٢٩ يناير ٢٠١٦
السؤال الذي يطرح نفسه بعد التطورات المتعلقة بالمفاوضات على الحل السياسي السوري في جنيف هو ما إذا كانت المعارضة السورية المتمثلة بالهيئة العليا للتفاوض مع النظام السوري، المنبثقة من مؤتمر الرياض، ستربح شيئاً لمصلحة قضية الشعب السوري في حال حضرت هذه المفاوضات بالشروط المذلة التي طرحها عليها وزير الخارجية الأميركي جون كيري خلال اجتماعه مع منسق الهيئة رئيس الوزراء السوري المنشق عن النظام رياض حجاب، على رغم البيان التوضيحي للمبعوث الأميركي مايكل راتني الذي حاول فيه التخفيف من صلافة الموقف الأميركي.
لم يعد السؤال المهم هو ماذا تخسر المعارضة إذا لم تحضر، على أحقية طرحه، في ميزان الربح والخسارة. بات واضحاً أن التوافق الأميركي - الروسي على إدارة ما يسمى العملية السياسية في سورية، وتنفيذ القرار الدولي 2254 الذي وضع خريطة طريق لها وحمل في نصوصه التباسات حول مرجعياتها، بين بيان جنيف 2012 وبياني فيينا الأول والثاني... لم يهدف الى إنهاء المأساة السورية.
أرادت موسكو وواشنطن من وراء مفاوضات جنيف والتفسيرات التي فرضتاها لنصوص القرار الدولي، تحويل هذا القرار والمفاوضات غطاء لتفاهمات واتفاقات جانبية بينهما، ومع بعض اللاعبين الميدانيين في بلاد الشام، خصوصاً إيران، لا علاقة لها بالحل السياسي السوري، ومظلة لاستمرار التقدم الميداني للحملة الروسية الجوية والنظام السوري وحلفائه من الميليشيات الإيرانية واللبنانية والعراقية ومن سائر الجنسيات. وانضمام واشنطن إلى موسكو باعتبار الفقرات 12 و13 و14 من القرار 2254، عن إيصال المساعدات الإنسانية الى المناطق المحاصرة ووقف الهجمات ضد المدنيين والعودة الآمنة للنازحين، مادة تفاوض وليست إجراءات للتنفيذ من جانب النظام، كشف عن أن سلاح استهداف المدنيين البشع سيبقى مباحاً بمظلة المفاوضات التي أريد لها أن تستمر 6 أشهر، وبموافقة واشنطن.
بين ما كشفته وقائع الأيام الماضية عن أهداف الشروط الروسية - الأميركية على المعارضة أيضاً يمكن ذكر الآتي:
1 - إن المبعوث الدولي استافان دي ميستورا برهن أنه خلافاً لسلفيه كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي، موظف بلا أفكار هدفها الحل السياسي، ينفذ إملاءات التفاهم الروسي - الأميركي لا غير، وإرضاء المطالب الإيرانية. وحسناً فعلت المعارضة بالتوجه الى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون بدل حصر التواصل مع دي ميستورا، الذي بات واحداً من «الموفدين الخاصين»، الذين تحركهم طموحاتهم لكسب رضا الكبار من أجل التأهل لمنصب الأمين العام.
2 - ما يهم موسكو والنظام ليس ضم «معارضين» آخرين الى وفد المعارضة (مثل صالح مسلّم وهيثم مناع وقدري جميل...) بل استبعاد من يتمتعون بقدر عالٍ من الحنكة والخبرة بألاعيب النظام ومكره (وحلفائه)، أو لتعطيل وجود هؤلاء أمثال حجاب وأسعد الزعبي وخالد خوجة وهادي البحرة... وغيرهم كثر من ذوي كفاءة تنزع عن المعارضين ما أشاعه مشككون بالمعارضة تارة بسبب قربهم من دول تساندها، وأخرى لأنهم «سذج». وبرهن هؤلاء في الأيام الماضية عن براغماتية وصلابة واستقلالية في التعاطي حتى مع دول صديقة وحليفة وداعمة، أثناء تعاطيهم مع شروط التفاهمات الأميركية - الروسية - الإيرانية.
3 - تمكنت المعارضة للمرة الأولى من توحيد قادة الخارج مع معظم قادة الداخل السياسيين والعسكريين، وبات التنسيق بين هؤلاء محققاً أكثر من أي وقت ما يسقط تهكم واشنطن وغيرها بأن المعارضة لا تمثل الداخل. بل ان الأخيرة باتت أمام معادلة تقول: بين اختيار استمرار العلاقة مع واشنطن وبين الحفاظ على مكسب وحدة الموقف مع الداخل السوري الخيار الحاسم هو لمصلحة الداخل، لا سيما أن التنسيق معه أخذ زخماً كبيراً أخيراً.
4 - إن تهديد واشنطن بوقف دعمها المعارضة إذا لم تذعن للمشاركة في جنيف وفق مطالب موسكو والنظام لن يغير الواقع. فالأميركيون لم يقدموا في المرحلة الماضية دعماً يحدث فرقاً ميدانياً.
5 - إن بين نصائح كيري وأعوانه للمعارضة والتي تبلغتها قبل 4 أشهر هو طمأنة إيران الى مصالحها في سورية وهي القبول بالممر الآمن لطهران من مطار دمشق الى بيروت. فكيف يمكن للمعارضة أن تذعن لهذا الطلب في وقت تستمر الميليشيات التابعة لـ «الحرس الثوري» و «حزب الله» في مقاتلة المعارضة المسلحة وتشارك النظام في المجازر وحصارات التجويع والقتل؟
٢٨ يناير ٢٠١٦
ما تسرب عن لقاءات جون كيري الأخيرة مع بعض قادة المعارضة السورية في الرياض يشير إلى تهديدات أطلقها وزير الخارجية الأميركي ضد هؤلاء قال فيها إنَّ الولايات المتحدة ستوقف دعمها لهم إن هُمْ بقوا يصرون على مواقفهم ولن يقبلوا بإعادة تشكيل وفدهم إلى (جنيف3) ويوافقوا على ما تم الاتفاق عليه مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي يتمسك بصيغةٍ في غاية السوء إنْ وافق «المعارضون» عليها فإن هذا سيعني الاستسلام لنظام بشار الأسد والعودة إلى وضع ما قبل مارس (آذار) عام 2011.
وبالطبع فإن آخر ما قيل في هذا المجال هو أن المعارضة لن تذهب لا إلى (جنيف3) ولا إلى غيره وفقًا لوجهة النظر الأميركية - الروسية هذه، وأنها لن تقبل بأي تغيير على قرار مجلس الأمن الدولي الأخير رقم 2254، وأنه إذا أراد الروس إشراك من يعتبرونهم معارضة داخلية فإن عليهم إدخالهم في وفد نظام بشار الأسد إن كمشاركين مثلهم مثل أعضاء الفريق المكون من «17» عضوًا برئاسة بشار الجعفري، وإن كمستشارين لهذا الفريق وبالصفة التي يريدونها.
والحقيقة أنَّ المعارضة السورية، التي غدت بعد مؤتمر الرياض العتيد تكوينًا واحدًا، سياسيًا وعسكريًا، قراره واحد وكلمته واحدة باتت تشعر أنَّ الأميركيين ليس خذلوها وتخلوا عنها وفقط بل وتآمروا عليها، وهنا فالمفترض أنه بات واضحًا أن هناك اتفاقا روسيا - أميركيًا على هذا الصعيد وأن واشنطن لم تكتف بالتخلي عن مواقفها السابقة ووضع نفسها في القاطرة الروسية، بل هي أيضًا لم تعد تتورع عن ممارسة ضغطٍ حقيقي على الأطراف العربية والأوروبية المعنية مباشرة بهذا الصراع لحملها على الاقتراب من وجهة النظر الروسية.
يريد الروس حتى الآن، نسْف قرار مجلس الأمن الدولي الأخير رقم 2254 وتغيير تركيبة وفد المعارضة الذي تم تشكيله وفقًا لهذا القرار والمعروف أنهم، أي الروس، كانوا نسفوا (جنيف1) في (جنيف2) بحجة أنَّ الأولوية يجب أن تكون لمقاومة الإرهاب وليس لتغيير نظام بشار الأسد، وحقيقة فإنهم نجحوا في هذا والدليل هو أنَّ جون كيري بات بالنسبة لكل هذه الأمور تابعًا لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بل وأكثر حماسًا منه للعبة الاتفاق على تشكيل ما يسمى: «حكومة وحدة وطنية» التي كان طرحها الإيرانيون منذ البدايات وبقي وزير خارجية هذا النظام وليد المعلم يتمسك بها للتهرب من الاستحقاق الذي دفع الشعب السوري من أجله كل هذه التضحيات الجسام.
والملاحظ في مجال إثبات أنَّ هناك تحولاً فعليًا وحقيقيًا في موقف واشنطن تجاه ما يسمى: «الأزمة السورية» ولحساب الروس ونظام بشار الأسد أن نائب الرئيس الأميركي جو بايدن قد أطلق تصريحًا خلال زيارته الأخيرة لتركيا قال فيه إن «الولايات المتحدة ستلجأ إلى العمل العسكري إذا فشلت الحلول السياسية في سوريا» لكن هذا التصريح ما لبث أن تغير بعد تدخلٍّ عاجل من إدارة الرئيس باراك أوباما، وأصبح إن «أميركا ستلجأ إلى العمل العسكري ضد (داعش) في سوريا» وكأنها لم تلجأ إلى العمل العسكري ضد هذا التنظيم الإرهابي حتى الآن ولم تشكل هذا التحالف الدولي الذي يواصل غاراته الجوية على دير الزور والرقة وعلى كثير من مواقع «داعش» في العراق.
ألا يعني هذا يا ترى أنَّ مع المعارضة السورية الحق كله عندما تتحدث عن انقلاب في الموقف الأميركي لحساب وجهة النظر الروسية التي بات واضحًا أن هدفها ومنذ البدايات هو إعادة صياغة نظام بشار الأسد، وإعادة تكريسه مرة أخرى ومن جديد، وهو القضاء على هذه المعارضة وعلى غرار ما جرى بعد مذابح حماه الشهيرة في عام 1982، حيث تواصل هذا النظام في عهد الأب وعهد الابن منذ ذلك الحين وحتى الآن؟!!
لقد اعترض الروس، بالإضافة إلى اعتراضاتهم الكثيرة، على وجود عسكري هو العميد الطيار أسعد الزعبي على رأس وفد المعارضة السورية إلى (جنيف3) ووجود أحد قادة جيش الإسلام في هذا الوفد بل وهم، أي الروس، قد اعترضوا وما زالوا يعترضون على مشاركة التنظيمات المسلحة في العملية السياسية المتعثرة لحل الأزمة السورية، وهذا يعني أن موسكو تريد تفجير هذه المعارضة من الداخل، وأنها تريد أيضًا دفع هذه التنظيمات إلى مزيد من التشدد، وربما إلى التحالف مع «داعش» و«النصرة» و«القاعدة» وباقي التنظيمات الإرهابية.
وهنا فإن المفترض أنه معروف أنَّ التنظيمات المسلحة، التي أصبحت منضوية في المعارضة السورية (المعتدلة) على أساس مؤتمر الرياض، الذي كان بمثابة نقلة نوعية هائلة بالنسبة لهذه المعارضة، قد حذَّرت من أن الذهاب إلى (جنيف3) وفقًا لما يطرحه الروس والأميركيون سيعني خروجهم الفوري من هذا الإطار المعارض مع الاستمرار بالتصعيد العسكري والاستمرار بمواجهة «التدخل الروسي» ومواجهة الإيرانيين وحزب الله، وبالطبع بمواجهة هذا النظام حتى إسقاطه والقضاء عليه. ويقينًا أنه إذا نفذ الروس والأميركيون ما يصرون عليه فستكون هناك خريطة سياسية وعسكرية جديدة في سوريا، وأنه غير مستبعد أن يكون هناك تحالف بين كل هذه التنظيمات المسلحة، التي كلها (معتدلة) حتى الآن، وبين «النصرة» وأيضًا ربما «داعش» و«القاعدة» وكل هذا، ويجب أن يكون معروفًا أن العرب السنة في هذا البلد المنكوب الذي يشكلون أكثر من 70 في المائة من شعبه، من غير المستبعد أن يتحولوا إلى بيئة حاضنة للإرهاب، وعلى غرار ما جرى في العراق بعد الاحتلال الأميركي في عام 2003، وبعد المعادلة البائسة المعروفة التي فرضها سيئ الصيت والسمعة بول بريمر ومعه الذين اعتبروا أنفسهم منتصرين على الشعب العراقي وعلى بلاد الرافدين.
يجب أن يكون معروفًا ومنذ الآن أنَّ تمرير اللعبة الروسية - الأميركية بالقوة وبالتهديد والوعيد وفرض هذا الاتفاق الأميركي - الروسي على المعارضة السورية، سيعني تحول سوريا إلى عراق جديد وإلى قاعدة كبيرة لتنظيم داعش، الذي نما وترعرع في البيئة التي استجدت بعدما تعرض العرب السنة في العراق إلى ما تعرضوا إليه، والذي ما زالوا في حقيقة الأمر يتعرضون إليه في «المقدادية» وفي «ديالى» وفي مناطق كثيرة من بلاد الرافدين.
مرة أخرى يجب أن يكون واضحًا ومعروفًا منذ الآن أنَّ سنة سوريا سيشعرون بمرارة ما بعدها مرارة، إن استطاع الروس والأميركيون تمرير هذه اللعبة الخطيرة التي يلعبونها الآن وإعادتهم إلى بيت طاعة هذا النظام الاستبدادي بعد كل هذه التضحيات التي قدموها خلال الأعوام الخمسة الماضية، وبعد كل هذا التشريد وكل هذه الويلات.. إنَّ بديلهم سيكون «داعش» وسيكون التنظيمات الإرهابية وعلى أساس ذلك المثل القائل: «لا يدفعك إلى المرِّ إلَّا الأمر منه»!!
٢٨ يناير ٢٠١٦
الحروب في معظمها تؤدي أغراضها وتجتاز رحلتها العسيرة لتصل إلى تغيير البديهيات التي أدت إلى نشوبها، أي أنها تجريد العقل لإرساء أفكار مختلفة فقدت أسباب توترها أثناء رحلة العلاج الشاقة في ساحة الحرب ومدتها تعتمد على طبيعة المرض وتفاقمه، ومع بداية الشفاء تنفتح الآفاق للخلاص من نزعات العدوان، لأن القوة تتحول بعد تجربة العنف إلى حالة ضعف مستترة.
الطريق إلى عيادة جنيف 3، يحتاج إلى تشخيص طبي موحد من قبل فريق المتخصصين الذين أشرفوا على صالة تفشى فيها وباء الحرب، وانحازوا إلى مريض دون آخر، وتفرقوا في العلاجات، ودخلوا في مهاترات في ما بينهم بلغات متعددة، واستخدموا كل أدواتهم المتاحة وما تعلموه في مناهجهم القديمة، فزادوا من توتر أعصاب المرضى، وانحطت الوصفات والأدوية لسقوط الأطباء في صراعاتهم، ذلك أدى إلى غياب الرعاية الأخلاقية وانحياز بعضهم إلى مراجعي عياداتهم الخاصة على حساب الباقين المصابين بجينات المرض على اختلاف درجات انتشاره في أجسادهم ونفوسهم.
مازلت أرى أن المشكلة الأكثر تعقيدا في مجريات المفاوضات بين الطرفين ليست في تشكيلة وفد المعارضة السورية، رغم الجدل والرفض والقبول، لكنها تجد لها حلا بالتفاهمات بين أطياف المعارضة الواسعة، لأنهم يعلمون مسبقا أنه لا يمكن إقصاء أي جزء من الشعب السوري اليوم أو غدا.
تظل المعضلة في وفد النظام المفاوض الذي لم ولن يفاوض إلا على بقاء النظام وكسب الوقت وإفشال الحل السوري، لأنه على الأرض لا توجد مفاوضات بين طرفيْن سوريين، إنما بين أوصياء داعمين وفي الحقيقة محتلين تمثلهم روسيا وإيران، مقابل معارضة سورية سعى النظام الحاكم إلى خلق وتوفير كل المناخات المناسبة لتفتيت وحدتها وتشويه سمعتها وإضعاف قوتها بإطلاق سراح التطرف الذي فتك بها عسكريا وسياسيا ووجه أنظار العالم إلى مخاطر عولمة الإرهاب، وكان من نتائجه التراخي في إدانة جرائم النظام وتجاهل مصير شعب تحول في سنوات قليلة إلى شعب محكوم عليه بالموت والتجويع والسجون والإبادات لإجباره على ترك أرضه، وهنا تستقر أهداف المستقبل ومخططات وبرامج المشاريع الإقليمية والدولية.
46 عاما من الحكم الواحد، والمعادلة حتما سجون وتعذيب معارضين وموت الآلاف ولو لمجرد “همزة لمزة”. الآلاف من الصور الموثقة ولم يقتنع العالم ليتحرك لإيقاف تداعيات وانهيار شعب ووطن عريق مثل سوريا.
سلطة استفادت من حماقة الاحتلال الأميركي للعراق وإلغاء وتقويض مؤسساته العسكرية والأمنية والمدنية، وأعطت مبررا لمخاوف العالم من تكرار النموذج العراقي، وبعده النموذج الليبي وآثار تدخل حلف الناتو، وكل موجة ما عرف بالربيع العربي، صبت جميعاً في تدعيم موقف النظام السوري دوليا، ولا ننسى تراجع الدور الأميركي في المنطقة عموما نظرا لسياسات الرئيس الأميركي وتوقيع الاتفاق النووي مع إيران لتهدئة اللوبي الصهيوني وترحيل المخاوف الإسرائيلية إلى فترة لاحقة.
بديهي أن نلحظ الغرور الإيراني في المنطقة، وتنامي الدور الروسي الذي وصل حد احتلال سوريا أو ارتهانها للوصاية وتكملة مشوار النظام في عقابه الهستيري تجاه الشعب، والحجة المتوفرة هي القضاء على الإرهاب وداعش، ذلك الغول الذي تم إطلاقه في المنطقة بظروف وتوقيتات واضحة لكن بغموض وانتشار في ظلام السياسة الدولية وتراخي المواقف وتفويض إيران في ملفات صنع الأزمات ودحرجة عجلة الصراع الطائفي.
لذلك تأتي الإملاءات الروسية على المفاوضات المتوقعة في جنيف القادم والتهديد بوفد معارض جاهز للإعداد إلى مستقبل سوري يعيد عرض الشكل الديمقراطي للانتخابات على مدى 46 عاما، وهذا ما أكده الرئيس السوري في لقاء صحفي “لا أرى مانعا من ترشحي للرئاسة في الانتخابات القادمة”.
وللحقيقة، وهي متغيرة أيضا مع الحياة ونسبية مع حركة الزمن، يتمنى الكثيرون من الذين عاشوا مأساة تغيير حاكم ورفض سلطة قمعية، لو أن شعوب المنطقة تناست مبادئ الثورات وما تقرأه في كتب الأمل بالحياة الأفضل والديمقراطية وحكم الشعب والعدالة والمساواة والحرية وحقوق الرأي والوطن للجميع في الحقوق والواجبات ومشاركة الإنسانية آمالها، لأن النتائج كانت تراجيدية وكل التوصيفات لا ترقى إلى أساليب البطش وحجم العنف والمداخلات في جرائم الإبادة.
الذهاب إلى مفاوضات لإيقاف حرب أهلية بحجم النزاعات في سوريا وتعقيدها، لا يمكن إنجاحه دون إلزام وإجماع دولي وإرادة موحدة تساعد الطرفين ليتفهما استحالة استمرار الحال على ما هو عليه، وإن أي نجاح يتوقف على الاستجابة لتنازلات من أجل وطن مدمر.
تبدو المفاوضات في جنيف 3 صعبة وبداياتها طرف استماع ونقل تمهيدا للقاء المباشر، الأخطر هو توقف وفد النظام عند نقطة بداية ونهاية في مضمار ما قبل الثورة السورية السلمية، ورفض حل العُقَد المزمنة المتمثلة باستمرار الحاكم وبدعم وتدخلات روسية إيرانية وحذر دولي من مخاطر الإرهاب.
بوادر تفعيل المفاوضات والثقة بها وما يعرف بمنشطات الأمل، بالاتفاق بعد أيام من بدئها بين الطرفين على وقف إطلاق النار بإشراف دولي ورفع الحصار عن المدن والسماح للمنظمات الإنسانية بالانفتاح في عملها، تلك الاتفاقيات تمنح روح التفاؤل للشعب وأيضا للمفاوضين، وتطبيع الانفعالات والاتهامات وصولا إلى تفاصيل المرحلة الانتقالية وغيرها من سجالات السياسة.
في سوح معارك الفرسان وكذلك في نزالات حل النزاعات شريفة الأهداف كمفاوضات الطرفين السوريين لا بد من احترام الخصم والتكافؤ، كشرط لقبول قناعات جديدة لبداية رحلة الشفاء العسيرة في عيادة جنيف 3.
٢٨ يناير ٢٠١٦
لا تحفظ ذاكرة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، على الرغم من البؤس الطافح على صفحاتها، أي نوع من التدخل الدولي العلني، في حق كلا الجانبين بتشكيل وفديهما. صحيح أن منظمة التحرير ذهبت ابتداء إلى مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 تحت ما سمي المظلة الأردنية، وصحيح أن حكومة إيهود باراك اعترضت، عام 1999، من دون جدوى، على قرار الرئيس ياسر عرفات تكليف عضو اللجنة التنفيذية، ياسر عبدربه، رئاسة فريقه إلى مباحثات الوضع النهائي، لكن أياً من الجهات الراعية للتسوية السياسية لم يخرج يوماً على الملأ، ليقول للفلسطينيين؛ ذاك مفاوض شارك في "الإرهاب" ضد إسرائيل، فلا نريده، وهذا مفاوض معتدل ينبغي أن تضموه إلى وفدكم، إن أردتم نجاح العملية السياسية، وإلا فلا.
كانت الوفود الفلسطينية إلى المفاوضات، منذ أوسلو 1993 وحتى كامب ديفيد 2000، بل حتى ما قبل وفاة عرفات، يختارها هو بنفسه، وتضم، في الغالب الأعم، أسماءً شارك أصحابها في النضال السياسي والعسكري، ضد إسرائيل، ثم استمرت الحال على هذا المنوال، في عهد الرئيس محمود عباس، إلى أن بلغت عملية السلام نهايتها المشؤومة، بسبب أنواعٍ من التواطؤ الغربي مع الاحتلال، ليس أحدها التدخل في تحديد أسماء المفاوضين.
على النقيض من ذلك، بل على النقيض من كل المبادئ والقيم والتقاليد التي طالما حكمت التفاوض بين قوى الاستعمار وثورات التحرر الوطني، كما بين الطغاة ومعارضيهم، نرى اليوم مساعي تسوية الصراع في سورية محكومة علناً بتدخلات فظة في تسمية مفاوضي المعارضة، ليس فقط من الوسيط الدولي، وإنما أيضاً من طرفٍ يشارك في الحرب عليها، أي روسيا. هذه الأخيرة تعترض على أشخاصٍ في وفد المعارضة، بذريعة مشاركتهم في العمل العسكري، كما تريد إضافة أسماء محسوبة عليها، أو هي مجرد ظلال للنظام السوري، وذاك يهدّد بعقد المفاوضات بمن حضر، إذا بلغت مقاومة الضغوط حد الامتناع عن المشاركة في مؤتمر جنيف.
يستدعي الموقف، هنا، تساؤلات عدة عن المعنى والمغزى والأبعاد، منها مثلاً، ووفق منطق المقارنة، حتى مع أحد أسوأ الخبرات التفاوضية؛ لماذا يقترف مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان دي مستورا، ما لم يجرؤ على اقترافه الموفد الأميركي، دينيس روس، عندما توسط في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وكيف نفسر تواطؤ أميركا مع نوعٍ من الإملاءات الروسية، التي ما كانت هي نفسها لتحاول فرض مثلها على الفلسطينيين، خدمةً لحلفائها الإسرائيليين، وهل السبب ضعف المعارضة السورية إلى درجة تنحدر كثيراً عما كانت عليه منظمة التحرير، أم أن السر يكمن في حرص ما يسمى المجتمع الدولي على توفير حماية لبشار الأسد من خطر وجودي، لم يسبق أن واجهه إيهود باراك، أو إسحق رابين، أو شيمون بيريس؟
ليتذكّر من يريد أن يتذكّر، إزاء هذه التساؤلات، أن وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، خرج بعد نحو أربعة أشهر من اندلاع الثورة الشعبية، ليقول بثقةٍ بدت حينها مثيرةً للدهشة، إن التدخل الدولي لن يحدث. كان الرجل، إذ ذاك، يُطمئن أنصار النظام، من طرفٍ خفي، إلى الحظوة التي يتمتع بها الأسد، في اللعبة الدولية، وإلى عقم الصيحات البريئة، أو الساذجة التي تعالت في أوساط المعارضة، داعية إلى حماية السوريين من بطش آلته العسكرية.
وعلى الرغم من تأكيد الأسد نفسه على هذا المعنى، حين حذر مبكراً من أنه يقف عند حافة ما وصفه بالفالق الزلزالي، فإن المعارضة واصلت، لخمس سنوات عجاف، تعلقها بأهداب المجتمع الدولي، وها هي تحار أمام إكراهات الذهاب إلى مفاوضات صممتها موسكو، بمباركة واشنطن، وربما تل أبيب، لكي يتفاوض فيها ممثلو النظام السوري (الإيراني؟)، مع ظلاله، ويخرجوا في ختامها، قائلين ما قاله الإسرائيليون بعد إبرام اتفاقيات أوسلو "لقد فاوضنا أنفسنا وحصلنا على كل ما نريد".
٢٨ يناير ٢٠١٦
في الوقت الذي نشهد فيه تراجعاً ملحوظاً في حركة داعش سواء على الصعيد المحلي ( السوري – العراقي) أم على الصعيد العالمي مع هدوء في العمليات التي تستهدف الدول البعيدة ، بدأت كل من روسيا و الولايات المتحدة الأمريكية ، بتقديم كل الامكانيات التي تساهم في تمهيد الطريق أمام داعش للعودة به من جديد إلى الواجهة ، احياءً لـ "الوهم" و تذكير العالم أن العدو في المنطقة و العالم هو "داعش" و كل ماعداه عبارة عن ثغاء لا يؤذي.
وقال تقرير لمنظمة "الرقة تذبح بصمت" أن هناك نشاط كبير يقوم به شرعيو داعش في دير الزور و الرقة بغية ضم المزيد من المقاتلين إلى صفوف التنظيم ، هذه الجهود التي تلقى تجاوباً جيداً من عامة الشعب الذي آثر في السابق عدم الاشتراك معهم ، و لكن مع عِظم الحملة الروسية و ارتكابها لمجازر أقل ما توصف بأنها "مروعة" ، خلفت قرابة ٢٠٠ شهيد مدني خلال يومين فقط ، يعد مبرراً كافياً و حجة لاتقبل الضحد ، بأن الحرب هي حرب شاملة على كل ماهو موجود على الأرض و ليست داعش وحدها المستهدف ، ولذلك لن يكون هناك خيارات متوافرة أمام المتواجدين هناك ، إما التسلح و القتال أو القتل بشكل أعزل.
هذه الهجمة التي أطلقتها روسيا حققت نتيجتها على الأرض السورية ، بالتزامن مع جرائم الحشد الشعبي الشيعي ، الذي أتم الجزء الثاني من المهمة و جييّش كل المواطنيين العراقيين "السنة" ضده و منح داعش مئات المقاتلين المجانيين و بدون أي جهد .
ولعل العمل الداخلي يتطلب جهود آخرى و هي تجييش المزيد ممن هم خارج هذه الدائرة ، لإعادة كامل وهج الرعب لداعش ، وهذه المهمة تكفلت بها أمريكا من خلال قرار احدى محاكمها القاضي بالسماح بنشر ١٩٨ صورة عن انتهاكات الجنود الأمريكي بحق سجناء عراقيين و أفغان في عام ٢٠٠٤ ، الأمر الذي سيعيد الصورة من جديد إلى بدايات العمل المسلح "القاعدي" في المنطقة و المتحول إلى داعشي فيما بعد، وهو بالفعل صبٌ لـ "الزيت" على النار ، و الذي سيخلف ناراً تأتي على كل ما يحيط بها ، والأهم أنه سيغطي على كل ما يحاك للمنطقة ليتم تنفيذه بهدوء و دون ضوضاء من لاعبين لا دور لهم سوى السير وراء "الحرس" الذي توجهه أمريكا.
٢٨ يناير ٢٠١٦
لايمكن الجزم أن الحقائب التي وضبت على عجل ، ستدخل في مستوعبات الطائرات التي ستنطلق من الرياض و دمشق و عدة بلدان باتجاه جنيف ، لتحط هناك وتفتح على طاولات الحوار الغير مباشر في اطار الوصول إلى حل للجلبة السورية التي أغرقت العالم في أوحال قد تحتاج سنون طويلة للتخلص منها و يمكن قرون للتخلص من تبعياتها .
ففي الرياض لازالت المعارضة متماسكة بشكل أربك كل الأطراف ، ولازالت أيضاً تمسك بـ"كروت" سرية و غير مفهومة ، تجعلها قادرة على مواصلة الرفض و التأكيد على أن لاحضور في جنيف أو دخول في أي حديث قبل التنفيذ الفعلي لمقررات ٢٢٥٤ ، مع التشديد على عدم اللعب في أي فقرة أو حدوث أي خلط بين ماهو انساني و ماهو سياسي ، ففي جنيف (وفق للمعارضة) مناقشة بنود الانتقال السياسي ، وما يسبق هذا الانتقال هو التحول إلى الهدوء الداخلي ، الذي سيكون داعم أساسي لها و كرت إضافي من كروت القوة .
لم تفلح الجهود التي قادتها معظم الدول سواء الداعمة للأسد أو التي تحسب على الشعب السوري أو المتباينة بين هذا و ذاك في فك العقدة ، ولم ينجح الترهيب و كذلك الترغيب في تليين الموقف الممانع للذهاب إلى جنيف و الولوج إلى الأجواء السويسرية ،بدون دخول الهدوء و الطعام و منح الحرية للمعتقلين.
رفع مستوى التمثيل في وفد النظام ، ودعوة رئيس الدبلوماسية ( وطبعاً شكلياً في نظام أمني بحت لايملك قرار نفسه ) ، وتحجيم بقية المدعويين من المحسوبين على المعارضة (جذافاً) ،و منعٍ لحضور آخرين إرضاء للاعبين مؤثرين على المعارضة ، في مجملها لم تفد في تليين الموقف لدى المعارضة التي اتفقت غالبية الدول (صاغرة أم راغبة) أنها الممثل الأهم إن لم يكن الوحيد للشعب السوري ، بعد أن تمكنت في لم شمل المعارضة السياسية و العسكرية و الخليط الإثني و القومي ضمن قالب وطني جامع .
إلى اللحظة لا يوجد "جنيف" في الأفق و الأنباء تتحدث عن تأجيل حتى الاثنين ليكون التأجيل الثاني على التوالي ، بانتظار إيجاد صيغة تدفع وفد المعارضة للخروج من مطار الرياض إلى جنيف و ليس إلى بلدان أخرى ، كي لا يبقى الحل السياسي "وهم" لا مكان له في الواقع.
و لعل التماسك الذي تبديه المعارضة السورية حتى اللحظة أثار الكثير من التساؤلات حول أسبابه ، و الأهم ماهي "الكروت " السحرية التي تستند إليه ، و يمكن أن تكون سرية و غريبة على كثيرين ، و لكن التوليفة التي تم الوصول إليها لأول مرة منذ خمس سنوات لها دور بارز ، و الأبرز من ذلك هو مدى التأييد الذي حظيت به من قبل الحاضنة العسكرية و المدنية و حتى الشعبية ، التي يمكنها للصمود مزيداً من الوقت ، الذي يطول أو يقصر تبعاً للقدرة على تحمل "آلام الأصابع " في لعبة "العض".
٢٨ يناير ٢٠١٦
كشفت الولايات المتحدة عن وجهها وخياراتها وانحيازاتها في سورية: لا للشعب السوري نعم لبشار الأسد، لا للسعودية وتركيا نعم لروسيا وإيران. لعبة الأمم وموازين القوى تنتصر للظلم في سورية. الأولوية لمحاربة الإرهاب، كما يقولون. لكن، مع «حل سياسي» كالذي تطبخه «تفاهمات كيري – لافروف»، لا تسألوا غداً لماذا هناك تطرّف، ومن أين يأتي، لأن تلك «التفاهمات» تؤسس لتوّها إرهاب «ما بعد داعش».
شطبت أميركا يوم 23 كانون الثاني (يناير) 2016 كل ما قاله مسؤولوها، بدءاً من باراك أوباما، عن النظام الذي فقد شرعيته، والأسد الذي يجب أن يتنحّى، وأن يرحل، ولا مستقبل له... بل شطبت «بيان جنيف». لم يعد له وجود، كما أراد الروس، وكما أراد الإيرانيون. أسقطت الغموض والأوهام التي اكتنفت «بيانات فيينا»، وسلّمت للتفسير الروسي للقرار 2254 الذي تلاشت مرجعيته لأي مفاوضات، فـ «الحل السياسي» المزعوم، وفقاً لإملاءات جون كيري على المعارضة، يعود الى مشيئة النظام وزمرته و «معارضته» المزيفة و «النقاط الأربع» الإيرانية وأنياب «الدب الروسي». تلك كانت حصيلة «عملية فيينا» التي ترافقت باللازمة القائلة أن أميركا لا تزال مختلفة مع روسيا على «رحيل الأسد»، غير أن لقاء كيري مع المعارضة في الرياض أظهر أن أميركا وروسيا اتفقتا أخيراً، لكن على «رحيل الشعب السوري».
إذاً، فلا حل بل مجرد دعوة للاستسلام وعرض للإذعان يكلفان المزيد والكثير من الدم والدمار. وما جاء به كيري الى المعارضة هو تهديد بـ «حسم عسكري» لن تتدخّل الولايات المتحدة للجمه ولن تساعد على مواجهته، أي أنها موافقة عليه ومساهمة فيه. لم تكن هناك أي سياسة في كلامه، بل إبلاغ فاقع الوقاحة بأن أميركا حسمت خياراتها بالانقلاب على الشعب السوري، وليست لديها أي ضمانات له. فلا «انتقال سياسي» ولا «هيئة حكم انتقالي» ولا «حكومة بصلاحيات كاملة»، لا لوم للنظام ولا محاسبة معه إن أفشل المفاوضات، إذا جرت، ولا دعم للمعارضة بعد اليوم سواء ذهبت الى المفاوضات أم لم تذهب... وذلك كلّه لا يشكّل «شروطاً مسبقة»، في نظر الوزير الأميركي، إذ إنه اتفق مع نظيره الروسي على «مفاوضات بلا شروط مسبقة». لا يمكن أن تكون هناك مقدمات أكثر غرابة بل وحشية لمفاوضات يراد منها إنهاء صراع دامٍ كالذي يدور في سورية.
لمن لا يزالون يسألون «عما بعد الاتفاق النووي»، ويترقبون مؤشراته متسائلين هل ستتغير إيران، جاءهم الجواب مدويّاً: أميركا هي التي تغيّرت. الى حدّ إظهار وجه أكثر قبحاً من ذلك الذي اكتسبته في حقبتها الفيتنامية. فعلت ما كان متوقّعاً منها، فكل الشكوك التي ساورت الحلفاء والأصدقاء حيال مواقفها تحقّقت الآن: لم تكن يوماً من «أصدقاء الشعب السوري»، بل كانت تخادع وتراوغ. اتخذت هذا الشعار ستاراً للتفاوض مع الروس. ولم تكن لديها استراتيجية فانخرطت في استراتيجية موسكو. فعلت ذلك بعد فضيحة السلاح الكيماوي، وكررته في مختلف المراحل، وواظبت عليه على رغم القطيعة بسبب أوكرانيا. بل خرقت تلك القطيعة فجأة لاستدعاء الدور الروسي الى أن أصبح تدخلاً مباشراً، كأنه ينوب عنها الى سورية.
في الشهور الماضية، قبل لقاءات فيينا، سكتت واشنطن وتركت الروس (والإيرانيين) يديرون الأزمة وحدهم. وإذا تدخّلت فلمساعدتهم، لا لمعارضتهم، أو حتى لتحسين عروضهم. وقد ركّز الروس (والإيرانيون) على مصادرة مهمة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا وتوجيهها، وسط تجاهل أميركي تام لكون المبعوث حسم قناعاته الشخصية لمصلحة وجهات نظر النظام وروسيا وإيران، ولم يعد يرتاح الى ما يسمعه في الرياض أو في أنقرة والدوحة. وعندما أدلى أوباما بآرائه الساخرة عن المعارضة، كان يعلم أن دي ميستورا في صدد تغيير خريطة المعارضة المقبولة روسياً (وإيرانياً) في المفاوضات، معوّلاً على مشاورات طويلة أجراها خلال الربيع الماضي في جنيف، مع هيئات وشخصيات سورية أفضت به الى اعتبار أن ما تُسمّى «معارضة» هي جزء يكاد يكون «هامشياً» في الصراع لولا الفصائل المقاتلة التي كانت آنذاك ماضية في انتزاع مناطق من سيطرة النظام، وأن أي مفاوضات يجب أن تشمل طيفاً أوسع مما يقدمه «الائتلاف» أو «هيئة التنسيق» ليضم «معارضات» موسكو والقاهرة وأستانا (كازاخستان).
لذلك جاء الروس مصمّمين، منذ بداية تدخلهم، على ضرب الفصائل المقاتلة وإقصائها من المعادلة. كان مفترضاً أن يأخذوا في الاعتبار ما عناه حضور مندوبين عن هذه الفصائل مؤتمر الرياض، إذ جاء معبّراً عن استعدادهم للانخراط في حل سياسي، وعن إرادة الدول الداعمة للمعارضة إنهاء الصراع سلمياً. لكن اغتيال زهران علوش، قائد «جيش الإسلام»، والاغتيالات الأخرى التي أعقبت ذلك المؤتمر، واستمرّت مع صدور القرار 2254 وبعده، أوضحت أن الروس يريدون استفزاز المعارضة العسكرية ودفعها الى الانسحاب من أي عملية تفاوضية، وبالتالي ترك المعارضة السياسية وحيدةً ومستضعفةً وعرضةً للضغوط والعبث بوفدها وموقفها، سواء من خلال دي ميستورا أو بالشروط الروسية التي أكد كيري الموافقة الأميركية عليها.
منذ البداية، قرّرت روسيا وإيران والنظام أن لا مجال لأي منطق في الأزمة السورية، والألاعيب التي تُخاض حالياً تكاد تضع المفاوضات في مهب الريح، كأن التدويل في فيينا ثم في مجلس الأمن لم يقدّم ولم يؤخّر بل أبقى الأزمة في كنف استبدادية الأسد. والواقع، أن المعارضة اعتبرت المناورات الروسية - لاختراق وفد المعارضة أو استنباط وفد «معارض» ثانٍ، لتصبح المفاوضات ثلاثية شكلياً أو بالأحرى ثنائية بين المعارضة ووفدَي النظام و «معارضته» - هي وصفة مكشوفة للتلاعب المبكر بمسألة «الانتقال السياسي»، وبالتالي لإفشال المفاوضات والمصادرة المسبقة لنتائجها، طالما أن الضغط الدولي، خصوصاً الأميركي، يندر أن يلعب لمصلحة المعارضة، ويهجس دائماً بإرضاء الروس، سواء بذريعة الأولوية لمحاربة «داعش»، أو بدوافع أخرى تتكشّف بين حين وآخر عن نيات واشنطن.
اتضح الآن، أن تحليل المعارضة هذا لمواقف روسيا كان ساذجاً الى حدٍّ ما، وفيه مراهنة ضمنية على «صلابة» ما في الموقف الأميركي. لكن كان هناك مَن يردّد باستمرار «فتّش عن التفاهمات الأميركية – الروسية»، محذّراً دائماً من وجود حلقة مفقودة لا بد أن تظهر في لحظة حاسمة. تلك اللحظة كانت اقتراب استحقاق التفاوض. فطوال الأسابيع الماضية لم يكن ممكناً أن تتصرّف موسكو الى هذا الحدّ ضد القرار الدولي 2254، وأن ترتكب مباشرة مجازر يومية في حق المدنيين في مناطق المعارضة، وتؤمّن تغطية كاملة للحصارات التجويعية والقصف بالبراميل، من دون أي اعتراض أميركي، لأن عدم الاعتراض هنا عنى تفاهماً وموافقة. لم يكن صحيحاً على الإطلاق أن هناك اختلافاً حقيقياً بين نظرتَي الأميركيين والروس الى الفصائل المقاتلة وتمييز «المعتدلة» منها عن «الإرهابية». كان تقويمهم متقارباً، ومتطابقاً أحياناً، إذ عمدوا معاً الى استخدام التجويع وسيلة للضغط لانتزاع تنازلات مسبقة من المعارضة قبل ولوجها في التفاوض.
هذا ما تولاه الوزير كيري، باسم «التفاهمات»، عندما أنذر المعارضة بأن خيارها الوحيد هو الذهاب الى مقامرة خاسرة مسبقاً في جنيف، قد تصبح خاسرة أكثر، بل كارثية إذا قادها الانفعال الى تعطيل المفاوضات. ثم قيل للمعارضة أن بين الخيارين السيئين، يبقى دخول المفاوضات أقلّهما سوءاً، لأنها ستجد فرصة لطرح رؤاها ومطالبها، ولأن حضورها وحده سيجرّ النظام نفسه الى عملية التفاوض التي يكرهها وطالما تهرّب منها، وعندئذ فقط ربما تستطيع واشنطن أن تساعدها، أما اذا قاطعت فستؤدّي خدمة للنظام وتضع حدّاً لأي دور أميركي قد يخفف من إجحاف الشروط الحالية. سبق أن قيل ذلك للفلسطينيين كي يُقبلوا على التفاوض، وقد فعلوا على رغم أنهم كانوا متيقّنين بأن الأميركيين سيخذلونهم، وهو ما حصل. لكن الشعوب التي يحاصرها الظلم من كل جانب لا تستطيع أن تفوّت أي فرصة مهما بدت سرابية وكاذبة.
٢٧ يناير ٢٠١٦
الروس والأميركيون يحرصون على «مبادئ» في إدارة ملف الحروب السورية، على الأقل هذا ما اجتهد الرئيس فلاديمير بوتين للإيحاء به، وبَذَلَ الجانب الأميركي جهداً دؤوباً لتبديد انطباع حول «عصا» روسية قيل إن وزير الخارجية جون كيري لوّح بها للمعارضة السورية في الرياض.
لا جديد في دفاع بوتين عن «القيادة الشرعية» في دمشق، ولا تبدُّل في حديث واشنطن عن «فقدان» الرئيس بشار الأسد «شرعيته». وإذا كان الاشتباك الروسي- التركي عشية مفاوضات جنيف انعكاساً للتأزُّم المستمر بين موسكو وأنقرة، كما دفاع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن مشاركة حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري في المحادثات، فالمضحك هو إصرار الكرملين على انه لا يتدخَّل في الشأن السياسي لسورية.
نكتة ثانية سوداء في نفق النكبة السورية، أن يتحدى لافروف مَنْ يجد دليلاً على قتل الطيران الحربي الروسي مدنيين، خلال غاراته التي تعتمد نهج الأرض المحروقة... تدكّ أبنية سكنية، لكنّ صواريخها تميِّز بين «الإرهابيين» الدواعش والأطفال والنساء الذين يلتحفون ركام وطن.
كان هدف الوزير قبيل ساعات من حسم الهيئة التفاوضية العليا للمعارضة قرارها في شأن الذهاب إلى جنيف، افتعال عقدة جديدة في وجه الهيئة، موجّهاً في آن رسالة أخرى لا تخلو من تهديد مبطّن: التسوية تريدها موسكو نهائية. فإذا انطلق قطار المفاوضات بمن حضر، أمكن الروس اتهام الهيئة بعزل نفسها، وبرفضها إيجاد حل لمآسٍ عمرها خمس سنوات... وأمكنهم أيضاً تقديم وجوه معروفة متَّهمة بعلاقة مع النظام السوري، بأنها الممثل الشرعي للمعارضين الذي سيتقاسم مع الحُكم تشكيل «حكومة الوحدة الوطنية».
حقل الألغام أمام الهيئة لا يبدأ ولا ينتهي عند تمثيل حزب الاتحاد الديموقراطي، أو قبول بدء التفاوض في ظل محاصرة النظام مدناً منكوبة والغارات التي يتباهى بها الجيش الروسي، والتخلّي عن وقف النار أولاً. ومهما فعلت واشنطن أو كيري، فالشبهة الكبرى لدى فصائل معارضة عديدة هي أن التوافق الروسي- الأميركي في زيوريخ، عشية رحلة كيري إلى الرياض، يعزّز القلق من احتمالات جر الهيئة التفاوضية العليا إلى «فخ» في جنيف، حيث السقف الأعلى قبول التعايش مع نظام الأسد في «حكومة وحدة»، ومصير الرئيس مؤجل، وأي إصلاح لا يمر إلا بموافقته.
قد يكون من المبالغة، بعد توضيحات المبعوث الأميركي مايكل راتني ملابسات ما حصل خلال اجتماع كيري والمنسق العام لهيئة المعارضة رياض حجاب، اتهام الوزير بـ «تواطؤ» مع لافروف الذي يدرك ما هو «منصف» وما هو «مجحف» في تشكيلة وفد الهيئة الى جنيف... ورغم تطمين كيري المعارضة إلى استمرار دعمها ولو فشلت المفاوضات، فالسؤال محوره امتناع واشنطن عن تقديم أي ضمان لمن كان يُفترض أن يعدّوا لهيئة انتقالية في الحكم، كاملة الصلاحيات. هكذا بات مصير الأسد «شأن السوريين»، واقتلاع «الإرهاب» في بلادهم مهمة الروس، ولو سقط في غارات «السوخوي» عشرات من القادة الميدانيين الذين يقاتلون النظام.
إذاً، بات التوافق الأميركي- الروسي، بعد زيوريخ يشمل مصير الأسد الذي لم تَعِد موسكو بمنحه اللجوء، ولا النظام طلبه. وإذا كان السوريون قاتلوا خمس سنوات وضحّوا بربع مليون شخص، وملايين شُرِّدوا، فكيف تستقيم «جنيف 3» وما بعدها، بعد ستة أشهر، وخصم المعارضة باقٍ بقوة هراوة بوتين وصواريخه؟ كم من السوريين مرشّحون للإبادة بالصواريخ والبراميل، قبل أن يطمئن سيد الكرملين إلى انتصاره على «داعش»... من سورية إلى أفغانستان وجورجيا؟
لعل كيري المتعب بجولات الاتفاق النووي الإيراني، والتطبيع الأميركي- الكوبي، وعناد بغداد الذي ضيَّع الموصل في عتمة ليل، طلب من سيرغي «الرأفة» بالمعارضين السوريين بعد إقناعهم بـ «البديل المرعب» للتفاوض... في «قفص» جنيف الروسي مزيد من الغرف للوفود، وستة أشهر كافية لتفتيت أي منها.
رغم كل ذلك، موسكو «لا تتدخل» في السياسة، يقول بوتين منتشياً بتفويض أميركي عابر للقارات. وهو حتماً لا تقلقه برامج واشنطن لتدريب المعارضة، ولا مرارة إيران التي سحب منها بساط الشام إلى حين.
في أزهى فصول جنيف، حال المعارضة أنها مهما فعلت لن تمرّر أي بند إلا إذا قبله النظام السوري، وبافتراض تنازلها عن ورقة مصير رأسه. أي مفاوضات إذاً؟ ستة أشهر أخرى كم ستكلّف من القتلى الأبرياء، ودمار مدن، وتقطيع ما تبقى من أوصال وطن، بعدما تنقّل من احتلال إلى احتلال؟
الكرملين لم يقل كلمته النهائية، وليس بين السيناريوات المحتملة أن ينجز مهمته مع «داعش»، ويعيد سورية المنكوبة إلى أحضان إيران «المنتصرة» في حضن التطبيع مع الغرب.
جمهورية المرشد تتبادل الغزل مع «أعداء» الأمس، وتبني أساطيلها. تشتري طائرات «الشيطان»، فيما نشتري النعوش، ولا نحصي... في سورية كما في العراق.
٢٦ يناير ٢٠١٦
يبحث الكثيرون عن مبررات للهدوء الذي شهدته جبهات درعا طوال الأشهر الماضية ، و طبعاً كانت الشماعة جاهزة والمتمثلة بغرفة "الموك" التي تتهم بأنها السبب وراء كل هذا ، اضافة للاقتال مع المبايعين لداعش ، في اللجاة ، واضيف لها اليوم حركة "المثنى" التي وجد فيها سبب أساسياً وراء التآكل الحاصل للمناطق المحررة و الضغوط المستمرة و المتواصلة من النظام لخنق درعا من جديد بعد أن كانت أول من تنفس الحرية .
تغيير وجهة "الصائل" من النظام و أعوانه ، إلى أحد الفصائل التي لم يثبت حتى اللحظة أي دليل عملي أو حتى نظري بأنها مبايعة لداعش ، كما أنه لم يتم التيقن بأن عمليات الخطف و الاعتقال التي شهدتها درعا ، تقع مسؤليتها على هذا الفصيل ، و في الوقت ذاته لايجوز إلقاء اللائمة عليهم أيضاً في سقوط الشيخ مسكين ، التي واجهت معارك ضارية قرابة شهرين ، ولم تحظى بالمؤازرات التي كانت تمثيلية أكثر منها فعلية .
لست في موقف المدافع عن هذا الفصيل أو التشكيل ، و لكن هناك دائماً من يحاول العبث بعلاقاتنا و افسادها و تشتيت الصفوف أكثر فأكثر ، تارة بالاغتيالات التي تبقى ضد مجهول ، و تارة بالاختراقات التي تصيب الكثير ، والتي يتولد عنها تصرفات تنسف العلاقات التي تجمع الفصائل ، وما شهدناه في درعا سواء من اغتيالات و خطف و اختراق صفوف الفصائل هو دليل على أن الجبهة الجنوبية هي الهدف الجديد للعدو الروسي الذي يجتهد على قاعدة التفتيت الداخلي و الضرب القاسي من بعده .
في درعا للفصائل خصوصية غير موجودة في مكان آخر ، نظراً للروابط الأسرية و العشائرية التي تحكم العلاقة بين الفصائل ، و الأهم وجود الحكماء و زعماء العشائر ، القادرين على تخفيف الاحتقان، و لكن هذه الميزة وحدها لاتكفي ، بل بحاجة إلى تعقل من الجميع و الأخذ بنظرية المؤامرة من العدو الأوحد للشعب السوري ( النظام و الدول الموالية له ) ، لا أن يكون هذا الخيار هو الأخير أو على الأقل الثاني بل يجب أن يبقى الأساس و الأصل في كل شيء يحدث و كل ماعداه عبارة عن شيء ثانوي .
في درعا كما توصف بأنها درع الثورة هناك خلل يمكن اعتباره مؤقت ، و لكن خلل كلف حتى الآن خسارة كبيرة لنقطة استراتيجية ، ولكن لن تكون الأخيرة إذا ما بقي الحال على ماهو عليه ، و من وصل إلى الشيخ مسكين لن يتوقف عندها ، و حتماً سيستمر ، ولكن من الحتمي أيضاً أننا لن نقول أن "الموك" منع السلاح و كذلك أن فصيلاً جديداً بات "صائلاً"و أن النظام و مساندين مجرد "جائلين".
٢٦ يناير ٢٠١٦
أصبح من الواضح الآن، بعد ما تسرب من المحادثات التي دارت بين الوزير الأمريكي جون كيري ومنسق الهيئة العليا للمفاوضات الدكتور رياض حجاب أن صفقة قد عقدت بين واشنطن وموسكو تتولى بموجبها روسيا إنهاء الملف السوري على قاعدة تصفية المعارضة المسلحة وتأمين مقعد صغير للمعارضة السياسية في حكومة "وحدة وطنية" تنافي اسمها. وهذا يعني أن الحل الذي تم الاتفاق عليه بين الدولتين الأكبر هو الحسم العسكري لصالح النظام مع التمهيد لجلب المعارضة إلى الطاولة ليس لمفاوضات حول تشكيل هيئة حاكمة انتقالية، وإنما للتوقيع على صك الاستسلام.
والحقيقة أن هذا الاستسلام لن يتأخر إلى أن يتم القضاء على آخر مواقع المعارضة المسلحة ولكنه يبدأ منذ الآن بطلب الانصياع لإملاءات موسكو وواشنطن في استبعاد ممثلي المعارضة المسلحة من الوفد المفاوض واستبدالهم بشخصيات محسوبة على موسكو وطهران ومقبولة من النظام، وفي التوقف عن المطالبة بإجراءات الثقة أو بفصل الملف الانساني وحماية المدنيين من القصف والتجويع المنهجي عن الملف السياسي، والقبول بوجود الأسد وحقه في المشاركة في الانتخابات الرئاسية القادمة، والقبول بحكومة وحدة وطنية في إطار النظام القائم والكف عن الحلم بالانتقال نحو نظام ديمقراطي يوقف آلة القمع والترويع والارهاب التي حكمت السوريين حتى الآن وتحكمت بهم ويفتح الباب أمام عهد من الحرية والكرامة وحكم القانون والمساواة.
مثل هذه النهاية الكارثية لثورة ضحى فيها الشعب بأكثر من نصف مليون شهيد وملايين الجرحى والمعطوبين للأبد والمهجرين والمشردين، ودمر فيها ٧٠ بالمئة من العمران والبنى التحتية والمرافق العامة، لاتعني القضاء على آمال الشعب السوري في التحرر من كابوس إرهاب الدولة الذي قبع على صدره عشرات السنين وإنما تحطيم معنوياتها وثقته بنفسه إلى الأبد والقضاء على أي حلم بالتحرر والانتعتاق لشعوب المنطقة بأسرها.
تعتقد موسكو التي أعلنت عن وجود طاولة مفاوضات أخرى في دمشق، وتعتقد واشنطن التي هددت بقطع المساعدات أنه لايوجد أمام المعارضة في هذه الحال خيار آخر غير الإذعان أو الخروج من اللعبة.
والحال، إذا لم يكن الحل المطروح هو تسوية تسمح بوضع حد لنظام الارهاب وفتح طريق الانتقال الديمقراطي، فليس هناك أي سبب كي تذهب المعارضة بنفسها إلى المذبحة المعدة لها. وليس هناك أي حرج على المعارضة في أن ترفض الدخول في محادثات هدفها تصفية الثورة والمعارضة وتثبيت نظام الجريمة المنظمة والإبادة الجماعية كما اعترفت به تقارير المنظمات الحقوقية والانسانية الدولية نفسها.
ليس للمعارضة أي اعتراض على أن يضم النظام القائم لحكومته سوريين يعملون لصالح الروس أو الايرانيين أو الأمريكيين أو غيرهم. فهذا شأنه. لكن مثل هذا العمل لا علاقة له بمفاوضات الحل السياسي المنشود والمطروح، ولن ينجم عنه سوى حكومة المزيد من الوصاية الأجنبية والانقسام الوطني بدل "حكومة الوحدة الوطنية" المزعومة. وهو لن يقدم أي حل للأزمة ولن يخرج البلاد من الحرب.
فالمشكلة ليست في ايجاد بعض المناصب الوزارية لمعارضين باطلين عن العمل، وإنما الاعتراف بحق الشعب في اختيار ممثليه وقادته، وفي ممارسة حقوقه الأساسية التي تضمن له العدالة والمساواة والحرية والكرامة. المهم هو الشعب ومكانته في النظام الجديد أما المعارضة ومناصبها فأمر ثانوي. واستبعاد هذا الشعب من جديد، وتصفية ما نجم عن ثورته من قوى وتشكيلات، هو الهدف الرئيسي للمخطط الروسي الايراني المدعوم من واشنطن اليوم.
قبول المعارضة بالمساومة على حقوق الشعب هذه لن ينهي النزاع، ولن ينقذها من مصيرها المحتوم. بالعكس، برفضها الانتحار تحتفظ المعارضة بشرف تمثيل المقاومة الشعبية الباسلة التي هزمت أكثر من دولة وجيش، وتضمن أن تولد من صلبها في المستقبل معارضة سياسية فعلية، وأن لا تذهب دماء الشهداء سدا، وأن لا تنجح دول الانتداب الجديد في غسل النظام القاتل من جرائمه، وتبرئته من المسؤولية عن الكارثة التي حلت بالوطن والشعب، وأن تحول دون إدانة الشعب وإعادة إضفاء الشرعية على حكم القتلة المسعورين.
لا الروس ولا الامريكيون ولا الايرانيون ولا أي دولة أخرى قادرة على فرض الهزيمة على شعب قرر الخلاص والانعتاق. وإذا لم يكن هناك خيار آخر أمام السوريين غير الخيار الفيتنامي والأفغاني للاحتفاظ بحقهم وسيادتهم على أرضهم وتقرير مصيرهم، وهو أصعب الخيارات وأكثرها إيلاما، فهم ليسوا أقل شجاعة ولا بطولة من الآخرين. والشعب الذي يقبل بالإذعان ويتخلى عن كرامته لا يبقى لديه سبب للبقاء والارتقاء، ويعيش في التعاسة والذل إلى أن ينفرط عقده ويذوب.
٢٥ يناير ٢٠١٦
لأنها تجاوزت كل ما يمكن احتماله والصبر عليه فإنه لا يجوز ترك روسيا تتلاعب كل هذا التلاعب بوحدة سورية واستقرارها وبمستقبل شعبها، فصمت العرب على ما يفعله الروس في هذا البلد العربي والرئيسي شجعهم ويشجعهم على التمادي في ما بقوا يفعلونه على مدى نحو خمسة أعوام ماضية، ما سيعرض هذه المنطقة كلها لأخطار فعلية جسيمة.
كان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان قد حذر أكثر من مرة، دون سامع أو مجيب، من أن هدف احتلال روسيا لسورية هو إنشاء دويلة طائفية ومذهبية (علوية) في منطقة اللاذقية وما حولها، مع شريط أرضي يحاذي حماة وحمص من الغرب، ويصل إلى دمشق، وله تماس مع تواجد حزب الله (الاحتلالي) على الجانب اللبناني من الحدود السورية – اللبنانية.
وحقيقة إن هذا الذي قاله الرئيس التركي لا يحتاج إلى المزيد من الأدلة والبراهين فالروس، الذين أعلنوا في بداية غزوهم لهذه الدولة العربية أن بقاءهم لن يستمر أكثر من نحو ثلاثة أشهر، ها هم يلغونها تدريجياً ويصادرون سيادتها ويسحبون كل صلاحيات حكومتها ورئيسها، وهذا يعني أن الهدف هو إقامة كيان طائفي في المناطق المشار إليها آنفاً، ومدها لاحقاً في اتجاه لواء الإسكندرون الذي أطلق عليه الأتراك بعد ضمه عام 1939 اسم "هاتاي"، حيث يشكل بعض سكانه امتداداً للطائفة العلوية في منطقة اللاذقية والقرداحة وجبال النُّصيريين.
كان الروس قد أفرغوا بيان "جنيف 1" من مضمونه، بل وألغوه نهائياً عندما أفشلوا "جنيف 2" بالإصرار على أن الأولوية ليست لمرحلة انتقالية ولا لإقصاء بشار الأسد لحساب بديل يُجمع عليه الشعب السوري بمعظمه إن لم يكن كله، وإنما لمواجهة الإرهاب، وبالطبع فإنهم لم يقصدوا بـ"الإرهاب" لا "داعش" ولا "النصرة"، وإنما المعارضة السورية (المعتدلة) التي أثبتت حضورها الفاعل بعد مؤتمر الرياض العتيد الذي أغضب نجاحه روسيا وإيران وكل الأطراف التي تتلاعب بمصير هذه الدولة العربية وبمصير هذه المنطقة كلها.
والآن فإن الروس بادروا، بعد نجاح مؤتمر الرياض الآنف الذكر، إلى ركْل مقررات مجلس الأمن الدولي الأخير، المتعلقة بالعودة إلى "جنيف 1"، كركيزة ومنطلق لحل الأزمة، بأرجلهم والإصرار على "اختراق" الوفد المعارض الذي شكلته الهيئة العليا وفقاً لقرارات مجلس الأمن الآنفة الذكر، بممثلين لهم ولباقي ما تبقى من النظام السوري، والهدف ما أعلنه سيرغي لافروف وهو تشكيل ما اعتبره: "حكومة وحدة وطنية" تابعة لروسيا وليس لبشار الأسد، وإلغاء المرحلة الانتقالية نهائياً.
وبالطبع فإن الواضح حتى لأعمى البصر والبصيرة سياسياً أن الروس يسعون إلى إلحاق قرارات مجلس الأمن الدولي الأخيرة ببيان "جنيف 1"، وأنهم بالفعل ماضون في إنشاء الكيان الطائفي الذي تحدث عنه وحذر منه رجب طيب إردوغان، والمشكلة هنا أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري لايزال يتصرف بالطريقة البائسة التي بقي يتصرف بها منذ بداية هذه الأزمة، وذلك مع أن جو بايدن قد هدد في آخر تصريحات له كان قد أطلقها من تركيا بأن فشل الحلول السياسية في سورية سيدفع الولايات المتحدة إلى اللجوء إلى القوة العسكرية.
٢٤ يناير ٢٠١٦
خرجت ورقة الحل في سورية من أيدي النظام والمعارضة منذ زمن بعيد. وصارت المفاوضات تجري بين مختلف الأطراف الدولية من فوق رؤوس السوريين. لذلك تبدو الاتصالات الجارية لتسوية الخلاف حول تشكيل وفد المعارضة إلى المفاوضات المنتظرة في جنيف، وكأنها اتصالات روسية - أميركية - تركية - إيرانية، تتجاوز مطالب المعارضة وتلتقي مع أهداف النظام. وهو ما يستدعي السؤال عمّا يمكن أن تفعله المعارضة، ممثلة بالهيئة العليا للمفاوضات والمنسق العام رياض حجاب، في وجه أي تفاهم حول الصيغة التي تتفق عليها الأطراف الدولية لتشكيل وفد المعارضة. الحل الوحيد في يد المعارضة هو مقاطعة المفاوضات، وهو موقف بالغ الكلفة، فضلاً عن أنه يحتاج إلى دعم من الدول الإقليمية المتحالفة مع المعارضة، كي يثمر ضغطاً على النظام وشركائه.
واضح أن الموقف الروسي يتقارب مع النظام السوري إلى حد التماهي في رفض مشاركة «جيش الإسلام» في الوفد المفاوض، واستبعاد «الجيش السوري الحر»، الذي اختارت المعارضة العميد أسعد الزعبي كممثل له في رئاسة الوفد. ولا يبتعد الموقف الأميركي كثيراً عن ذلك. فاقتراح الوزير جون كيري باستبدال الزعبي ومحمد علوش بشخصيتين مدنيتين، لا يمكن إلا أن يلاقي التصفيق من جانب بشار الأسد، الذي يعتبر الجهتين («الجيش الحر» وسائر الفصائل المسلحة) جماعات إرهابية، ويصر على استبعادها من عملية التفاوض.
غير أن الموقف الأميركي، الذي يتقارب مع دمشق وطهران وموسكو (!) بالنسبة إلى تصنيف المعارضين «الإرهابيين»، يختلف مع تركيا، المفترض أنها حليفه الاستراتيجي، حيال مشاركة أكراد سورية في المفاوضات. واشنطن ترى ضرورة مشاركة حزب «الاتحاد الديموقراطي»، ممثلاً بصالح مسلم، لأنه يقاتل «داعش» في نظرها. أما أنقرة فتضع فيتو كبيرة على هذه المشاركة، وتعتبر هذا الحزب فصيلاً تابعاً لـ «حزب العمال الكردستاني» الذي تضعه في رأس قائمة الإرهابيين. ويبدو أن محادثات جو بايدن، نائب الرئيس الأميركي، في تركيا لم تفلح في حل هذا الخلاف.
النظام السوري هو الأكثر ارتياحاً حيال هذه المواقف الدولية. لقد بات الالتقاء ضد الإرهاب هو العنوان الرئيسي لهذه المواقف التي يستفيد منها النظام ليمدد إقامته. فمنذ سحبت الولايات المتحدة يدها من العملية السورية، وتركت الساحة مفتوحة لروسيا وإيران، تتصرفان فيها كما تشاءان وبما يخدم مصالحهما، صار في إمكان النظام السوري أن يحدد هوية «الإرهابيين» على هواه. قادة الألوية العسكرية التابعة للنظام، والذين يعطون الأوامر بالقتل والتجويع والتهجير، فيما يرقى إلى حرب إبادة جماعية ضد المعارضين، هؤلاء مستبعدون من التصنيف الإرهابي، الذي بات يقتصر على مسلحي المعارضة، على اختلاف فصائلهم. ومع أن عدداً من هذه الفصائل، وفي مقدمها «داعش» و»جبهة النصرة»، تستحق هذه الصفة الإرهابية وأكثر، فان الخلاف بين جرائمها وجرائم قادة عسكر النظام السوري هو خلاف في نوعية الجرائم فقط، وليس في حجمها أو في فظاعاتها. فإلقاء القنابل المتفجرة على الناس من الجو، وفرض حصار الجوع على الهياكل العظمية في مضايا وغيرها، لا يقل بشاعة وإرهاباً عن قطع الرقاب وإلقاء الضحايا من أسطح البيوت. خلاف في أنواع الجرائم لا يستحق اهتمام الرئيس باراك أوباما، الذي قرر أن يحول نظره عن جرائم النظام، ويدفع بالمعارضة إلى حائط مسدود.
لم يكن رياض حجاب مخطئاً عندما اعتبر أن التاريخ لن يغفر لباراك أوباما دوره في إطالة المأساة السورية. كلام تردد كثيراً من دون أن يغير شيئاً في قرار هذه الإدارة الأميركية. والآن يأتي نائب الرئيس الأميركي جو بايدن ليهدد بـ «حل عسكري» في سورية، إذا لم يكن الحل السياسي ممكناً. والحل العسكري الذي يقترحه بايدن هو ضد تنظيم «داعش» لطرده من الأراضي التي يسيطر عليها في سورية. مع أنه كان يجب تهديد النظام السوري بهذا الحل، عندما تأكد العالم أنه سائر في مجزرته ضد شعبه حتى النهاية. لو حصل ذلك، لكانت الولايات المتحدة وفرت على نفسها وعلى المنطقة، وبالدرجة الأولى على الشعب السوري، استمرار هذه المأساة. وكانت وفرت كذلك الحاجة إلى البحث عن حل عسكري لوجود «داعش». لأن حل الأزمة السورية في وقت مبكر، وقيام حكم بديل في دمشق يحفظ وحدة الأراضي السورية، في الشهور الأولى لاندلاع الأزمة، كان سيريح سورية والمنطقة من نشوء هذا التنظيم الإرهابي.