الكويت، وعلى البحرين، واليمن، الحوثيون والزيديون إخواننا سوف يكونون الطوق الذي نسعى إلى امتداده على كل المنطقة، نحن لا نسعى إلى الأندونيسيين، أو إلى الجزائريين، أو إلى أفريقيا؛ لأن هؤلاء (يعني الخليجيين) يتبعون آفاق هذه المنطقة العراق"! هذه هي السياسة المعلنة للملالي، فالغاية هي احتلال دول الخليج العربي التي يعدونها تابعة لمنطقة العراق، وسبق أن قالوا إن العراق جزء من إمبراطوريتهم التي فتحها العرب في معركة القادسية، أما الحوثيون فهم المخلب الذي يحسبون أنهم قد يحققون عبره ما يخططون له، لكن هيهات لهم ذلك..
ومما يثير العجب أنه بعد كل هذه الصراحة المعلنة من قبل الملالي، يأتي من يقول من الإعلاميين العرب إننا نعتدي على اليمن، متجاهلين ما قام به الأقزام الحوثيون من انقلاب على الحكومة الشرعية، ليحققوا هدف الولي السفيه وأتباعه، ما يهدد وحدة المجتمع اليمني وينذر بصراعات طائفية، وحروب استنزاف كما هو حاصل الآن.. فإيران لا تريد لليمن أن يستقر.
إن وقوف الدول العربية وجامعتها موقف المتفرج، وعدم تصديها للإرهاب الإيراني، هو الذي جعل بلادنا وبعض دول الخليج العربي تقف بقوة وحزم أمام محاولة الملالي التمدد داخل حدودنا عبر اليمن، لاسيما بعد أن أصبحت التنظيمات الإرهابية الموالية لهم، كحزب الله الإرهابي، تمارس التخريب والقتل في دول عربية، منها ما كان إلى وقت قريب بوابة منيعة أمام المشروع الإيراني، كالعراق الذي أصبح محتلاً من قبل الملالي، وفي هذا يقول أحد سياسييهم: "إن خيارات الدول الخليجية أصبحت تتقلص في مواجهتها للمشروع الإيراني، ولم يعد في العراق اليوم صدام حسين، ولا ابن لادن في أفغانستان، وتستطيع إيران أن تصل إلى أماكن لا يتصورها زعماء العرب، بسبب تأثيرها على الشعوب الإسلامية الثائرة (أي شيعة الدول) ضد الظلم في العالم الإسلامي (أي الحكام السنّة)".. وإزاء هذا الاستفزاز يتساءل الشرفاء: إلى متى تظل الدول العربية تتعامل بكل هذا البرود والبلادة مع إيران، ومخططاتها وأطماعها في المنطقة العربية؟ وما الذي كان يمكن أن يحدث للمنطقة العربية لو لم تبادر بلادنا ومعها عدد من الشرفاء للوقوف ضد مشروعات الملالي المدمرة؟ بل إنه لو كانت جامعة الدول العربية تهتم بالشأن العربي كله كما يجب، لما تجرأ قائد الحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري، على القول: "إن إيران هي من تقرر مصير سورية، وإن الدول الكبرى لا بد أن تتفاوض مع إيران لتحديد مصير دول المنطقة بما فيها سورية"! كيف لمن يسمع هذه التهديدات أن يصمت حيالها؟
يعرف عن الملالي أنهم يديرون حروبهم بعيداً عن حدودهم، بالوكالة عبر الميليشيات الإرهابية التي أنشئت لهذا الغرض، في لبنان واليمن والعراق وغيرها، فهم لا يتجرؤون على المواجهة بعد كأس السم الذي تجرعوه، لكنهم مع هذا ما يزالون يهددون بلادنا بين الحين والآخر بشن حرب بما يشبه الجعجعة التي بلا طحن، وقد حذرهم مركز دراسات ديبلوماسية إيراني "من السير في هذا التهديد، بمواجهة السعودية عسكرياً؛ لأنهم سيدفعون ثمناً باهظاً لو فعلوا ذلك؛ لأنهم لا يملكون الإمكانات والتجهيزات العسكرية التي تمتلكها السعودية، ولا الأموال ولا العلاقات الدولية المتينة، وإن إيران ستكون الخاسر الأكبر في حال اختارت المواجهة العسكرية المباشرة".
ويرى مراقبون "أن استمرار استباحة إيران المنطقة العربية جعل الدول العربية، خصوصاً الدول الخليجية، تتبنى موقفاً حازماً وحاسماً تجاهها، فكانت (عاصفة الحزم) التي هدفت إلى دعم الحكومة الشرعية اليمنية وتقويض النفوذ الحوثي - الإيراني، وهو مؤشر واضح على استراتيجية -خليجية تقودها السعودية- جديدة للتعامل مع إيران، دون الاعتماد على دعم القوى الغربية التي اتضح أنها بدأت تنأى بنفسها عن التورط في قضايا المنطقة وأزماتها"!
انتصار آخر حققه بشار الأسد وحلفاؤه الإيرانيون والروس واللبنانيون والعراقيون في حلب. فقد تمكنوا من الانتصار على الصورة. على صورتهم وهم يقتلون سوريين. فالعالم تواطأ معهم إلى حد صار فيه قولهم إنهم يقتلون إرهابيين أصدق من صورتهم التي تكشف أنهم يقتلون أطفالاً ومدنيين. وهذا نصر يفوق في النهاية نصرهم على الفصائل السورية المعارضة.
وهو درس مفاده أن للمجرم مكاناً محفوظاً في هذا العالم. المجرم الذي لا يُمكن أن يُعرَف بغير هذه الصفة. هي مجال تفوقه الوحيد، وهي مصدر الاعتراف الدولي به. كن مجرماً وستنال اعتراف العالم بحقك في أن تكون موجوداً. هذا هو درس حلب. لا شيء يُفصح عن هذه المعادلة الرهيبة أكثر مما يجري في حلب. انتهت جولة من جولات القصف والقتل، وعلينا أن ننتظر تصريحاً من المندوب الأممي دي ميستورا يطلب فيه من الفرقاء التعامل مع الوقائع الجديدة الناجمة عن جولة القصف الأخيرة، وقد لا يخلو تصريحه من تضامن مع الضحية.
والحال أن تواطؤ العالم على أهل حلب فاقه أمر آخر، هو أن يعلن محور الممانعة النصر على المدينة. «المقاومة» انتصرت في حلب، وهي انتصرت هناك في اليوم الذي كانت طائرات إسرائيلية تقصف مواقع لها بالقرب من دمشق، ومن دون أن تواجه بغير الصمت.
صمت في دمشق، وشجاعة المدافع في حلب. نصر هنا ونصر هناك. انتصار أذلاء دمشق على حفنة محاصرين في حلب، وعلى ما تبقى في المدينة من فقراء. و «النصر» إذ يعلن عن نفسه في صحف اليوم لا يخجل من صمته على هزيمة موازية.
إنه «نصــر» هائل فعلاً، ذاك أن ما يجري في المدينة هو سحق لأي قيمة ترتفع عن القوة أو تسعى لغيرها. بشار الأسد، ومن حوله أشرار العالم، لهم الحق في قتل هؤلاء المدنيــين. الصور قالت ذلك. الحـــيرة في إطلاق الحـــكم على الفعلة. سعي العالم لإيجاد لغة تقبل ما يحصل، وتنسجم معه. «نريد أن نفاوض أحداً حول ما يجري»! أو «لا بد من التعامل مع الأمر الواقع»! أو «لا يمكن استــبعاد الروس عن أي تسوية سياسية»! هذه عبارات من قبيل اعتراف العالم بحق بشار وأشراره في قتل من يقتلون في حلب، وهي قيلت أثناء شن الغارات، وفي اليوم الذي انتشرت فيه صور فظيعة من المدينة.
ليست التجربة الشيشانية هي ما يكرره الروس في حلب. هذه المرة ثمة شيء أقوى من تدمير مدينة وقتل أهلها. الجديد في حلب أن القتل والتدمير يحصلان تحت أنظار العالم. كل العالم. في غروزني، وصلت صور الدمار بعد أكثر من سنة على حصولها، وفي ذلك الوقت منعت الصحافة من تغطية الجريمة. أما في حلب فيصل إلينا لهاث الأطفال، وتصلنا قصصهم لحظة بلحظة، وهم يموتون قبل أن تصل أنظارنا إليهم في صورهم، فيكون لنا السبق في هذه المحادثة البائسة مع القتيل. الطفلة الحلبية لم تتمكن من معرفة أن «هاري بوتر» الذي تحبه أرسل إليها كتبه عندما علم بشغفها بكتبه. ماتت الطفلة بقذيفة روسية ووصلت الكتب لاحقاً إليها. هذا كله لم يثنِ القاتل عن الإمعان في القتل، وهذا فارق هائل، فالمهمة في حلب تتخطى تدمير المدينة وقــتل أهلها، لتـــشمل أيضاً إنهاء أي وهم بقيــمة القتل وبمعناه، وجعله فعلاً عادياً ومألوفاً ومعترفاً به بصفته تفوقاً أصلياً وجوهرياً يمارسه القوي، فقط لأنه قوي، حتى لو كانت القوة في هذه الحال غريزة حيوانية. وهي أيضاً اعتراف العالم بحق القوي في القتل، وهذه معادلة لن تبقى بعد اليوم مقتصرة على حلب. فـ «الشرعية» التي اكتسبتها الجريمة موثقة هذه المرة، ولن يتمكن أحد من دحضها. المجرم أينما كان سيستحضر حلب ليقول للعالم أن جريمتي لا ترقى إلى هذه الجريمة التي قبلتموها جميعكم.
لا ينطوي هذا الكلام على أي مبالغة. التكالب على المدينة لا اسم آخر له، وممارسوه لا يسعون أصلاً لدفع هذا الاسم عن أنفسهم وعن فعلتهم. «فليمت من يموت، الأهم أننا نريد المدينة». «العالم يرى أننا حفنة ذئاب؟ لا بأس، فهو سيقبل شركاء ذئاباً»، وهم محقون في ما يعتقدون، ذاك أن «البحث عن شركاء في العملية السياسية» أملى قبول التعامل مع قاتل وانتظار فراغه من مقتلته.
هل من شيء أكثر استدراجاً للذهول من حقيقة أن العالم ينتظر بشار الأسد حتى يفرغ من تدمير حلب وإفناء أهلها حتى يُباشر «العملية السياسية». فليتخيل المرء نفسه هناك، طفلاً أو امرأة أو مقاتلاً. المعادلة تقضي بأن العالم سيتدخل فور إنجاز بشار الأسد مهمة قتله!
حين باشر بوتين مهمته في المدينة، استحضر العالم تجربة غروزني. لقد ضُرب صمت على ما حصل هناك أيضاً. لكن الصمت وجد مخرجاً له يتمثل في أن أحداً لم يُعاين ما جرى في العاصمة الشيشانية، وكثيرون منا فشلوا في الوصول إلى الشيشان حينذاك. ليست هذه حال حلب. الصمت لن يسعف العالم. المدينة أُحيلت ركاماً تحت أنظاره. القيم أيضاً صارت ركاماً، وأي ادعاء بعد اليوم لن يستقيم.
غير أنّ ثمة قبولاً أخطر من قبول العالم، بصفته هيئات سياسية وقيمية، بأن تُدمر مدينة ويُقتل أهلها تحت أنظاره. إنه قبول الجماعات والمجتمعات حول المدينة، وصمتها حول ما يحصل فيها. نعم، نحن نهضم ما يجري هناك بشيء من الغضب، ولكن بميل إلى القبول وبإشاحة النظر عن وجه الضحية وعن وجه القاتل.
وبعد اليوم لن تقوى كرامة على النهوض في وجه جلاد. الدرس الحلبي كبير جداً على هذا الصعيد. ولكي تكون منتصراً عليك أن لا تخجل بارتهانك لإرادة القوي، وأن تكون بلا قيم وبلا كرامة، وأن تعلن انتصارك على ضعفاء قومك بلا وجل ولا خجل، وأن تضرب صفحاً عن الطائرات الإسرائيلية حين تأتي كل يوم لتأديبك.
هل تذكرون التظاهرة الإسرائيلية في تل أبيب عشية حصار بيروت؟ لم يجرِ لحلب ربع ما جرى لبيروت في تل أبيب.
لم يحظى الشعب السوري بفرصة للحياة كما تمنى ذات يوم، لكنه لو كان في جزر “الواق واق” لاستطاع أن يحظى بعدالة السماء واستطاع أن يتحصن بشجر الحور، و أن يجد في ثمرة “جوز الهند” ما يشرب ويأكل، و لرسم بشجر الكينا حدوده، وحصل على حريته دون زحمة الصواريخ، ودون أن يحتاج الى حكومة مؤقتة او انتقالية، ولن يحتاج لمشّرع يضع قوانين العدالة الانتقالية، والأهم لن يكون بينه سارق ولا متعدي ولا غني ولا متسلق على الثورة.
هناك في جزر “الواق واق”، لا وجود لأروقة السياسة المكتظة بأجندات المجتمع الدولي والمعارضة وجحافل النظام، لا مكان لـقلق "ستيفان دي ميستورا"، فلم القلق، فهناك لا محاكم دولية ولا قوانين نزاعات تطبق، ولا مدين ولا دائن، فالكل يعيشون كما سوبرمان والسندباد وعلي بابا في عالم لا حقوق فيه ولا واجبات ولا قضاء ولا حدود.
و الجميل أن مندوب النظام في الأمم المتحدة "بشار الجعفري" ستجده هناك ينفث الدخان بهدوء، دون تلفيق الأكاذيب وفبركة القصص، فلا داع للامتعاض، وليس لديه وقت لتخوين المعارضة وشتمها، لأنه مشغول في احدى الجزر يجمع الحطب ليطهو الحل السياسي على نار التملق، ويرسم خطة قتل النظام للمدنيين ببساطة
أما المعارضة السورية في “الواق واق” فهي مقسمة بين ائتلاف في الجزء الشرقي، يبحث عن منصة له لإصدار البيانات واستنكار الإجرام في سوريا، ليرسلها للمجتمع الدولي عبر الحمام الزاجل، وبين هيئة التفاوض العليا في جزر الغرب التي ترتشف بعضاً من قهوة الهال وتصب جل اهتماماتها في إصدار تصريح صحفي يعلق على أشجار التوت ليكون أقرب للنعوات، تطالب فيه الأمم المتحدة بتمزيق خريطة النظام وايران وتنقل أملهم ببناء سوريا السيادة.
وماذا عن الأكراد هناك، أخيراً سيكون لهم دولة كردية وتنتهي قضية الدولة الكردية المستقلة، ليأخذوا جزيرة منعزلة، ربما سيختاروها بين جزر المعارضة والنظام، سيحققون حلمهم الذي رسموه مئات السنين وقد يرضون بقدرهم النهائي، ولكنهم سيضطرون لتعلم لغة جديدة هي لغة سكان “الواق واق”، بعد عذاب القومية الكردية التي قاتلوا فيها الجميع، ولكني لا أملك اليقين بأنه لن ينشب خلاف بين قوى بي واي دي والبشمركة السورية، على اتجاهاتهم البنائية للدولة الكردية.
أما "أبو بكر البغدادي" وتنظيم الدولة قد يضطرون لتغييرراياتهم السوداء بأوراق شجر العرعر، ففي تتلك الجزر لا قماش أسود وا أحمر، سيغيرون إسم التنظيم من تنظيم الدولة إلى “ تنظيم الواق واق”، ويبحثون عن طريقة لردع الناس، ولربما تكون فرصتهم هناك أفضل في ظل غياب القوانين الوضعية، وسيطرة قوانين الطبيعة.
أما الشعب السوري سيجد الراحة في جزر “الواق واق”، وستنتهي معضلته في البحث عن فيزا إقامة أو زيارة أو حتى السعي وراء جنسية أوروبية، فالجنسية (الواقية) ستروي طموحاته، وسيبني كل مواطن سوري هناك كوخاً من خشب، ويوقد بجانبه النار في الليل ويتعلم من سكان “الواق واق” عاداتهم ومعتقداتهم، كعادة الشعب السوري سينبهر في بداية الأمر بأولئك الناس، بلباسهم الذي يقتصر على بعض أوراق الشجر الذي يوضع على عوراتهم، وعقود الورد التي تزين رؤوسهم، يحملون أغصان الشجر في أيديهم، لديهم عادة الرقص كل ليلة رقصة تشبه رقصتي الزومبا، بعد أن يوقدون النار في منتصف دائرة يصنعونها بإجتماعهم الذي صعب علينا نحن السوريون أن نصنعها، سيتعلم الشعب السوري تلك الرقصة في أيام، وسيصدرون أصواتاً متواترة كما يفعل أهل الجزر والتي تعتبر نغمة للغتهم التي تعتمد على اشارات وأصوات الصم، ومن ميزات تلك اللغة أنها لن تتعب أي سوري في تعلمها، فحركات الرأس والإيماءات لن تستغرق أكثر من ثلاثة أيام للتعامل مع سكان تلك الجزر.
في النهار لن يكون لدى السوري أي حاجة للمشقة لتدبير مبلغ يدفع به أجار المنزل، وليس لديه حاجة للبحث عن عمل في مطعم كنادل أو كسمسار عقارات، لن يكون لدى السوري هاجس الذهاب للمدرسة لتعلم لغة ألمانية أو فرنسية أو انجليزية أو تركية، ولن يسيطر على أحد السوريين الخوف من حكومة “الواق واق” أن تلقيه في أول "يم" يمرعلى شطها، لأن قوانين الأغراب هناك شبية بقوانين أهل الجزر، وربما سيستمع السوري بميزات الضيافة لأعوام، وسيحصل على الجنسية بإيماءة واحدة من أحد سكان الجزر، ففي "الواق واق" الكل متساوون ويستطيعون منحك الجنسية.
عصام شبكة شام, [11.12.16 17:11]
وبينما الشعب السوري منشغل بتلك المعيشة “الرغيدة”، بعيداً عن التلفاز والانترنت وبعيداً عن هجمات حلب وقصف ادلب وتهجير أهالي ريف دمشق، ترى المعارضة تفكر بطريقة لوضع سياج حول الكوخ الذي اتخذته مقراً سياسياً لقوى المعارضة ي إحدى الجزر، فلا حاجة هناك لعوام الشعب ولا لتأيدها، يلزمهم فقط علاقات مع مسؤولي جزر “الواق واق”، وأكثر ما يمكن أن يقوم به أولئك المسؤولين هو منح الإئتلاف تفويضاً بعمل ما يشاء من اجتماعات و لقاءات و ندوات وورشات عمل و يجري التوسعة بالشكل الذي يريد و الطريقة التي يجدها تناسب أعضاءه، لتبدأ هنا مهمة الأمانة العامة للإئتلاف التي تقتصر على التشاور كيف تكتب بياناً عن أحداث حلب وأين ستنشر البيان، وريثما تتفق على آلية كتابة البيان والنشر على أي نوع من أنواع الشجر، ستكون أحياء حلب الشرقية هناك في سوريا بيد الأسد وايران، بينما لا تزال هيئة التفاوض ترسم خطة كيف تتوصل لاتفاق الرياض، ومتى سيكون موعدها المقبل في جنيف وكيف ستعيد القلق الى قلب دي ميستورا وترضي ترامب المتذبذب.
وبينما يصول الشعب هناك وتجول المعارضة هنا في جزر”الواق واق”، تجد الأسد منشغلاً بلعبة الأرض المحروقة، تساعده روسيا على اشعال سوريا جواً، وايران تدحل المناطق المحررة براً، أما الجعفري فلا يزال يجادل مجلس الأمن حول الحل السياسي ومرحلة انتقالية بحكومة وحدة وطنية لن تكون إلا بوجود الأسد، ولكنه سيقنع بعد وقت ليس بالطويل أنه لا حاجة للأسد في “الواق واق”، لأن الأسد أحرق البلد وأنجز المهمة على أكمل وجه، ولم يعد لديه سبب للسفر الى تلك الجزر، وبات لديه فرصة لينعم بكل ما سرق من سوريا في أي دولة أوروبية بعيدة عن شط "الواق واق"، وبعد كل هذه الأعوام والحروب، لن يعود من جرب قوانين "الواق واق" الى سوريا ليجرب قوانين وضعية جديدة، فكوخ من الخشب وبعض من جوز الهند والصنوبر وحساء أوراق الشجر قد تجعل السوري ينعم بسلام، بعيداً عما بقي من ركام سوريا.
لا تستمد الثورة السورية شرعيتها من استبداد النظام وفساده وإجرامه ومصادرته حقوق السوريين فقط، وإنما هي تستمد ذلك، أيضاً، من توقهم الى الحرية والكرامة والمساواة، والعيش كمواطنين لا كمجرد رعايا، لكن الثورات، والسورية منها، فوق هذين، تحتاج إلى تعزيز شرعيتها، وتحصين ذاتها، هذا يتعلق بحفاظها على مسارها، ومقاصدها النبيلة، كما بتصويب خطاباتها وطرق كفاحها وإدارتها أحوالها واحترامها إرادة شعبها.
وفي الواقع، أثبتت التجارب أن الثورات لا تسير في خط مستقيم، بل تنجم عنها تداعيات كارثية وخطيرة، وأن عنفها يطاول المجتمع المعني، وأنها يمكن أن تنجح أو أن تفشل، أو أن تحقق بعضاً من أهدافها، كما يمكن أن تنحرف أو تضيع، وهذا يشمل الثورات الشعبية أو المسلحة. لذا يمكن الجزم هنا، على ضوء التجربة التاريخية، أن الثورات المسلحة معرّضة أكثر من غيرها للوقوع في إغواء العنف والهيمنة والانزياح عن مقاصدها الأساسية، بتحولها إلى سلطة، أو تصرفها إزاء شعبها بوصفها سلطة، بخاصة قبل تحقيقها أهدافها، والشواهد على ذلك كثيرة في واقعنا العربي، مع الثورة الفلسطينية والسورية والمقاومة اللبنانية على سبيل المثل. أيضاً، مفهوم أن الثورات تقوم على التفاؤل في المستقبل، بيد أن التفاؤل المبني على العواطف أو الرغبات شيء ومسار الثورات وتبعاتها وتداعياتها ومآلاتها شيء آخر، إذ هنا لا تنفع العواطف ولا يفيد الإنكار.
لا نقول ذلك على وقع المأساة الحاصلة هذه الأيام في حلب، ولا بسبب سقوط هذه المنطقة أو تلك، ما أشاع حالاً من التشاؤم أو الإحباط، المشروعين والمفهومين، وإنما نقوله لأن الثورة السورية فعلاً تستحق المراجعة والنقد، بدلاً من المكابرة والإنكار.
القصد أنه من دون الاعتراف بأن هذه الثورة، على النحو الذي سارت عليه طوال السنوات الماضية، لا سيما منذ تحولها نحو العسكرة، وغلبة الصراع المسلح (صيف 2012) على أشكال الكفاح الشعبية، وهو ما تم بطريقة غير طبيعية وغير مدروسة، أخفقت في السياسة والتنظيم، إذ لم تعد لها رؤية سياسية واضحة ولا استراتيجية عسكرية مدروسة، واعتمدت العفوية والمزاجية والقدرية والارتهان للخارج، في طرق عملها وبناها وصراعها المسلّح، ما أضعف صدقيتها أمام شعبها وأمام العالم.
هكذا، لم تنجح الثورة السورية، على رغم مرور ستة أعوام على قيامها، وعلى رغم كل هذه التجربة والكوارث والتحديات، في إنتاج كيان سياسي مقنع يشكل بديلاً للنظام، ولا تشكيل جيش وطني، ولا في جذب غالبية السوريين واستقطابهم من حولها، ولا في طرح نفسها كبديل، مع كل الاحترام للجهود والتضحيات والبطولات التي بذلت. والمعنى أن الاعتراف بهذه الحقيقة أمر لا بد منه، ويشكّل أساساً لأي مراجعة نقدية، وتمهيداً لازماً لأية خطوة تتوخّى تقويم المسار.
ثمة بعض من يرفض هذا الاعتراف انطلاقاً من أن الثورة السورية مشروعة، وأن كل شيء ينبغي أن يصبّ في سبيل إسقاط النظام، مهما كان ثمنه، أو مهما كانت تداعياته على الثورة وعلى شعبها، ما يعني مفاقمة مشكلات الثورة، ويدفع نحو حرفها عن أهدافها، فضلاً عن أنه يقوّض صدقيّتها.
والحال، لا مناص للمعارضة بكل أطيافها، السياسية والعسكرية والمدنية، من الاعتراف بوجود أزمة في الثورة، علماً أن هذا التوصيف أضحى أمراً مجازياً، بحكم قصور بني الثورة، وانزياحها عن أهدافها أو مقاصدها الأساسية، وتخلف أشكال عملها، والفجوة بينها وبين مجتمعاتها. والحال، فنحن فعلاً إزاء أزمة ثورية أو إزاء حالة استعصاء في الثورة، وليس في المجتمع فقط، فالكيانات السياسية والعسكرية والمدنية لا يبدو أنها تشتغل كأدوات للثورة، مع قصور تمثيلها، وضعف فاعليتها، وتدني أهليتها، وتخلف خطاباتها، وارتهانها للخارج، في المقابل، فإن المجتمع السوري لا يبدو قادراً على إنتاج أو إعادة إنتاج حالة سياسية تتمثل الثورة، أو تعيدها إلى مسارها وأهدافها الأولية (الحرية والكرامة والمساواة والمواطنة والديموقراطية).
ما تقدم حصل بدفع من أسباب عدة، أهمها: أولاً، التفجّر الهوياتي (الديني والمذهبي والإثني) الذي اشتغل النظام بدأب عليه، في حين لم تفعل المعارضة ما عليها لتفويت ذلك، بل إن بعض الأوساط الفاعلة فيها استمرأ هذا الأمر واستهواه وبات يتصرّف بناء عليه، الأمر الذي يفسّر عزوف فئات كثيرة عن الانخراط بالثورة أو حتى تخوفها منها، ناهيك عن أن هذه الثورة لم تستطع أن تقدم طرحاً متميزاً أو جاذباً بخصوص المسألة الكردية. ثانياً، الإحباط الناجم عن ضعف الإمكانات في مجال الصراع المسلح، وهو ما استدرجت إليه الثورة السورية بتشجيعات خارجية، ومن دون تدرجات ولا إمكانات ولا استعدادات، لا سيما مع غياب استراتيجية واضحة ومدروسة تحكم هذا العمل. ثالثاً، واقع تعفّن الصراع السوري، بحكم طول مدته، ومع كل الكوارث والمآسي التي نجمت عنه، والناجمة أيضاً عن المداخلات والتلاعبات الخارجية في الثورة، من جانب ما يسمى بمعسكر «أصدقاء الشعب السوري»، هذا إضافة إلى التدخل العسكري لمصلحة النظام من جانب إيران وميليشياتها في العراق ولبنان وأفغانستان، ومن روسيا وأساطيلها الجوية والبحرية. رابعاً، خروج الشعب من معادلات الصراع مع النظام، بعد إزاحة أشكال النضال الشعبية، والتحول نحو العمل المسلح، ما حصر الصراع بالفصائل العسكرية، وأيضاً، بحكم تشرد أكثر من نصف السوريين، لاعتماد النظام الحل الأمني والبطش بما يعتبره البيئات الحاضنة للثورة، وأيضاً بسبب عجز الفصائل العسكرية في ما يسمى المناطق المحررة عن إقامة إدارات مدنية كفوءة، وتحولها إلى سلطة تحاول فرض رؤية معينة بواسطة الإكراه والعنف، علماً أن تفاقم حال اللجوء حصل بسبب التحول نحو حصر الصراع بالسلاح.
والخلاصة، ثمة أزمة في الثورة السورية، وهذه لا يمكن حلّها، أو محاولة حلّها، إلا بالاعتراف بأوجه القصور الحاصلة، في كل المجالات، وما ينبغي لفت الانتباه إليه، هو أن العامل الخارجي لعب دوراً كبيراً في تأزيم هذه الثورة، لكن المشكلة تكمن في استجابة أطراف المعارضة، السياسية والعسكرية والمدنية، لها بدل صدها ومواجهتها وتفويت استهدافاتها.
أسقط الفيتو السادس الذي استعملته روسيا قبل يومين، لإفشال مشروع القرار المصري - الإسباني - النيوزيلندي لإعلان هدنة لمدة أسبوع في حلب، آخر فرصة ممكنة لفتح ثغرة في جدار الحل العسكري، يمكن أن تؤسس لإحياء الحل السياسي عبر إخراج «جبهة النصرة» من شرق حلب، بما يساعد ستيفان دي ميستورا على إنجاح رهانه على إحياء مفاوضات جنيف عبر هذه التجربة.
على هذا الأساس لم يكن غريبًا أن تتزامن تصريحات دي ميستورا عن إمكان سقوط شرق حلب في يد النظام وحلفائه الإيرانيين، مع التصريحات المتناقضة التي تراشق بها سيرغي لافروف وجون كيري حول مسألة خروج كل المقاتلين من شرق حلب، ففي حين أعلن لافروف أن واشنطن وافقت على هذا، نفى كيري أن يكون قد حصل مثل هذا الشيء، لا بل إنه ذهب بعد اجتماعه في بروكسل مع نظرائه في حلف الأطلسي يوم الأربعاء الماضي، إلى خلاصات يائسة إن لم أقل إنها تيئيسية، لكنها انطوت ضمنًا على تحذيرات من اليوم الثاني بعد سقوط حلب في يد النظام وحلفائه.
تقول واشنطن بلسان كيري إنه حتى لو سقطت حلب، وقد يحدث ذلك وربما لا، فإن التعقيدات الأساسية التي تقف وراء هذه الحرب لن تنتهي، «الحرب ستستمر.. العنف سيستمر»، لكن المحللين الروس كانوا في الوقت عينه ينقلون عن لافروف أجواء تقول «إن ما بعد حلب ليس كما قبلها»، بما يعني أن الفيتو الروسي السادس لدعم الحل العسكري في سوريا من جهة، وإقفال الفرصة على أي تفاهم بين موسكو وواشنطن على السعي فعليًا لوضع أسس لحل سياسي من جهة ثانية، أكدا نهائيًا رغبة فلاديمير بوتين في حسم الأمر في حلب قبل تسلّم دونالد ترامب مهماته في 20 يناير (كانون الثاني) المقبل.
يبدو هذا الاتجاه جليًا بعدما استنفد لافروف كل مناوراته، التي بدأت بمطالبة الأميركيين بالفصل بين «جبهة النصرة» وباقي المنظمات، وكان هذا مستحيلاً في ظل القصف الروسي المدمر والبراميل التي تتساقط على الأحياء، مما يؤكد رغبة روسيا الدائمة في فرض النظرية الأولى التي أطلقها بوتين صراحة في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي بعد تدخله العسكري، عندما اعتبر أن كل معارض للرئيس بشار الأسد والنظام إرهابي!
لافروف قال قبل أيام إنه تفاهم مع كيري على خروج كل المسلحين من شرق حلب، ورغم نفي كيري، أضاف قائلاً إن على جميع المسلحين مغادرة حلب أو الموت، وإنه في كل الأحوال من يرفض المغادرة طوعًا سيتم القضاء عليه ولا توجد أي خيارات أخرى، ومن الطبيعي أن يعيد ذلك الأمور إلى مربع القتل الأول الذي كان بوتين قد أعلنه قبل 18 شهرًا.
هذه خلاصة الموقف الروسي حيال الأزمة السورية، وقد كان من الواضح دائمًا أن كل المحادثات والمشاورات والشروط العرقوبية التي طرحها لافروف على كيري، إنما هدفت إلى تغليف المضي في الحل العسكري، بإثارة غبار التعمية عبر الزعم أن موسكو تسعى إلى الحل السياسي على قاعدة أن الشعب السوري هو من يقرر مصيره.
قبل ثمانية أشهر، تباهت موسكو بأنها تستقبل شخصيات من المعارضة السورية في سعي للبحث عن حل سياسي، كان واضحًا أن معظم الذين ذهبوا هم من معارضة الداخل التي فبركها النظام، والذين لم يكونوا كذلك عادوا بالخيبة، وآخر إبداعات لافروف أنه استجاب قبل ثلاثة أسابيع لوساطة تركية، تمثّلت باستضافة أنقرة محادثات بين ضباط روس وممثلين عن المعارضة المعتدلة في حلب، وكان من نتيجة المحادثات أنه تم التوصل إلى اتفاق من أربع نقاط، وهي:
1 - وقف إطلاق النار في حلب الشرقية. 2 - خروج عناصر «جبهة النصرة» وهو ما طالبت به موسكو دائمًا وعرض دي ميستورا أن يواكب شخصيًا خروج هؤلاء. 3 - إدخال المساعدات الإنسانية إلى المحاصرين وبينهم كثير من الجرحى. 4 - الإبقاء على الإدارة المحلية القائمة في تلك الأحياء من أعوام في انتظار الحل النهائي.
عندما رفض النظام والإيرانيون هذا الاتفاق وتمسكوا بالمضي في الحسم العسكري بعدما ساعدتهم حملات القصف الروسي المكثفة، وجد لافروف مخرجًا سريعًا لإسقاط هذا التفاهم، عبر الإعلان المفاجئ أن الأميركيين وافقوا مع موسكو على خروج كل المقاتلين من شرق حلب، وهو ما دفع المنظمات المعتدلة التي شاركت في المفاوضات في تركيا إلى الإعلان أنها لن تنسحب وستقاتل في شرق حلب حتى الموت.
المثير أن واشنطن نفت أن تكون وافقت على ما أعلنه لافروف، وحتى إعلانه أن هناك خبراء روسًا وأميركيين سيجتمعون نهاية الأسبوع في جنيف لبحث الجوانب اللوجيستية، وتفيد التقارير بأن تركيا التي استضافت المحادثات كانت تراهن على التأسيس لمقايضة تسمح لها بالوصول إلى مدينة الباب الاستراتيجية، لقطع الطريق على الأكراد في مقابل تسليم رقبة «جبهة النصرة» في شرق حلب، وهنا ليس من الواضح أين هي حدود الرهان الأميركي الذي كان يراقب ما يجري.
لم يكن جون كيري في حاجة إلى إثارة التقزز من خلال محاولة التعمية على الفشل الأميركي الفاضح والمتمادي في سوريا، عبر تحميل المعارضة السورية مسؤولية رفض الهدنة منذ البداية، بالقول إنها رفضت اتفاقًا لوقف النار كانت قد وافقت عليه إيران وروسيا خلال الاجتماعات الأولى لمسار فيينا، ذلك أن الظروف في ذلك الحين كانت مختلفة، على الأقل لأن واشنطن كانت في حينه تتحدث عن حتمية الحل في إطار انتقال سياسي، وهو ما كانت موسكو قد رفضته، لا بل أفشلته دائمًا منذ مؤتمر جنيف الأول في عام 2013، الذي عقد على أساس البنود الست التي وضعها كوفي أنان في حينه، الذي سيتهمه النظام بالانحياز في وقت لاحق، كما حصل مع الأخضر الإبراهيمي ويحصل الآن مع دي ميستورا!
في أي حال بدا حديث كيري الوداعي في خلال آخر اجتماع له مع وزراء خارجية حلف الأطلسي، كأنه يقفل باب اهتمام إدارة أوباما بما يجري في حلب، التي تذبح على عيون العالم، لكنه جاء بمثابة وصية لافتة يجب ألا تنسى، عندما يقول إن بشار الأسد لن يمكنه توحيد بلاده وجمع أهلها مع بعضهم بعضًا، كما أنه لن يتمكن من إعادة تحقيق الإعمار، لأن ذلك سيحتاج إلى مئات المليارات من الدولارات، والمجتمع الدولي لن يساعد في ذلك ما لم تكن هناك تسوية سياسية، وهو ما يصرّ الأسد دائمًا على رفضه!