مقالات مقالات رأي بحوث ودراسات كتاب الثورة
١ فبراير ٢٠١٧
أيها السوريون.. اخلعوا أعضاءكم لتمروا

أيها السوريون.. “اخلعوا أعضاءكم لتمروا”، لتهربوا من جحيم الموت الأسدي إلى دول أكثر أمنًا وأمانًا، إلى أميركا ربما، أميركا التي تحترف خداع العالم بلصق تهمة الإرهاب بالسوري إعلاميًا، بينما أرقامها الرسمية تقول إن السوري اللاجئ ليس إرهابيًا.

ثمة أرقام صادمة عن اللاجئين السوريين، تمر مرور الكرام أمام أعين العالم، ولكن لابد من بعض التدقيق وإعادة قراءة هذه الأرقام، خصوصًا بعد قرار ترامب الأخير الذي قضى بمنع استقبال لاجئين سوريين؛ “لإبقاء الإرهابيين الإسلاميين المتطرفين خارج الولايات المتحدة”، وأما الإرهاب فإنه، بحسب البيانات الأميركية، لا يتصل لا من قريب ولا من بعيد باللاجئين السوريين الواصلين إلى أميركا.

استقبلت أميركا -حتى الآن- نحو 12 ألف لاجئ سوري فقط، من أصل 4.7 مليون لاجئ سوري، أي بنسبة 0.2، وبحسب بيتر بيرغن، محلل شؤون الأمن القومي في شبكة CNN، ونائب رئيس مؤسسة “أميركا الجديدة”، وأستاذ ممارس في جامعة أريزونا الأميركية، ومؤلف كتاب “الولايات المتحدة الجهادية: تقرير عن إرهابيي أميركا محليي المنشأ”؛ فإنه لا دليل على وجود إرهابيين من بين اللاجئين السوريين الذين يستقرون في الولايات المتحدة الأميركية.

لن ندخل في أرقام توزع اللاجئين السوريين على دول العالم، ولا نريد أن نثبت أن الدول المجاورة لسورية تتحمل العبء الأكبر من أعداد السوريين، ولا نهدف إلى استجرار التعاطف بالكلام الإعلامي، ولا حتى الأدبي، كل ما سنحاول أن نثبته أن السوريين في أميركا لم يحملوا أي مشروع إرهابي.

بحسب مقال لبيرغن، كل الأعمال الإرهابية “الجهادية” القاتلة التي شهدتها أميركا منذ أحداث 11 سبتمبر عام 2001، نفذها مواطنون أميركيون أو مقيمون في الدولة بصفة قانونية، ولم تُنفذ أي من تلك العمليات على يد لاجئ سوري.

من المعروف أن الدخول إلى الولايات المتحدة بالنسبة إلى اللاجئ السوري أكثر تعقيدًا من أي قضية تشغل العالم، والكلام ليس من تأليفنا، فبحسب شهادة آن ريتشارد، المسؤولة رفيعة المستوى في وزارة الخارجية الأميركية، في جلسة استماع للجنة الأمن الداخلي في مجلس الشيوخ، في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2015، فإن “أي لاجئ سوري يحاول دخول الولايات المتحدة يجري التدقيق في ملفه من مسؤولين في المركز الوطني لمكافحة الإرهاب، ومكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، ووزارة الأمن الداخلي ،(DHS) ووزارة الخارجية، والبنتاغون، ويجمع المسؤولون -أيضًا- بيانات اللاجئين السوريين البيومترية (بمسح شبكية العين) على سبيل المثال، إضافة إلى تاريخ مفصل عنهم، كما تُجرى معهم مقابلات مطولة، ويُبحث عنهم في قواعد البيانات الحكومية؛ لمعرفة ما إذا كانوا قد يشكلون خطرًا، وتستغرق العملية عامين، وفي بعض الأحيان أكثر من ذلك”، وبالنتيجة؛ لا يصل أميركا من السوريين طالبي اللجوء إلا “كل طويل عمر بالتعبير السوري”.

هل يعلم الشعب الأميركي أن ثمة 17 جهاز استخبارات في أميركا، وهل يعلم الشعب الأميركي أن الرئيس الجديد الذي انتخبه هو ابن لسيدة هربت من الفقر في جزر هبريدس الخارجية في اسكتلندا إلى نيويورك عام 1929، وهل يعلم الشعب الأميركي أن أوروبا استقبلت أضعاف مضاعفة من السوريين، ومعظمهم من وصلها جاء بطرق غير نظامية، بحرًا أو برًا.

هل فعلا رئيس الولايات المتحدة الأميركية ومستشاروه لا يعرفون هذه التفاصيل والمعلومات؟ من السذاجة تصديق ذلك، إذن؛ ماذا يريد ترامب من قراره هذا؟

الواضح من سيرة الرجل السياسية أن قراره عرض إعلامي صرف، يهدف إلى خداع الشارع الأميركي من خلال التستر على الحقائق، وتوجيه الرأي العام إلى الأكاذيب.

ترامب لا يريد أن يعترف بأن الإرهاب مصدره سياسة أميركية، ومصدره في سورية سياسة صديقه بوتين ورجله بشار الأسد.

يغض الطرف عن وفود الإرهابيين الذين دخلوا إلى سورية تحت أعين استخباراته وحكومات الإقليم، وأن دعمهم جاء من أموال أصدقاء أميركا وترامب.

إنه يريد -ببساطة- أن يقول إن الإرهاب جينات موجودة في السوريين. لكن السؤال الحقيقي: هل فعلًا الولايات المتحدة ملجأ للاجئين السوريين؟

بالنسبة والتناسب؛ فإن هذا القرار لن يؤثر في اللاجئين السوريين، سوى حالات فردية. وليست كارثية، لكن الكارثة أن يتفق سوريون مع قرارات كهذه؛ لأنهم يرون أن جماعات سورية من بلدهم لا تستحق الحياة؛ لأنها من طائفة أو دين أو قومية ما، فهل نلوم ترامب ونقبل الترامبيين السوريين.

اقرأ المزيد
٣١ يناير ٢٠١٧
سورية وميراث الحرب العالمية الثانية

كانت الحرب العالمية الثانية قد أورثت سورية ثلاث أدوات مكنتها للمرة الأولى أن تكون بشكلٍ ما «جزءاً من العالم». فهي سمحت بأن تتحول البؤر النُخبوية الصغيرة للأفكار الماركسية الشيوعية أحزاباً وحركاتٍ شعبية، وتحولت معها النتاجات الثقافية والسياسية الشيوعية المُترجمة إلى أدوات للتفكير والنقاش العام، استطاعت عبرها الكُتل الشعبية الموالية لهذه التنظيمات أن تحاجج التراث الثقافي والفكري لـ «سورية القديمة».

كانت تلك النتاجات المُترجمة بوابة لكُل ما يُمكن أن نُسميه «الحداثة الاجتماعية» التي واجهت ما كان عالقاً وباقياً في مجتمعاتنا من ميراثها العثماني.

من جهة أخرى، أثبتت الحرب للقوى الاستعمارية في بلداننا أن استمرارها المديد على أشكال احتلالات عسكرية في هذه البلدان غير مُمكن. بذا نزعت القوى الاستعمارية لأن تسعى لتوافقات سياسية مع نُخب الحُكم والقوى المُناهضة لها، وتُوجت تلك الديناميات التوافقية باستحصالنا في النهاية على «دولةٍ حديثة»، بمؤسسات ساهم هؤلاء المُستعمرون في بنائها بشكل مُطابق لما كانت حالها في بُلدانهم، وشرائع وقوانين لا علاقة لها تقريباً بما ساد في منطقتنا لقرونٍ كثيرة.

أخيراً فإن الأزمة الاقتصادية للحرب في أوروبا، خلقت الآليات لأن تتفاعل القوى الاقتصادية في سورية مع نظيراتها الأوروبية، وأن تُنمي مواردها وتطور أدواتها الاقتصادية. كانت المصانع والمؤسسات البنكية والزراعة بأدواتٍ حديثة من نِتاج هذه العلاقة الثُنائية، وكانت هذه العوالم الاقتصادية أدواتٍ لخلق عالم «الديموقراطية البورجوازية». فبالعودة إلى أرقام التنمية الاجتماعية والاقتصادية خلال عقدي الأربعينات والخمسينات، يُستدل بأن سورية كانت دولة أخرى تماماً، تصل فيها نسبة النمو وبشكل متواتر إلى قُرابة 9 في المئة.

كانت الأسدية وريثة نهائية لكل أشكال الأنظمة الاستبدادية التي حكمت سورية بعد فترة قصيرة بين نهاية تلك الحرب وبداية القضاء على ذلك الميراث، بدءاً من حُكم العسكر الانقلابيين ثم الناصرية الأيديولوجية وانتهاء بالعُصبوية البعثية. لكن السر في قُدرة الأسدية على الاستمرار من دون أن يصيبها الانهيار السريع الذي أصاب أشكال الحكم الاستبدادية التي سبقتها هو قُدرتها على خلق مساومات مُستترة مع تلك الديناميات الثلاث.

استعملت الأسدية أداة بسيطة في عملية احتوائها لهذه المنظومات، ففصلتها عن السياسة، وبقولٍ أكثر دقة «فصلتها عن السُلطة»، حيث احتفظت الأسدية بهذه الأخيرة وبشكل احتكاري تام لنفسها.

سمحت الأسدية لنُخب الاقتصاد السوري، خصوصاً كبار تجار وصناعيي المدن، بأن يُنمّوا أعمالهم وثرواتهم، لكن من دون أن يُسمح لهم بإنشاء أحزابٍ أو جمعياتٍ تمتهن السياسة وتسعى إلى مشاركة الأسدية سلطتها المطلقة. وبالتقادم كان ينهار ذلك التوازن، فتطمع الأجيال الأحدث من موالي الأسدية إلى الشراكة مع هؤلاء التُجار والصناعيين، وبرأسمال وحيد هو السُلطة. وكان ذلك بالضبط بوابة القضاء التام على الاقتصاد السوري.

الأمر ذاته كان ينطبق على التيارات السياسية والفكرية الأيديولوجية التي كانت بوابة «العالم الحديث» إلى المجتمع السوري، من الحزب الشيوعي السوري وحتى حزب البعث نفسه. فقد سمحت الأسدية لها بأن تستمر، لكن فقط كأجهزة خِطابية، معزولة تماماً عن أي فعلٍ أو تطلُعٍ سياسي. ولنفس السبب، وبالتقادم نفسه، انهارت كُل هذه الديناميات المعرفية والنُخب الحديثة لمصلحة نظيراتها «الرجعية»، انهار صادق جلال العظم على يد محمد سعيد رمضان البوطي، وانهار الحزب الشيوعي السوري لمصلحة الإخوان المُسلمين.

الأمر نفسه كان ينطبق على الدولة السورية ذاتها، فكُل مؤسساتها وشرائعها ومواثيقها بقيت بشكلٍ هيكلي مُحافظة على البُنية التي ورثتها عن تلك السنوات، لكنها جميعاً أفرغت تماماً من مضمونها الفعلي الحقيقي. كان ثمة برلمان في سورية بانتخابات متواترة مُنتظمة، لكن من دون حياة قط، وكانت ثمة مخافر للشرطة، لكنها كانت تطلب من المواطنين أن يُنهوا خلافاتهم عبر المُصالحات العشائرية، وكان ثمة دستور في سورية، لكن قانون الطوارئ بقي يحكُمها فعلياً لأكثر من نصف قرن، وكان كُل شيء على ذلك المنوال.

من هُنا، ثمة قوسٌ كبير يجب أن يُفتح حول مسألتين ما زالتا بالغتي الحيوية في النقاش العام السوري مُنذ بدء الثورة السورية وحتى اليوم: هل كان أيُ إصلاحٍ ما مُمكناً في، ومع، الدولة الأسدية، وهي التي كانت مُتخمة بغريزة القضاء على كُل ذلك الميراث الذي كانت تعتبره عدو سُلطتها المُطلقة، وعدو أساس وجودها؟، وهل لا يزال أي تحولٍ سياسي بُنيوي ممكناً، الآن ومُستقبلاً، من دون القضاء على الدولة الأسدية نفسها، وبكل مؤسساتها الحقيقية؟!

اقرأ المزيد
٣١ يناير ٢٠١٧
تحولات دراماتيكية في المشهد السوري

ثمة العديد من المؤشّرات التي تفيد باحتمال حصول تغيّرات نوعية، مفاجئة وكبيرة، في المشهد السوري، على الصعيدين السياسي والميداني، كما في تجاذبات أو صراعات القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في هذا المشهد.

على الصعيد الداخلي، يمكن رصد أهم هذه التحولات بعاملين، أولهما تحوّل معظم فصائل المعارضة المسلحة نحو القبول بخيار المفاوضات، أو خيار الحل السياسي، بعد أن كانت تمتنع عن ذلك، بدعوى أن لا حل سوى بإسقاط النظام عسكرياً، أو لأن لا ثقة لها بالحلول السياسية، تبعاً للأطراف الراعية للمفاوضات، والمقصود هنا تحديداً الطرف الروسي.

يلفت الانتباه أن تلك الفصائل ذهبت إلى خيار المفاوضات، في العاصمة الكازاخية آستانة، متناسية كل الادعاءات التي كانت تطرحها، ومتجاهلة أنها اتجهت نحو هذا الخيار بعد الانهيار العسكري الحاصل في حلب، وبعد اتضاح انسداد أفق الحل العسكري، وأن هذا الأمر تم بناء على رأي الحليفة تركيا. وطبعاً لا يدور النقاش هنا حول صحة هذا الخيار من عدم ذلك، مع التأكيد أنه الأنسب، وإنما النقاش يدور حول المواقف السابقة لهذه الفصائل، التي كانت تكابر في شأن قواها وقدراتها، وتترفّع عن دراسة المعطيات السياسية (كما العسكرية)، والتي ظلت تشتغل بعقلية قدرية، ومزاجية، إلى جانب استمرائها الارتهان للقوى الخارجية. وهذا الموقف ينطلق أيضاً، من الاعتقاد بأن الموقف الأصوب، ربما كان يتمثل بالتأكيد على وحدانية تمثيل المعارضة، وإحالة الأمر الى «الهيئة العليا للمفاوضات»، التي تتمثل فيها هذه الفصائل، إذ كان من شأن ذلك أن يضفي نوعاً من الصدقية على المعارضة إزاء نفسها، وإزاء شعبها، وإزاء العالم.

طبعاً، يلفت الانتباه في هذا الأمر أن لا «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة»، وهو الكيان الرئيس للمعارضة السياسية، ولا «الهيئة العليا للمفاوضات»، التي تتمثل فيها أوسع تشكيلة من الكيانات السياسية والعسكرية، أبديا أي تبرَم مما حصل، أو من هذا الانتقاص من مكانتهما في تمثيل المعارضة، إذا استثنينا بعض المواقف الفردية، التي أبدت استنكارها ومخاوفها من تلاعب روسيا بتمثيل المعارضة، ومن النيل من مكانة وشرعية الإطارين المذكورين.

العامل الثاني، يتمثّل في انقلاب معظم كيانات المعارضة، السياسية والعسكرية، على جبهة «فتح الشام» (جبهة «النصرة» سابقاً)، وهو موقف مفاجئ، وقد ماطلت معظم فصائل المعارضة في الإفصاح عنه لأسباب عقائدية، حيث ثمة فصائل لا تبتعد في طروحاتها عن هذه الجبهة، وميدانية، بحكم قوة هذه الجبهة، وإقليمية بواقع علاقات الجبهة الخارجية. ومعلوم أن تلك الجبهة، التي لم تحسب نفسها يوماً على الثورة السورية، وناهضت مقاصدها المتعلقة بالحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، ظلت تشكل خطراً على فصائل المعارضة العسكرية في كافة أماكن تواجدها، وهي أصلاً كانت عملت على إزاحة جماعات «الجيش الحر» من المشهد، فضلاً عن أنها حاولت فرض أنماط متعصّبة ومتطرّفة من الإسلام على السوريين، بواسطة القوة، في المناطق التي خضعت لسيطرتها، ناهيك عن تبعيتها لتنظيم «القاعدة»، وهو ما أضر بإجماعات السوريين، وبصدقية ثورتهم في العالم.

في هذا الجانب أيضاً، لم يأتِ هذا التغيّر نتاج تطور في القناعات السياسية، أو نتاج مراجعة للتجربة، بما لها وما عليها، من قبل المعارضة، وإنما أتى نتيجة ضغوط خارجية، وضمن ذلك التحوّل في الموقف التركي.

هكذا نحن في الحالتين المذكورتين آنفاً إزاء معارضة (سياسية وعسكرية) مترددة، ولا تأخذ الموقف المناسب في الوقت المناسب، ولا تصدر مواقفها بناء على ادراكاتها لمصلحة شعبها، أو متطلبات ثورتها، ولا بناء على مراجعة نقدية للمسارات والخطابات التي انتهجتها، الأمر الذي يضعف صدقيتها، ويثير الشبهات حول حقيقة أو صلابة الخيارات التي اشتغلت على أساسها.

على أية حال يمكن الجزم بأن التحولين المذكورين لن يمرا بسهولة، إذ إن التحول الأول قد يفضي، على الأرجح، إلى إعادة ترسيم خريطة الكيانات السياسية والعسكرية للمعارضة السورية، وضمنها للوفد المفاوض، مع كل ما يستتبع ذلك من تغير في المرجعيات والأولويات والمواضيع. في حين أن التحول الثاني قد يفضي إلى إعادة هيكلة الفصائل العسكرية، والعمل على تحجيم «جبهة النصرة»، وربما تصفيتها، إضافة إلى حصول تغيرات ميدانية، تبعاً لذلك، في مناطق سيطرة المعارضة المسلحة، وفي شكل إدارة المناطق «المحررة».

أيضاً، على الصعيد الخارجي ثمة تحولات نوعية مهمة، وكبيرة، قد يتوقف بناء عليها مصير النظام والثورة السوريَين، أو مصير الصراع السوري برمته، وهو ما يتمثل، أولاً، في ظهور التباين بين الأجندتين الروسية والإيرانية، معطوفاً على تضاؤل نفوذ إيران في الصراع السوري لمصلحة روسيا. وثانياً، بتزايد التوافق والتنسيق الروسي - التركي، على حساب إيران، أيضاً، مع ما يعنيه ذلك من وضع حد للتدخل العسكري الروسي لمصلحة النظام، أو على الأقل التخفيف منه. وثالثاً، دخول الولايات المتحدة الأميركية في عهد الإدارة الجديدة على خط الصراع السوري، على خلاف عهد الإدارة المنصرفة، سواء بتهديدها إيران، وتصريحها عن اعتزامها تحجيم نفوذ طهران في المنطقة، وفي شأن تصريحاتها العلنية بخصوص عدم التوافق أو عدم الرضا عن سياسة روسيا في سورية، كما بتلويحها بإمكان تنظيم مناطق آمنة في سورية (وفق تصريحات الرئيس الجديد دونالد ترامب)، ما يعني عودة التقارب بينها وبين تركيا.

في كل الأحوال، فإن هذه التحولات تفيد بإمكان تغير المعادلات الدولية والإقليمية المتعلقة بالصراع السوري، أو بالصراع على سورية، ولعل هذا ما يمكن ملاحظته من تغير الأجندة الروسية بتخفيف ضغطها العسكري (الجوي) على فصائل المعارضة العسكرية، ووضع ثقلها وراء الحل السياسي التفاوضي، وطرحها مشروع دستور، واستعجالها توليف تشكيلة جديدة للوفد المفاوض، وهي المحاولة التي لم تنجح، على ما تبين من فشل اجتماع موسكو، الذي عقد بعد مؤتمر آستانة.

كما يتجلى ذلك بقبول معظم فصائل المعارضة الدور الروسي الجديد توخياً منها للاستثمار في التغير الحاصل لمصلحتها، ولمصلحة تركيا، وأيضاً من أجل تحجيم نفوذ إيران في سورية.

بيد أن كل التحولات المذكورة ستظل رهناً بعوامل أخرى لم يجر بعد تبين مداها، أو مفاعيلها، وهذه تتمثل أولاً في مدى حسم الإدارة الأميركية الجديدة مواقفها إن في شأن مناطق آمنة، أو بخصوص علاقتها بالمعارضة السورية، كما في شأن التدخل بالطريقة المناسبة، بوسائل الضغط السياسي أو العسكري، لإنهاء الصراع السوري. ثانياً، هذا سيتعلق بطبيعة رد الفعل الإيراني على التحولات في الموقفين الأميركي والروسي، لا سيما أن لهذه الدولة وجوداً ميدانياً، أي عسكرياً، في سورية، كما في العراق ولبنان. ثالثاً، يبقى السؤال هنا مشرعاً في شأن حقيقة توجهات روسيا، وما إذا كانت تعتزم حقاً طرح استراتيجية خروج من الصراع السوري قبل التورط في مواجهات غير محسوبة مع الإدارة الأميركية الجديدة، أو إنها لا تبالي بذلك، سعياً منها لإجراء مساومات مع هذه الإدارة في ملفات أخرى عالقة (أوكرانيا، الدرع الصاروخي، الحظر التكنولوجي، أسعار النفط). ورابعها، يتعلق بالمعارضة السورية، بكياناتها السياسية والعسكرية، إذ من غير المعقول بقاؤها على النحو الذي هي عليه، ببناها وخطاباتها وأشكال عملها، وبتشتتها، وارتهان ارادتها، وبالفجوة بينها وبين مجتمعات السوريين في الداخل والخارج.

الفكرة هنا أن المعارضة معنية بإعادة تنظيم أحوالها وترشيد خطاباتها، والارتقاء بأشكال عملها لمواجهة الاستحقاقات والتحديات المقبلة، لأنه من دون ذلك لن يستطيع السوريون الاستثمار في التحولات المرتقبة، والبناء عليها، وبخاصة أن النظام يبدو كجبهة موحدة، وينتهج استراتيجية واضحة وخطابات متماسكة، في حين تبدو المعارضة على خلاف ذلك.

اقرأ المزيد
٣١ يناير ٢٠١٧
الخليج وإيران... الحوار الواقعي أم الصراع الضروري؟!

لا مِراء في أن الحوار والتفاوض السياسي بين الدول جزء أساسي من العمل الدبلوماسي، والسياسات والاتفاقيات بُنيت لتكون ثمرة لورش الحوار، ونتيجة الجلوس على الطاولة والتفاهم، لكن المشكلة ليست في امتثال الحوار قيمةً بين الدول المختلفة، بل في كون الحوار ضمن النهج المتبع سياسيًا أم لا، لدى الضفة الأخرى!

رسالة أمير الكويت، لإيران، التي حملها وزير الخارجية الشيخ صباح الخالد، تتعلق بالحوار والعلاقة بين دول الخليج وإيران، الرسالة كانت حكيمة وواضحة، خلاصتها «أن العلاقات بين إيران والخليج، يجب أن تكون مبنية على ميثاق الأمم المتحدة، ومبادئ القانون الدولي الخاص بالعلاقة بين الدول، إننا شركاء في المنطقة، ولدينا مصالح مشتركة وإمكانيات كثيرة، والحوار وتطبيع العلاقات سيعودان بالمنفعة على الجانبين».

الرئيس الإيراني روحاني، رحب بهذه المبادرة، واعتبرها خطوةً إيجابية لتحسين العلاقات، كل ذلك حسن وسائغ، ويفتح كوةً على جدار صلب، غير أن المثل شيء، والواقع له حيثياته الأخرى. لنتذكر شهادة رفسنجاني نفسه، وهو جزء من تأسيس النظام الإيراني، وعرّاب وصول خامنئي إلى سدة منصب المرشد وهو يتحدث عن «نكث النظام الإيراني بالاتفاق الذي أبرمه مع السعودية»، وذلك عبر التدخلات السافرة في شؤون الخليج الداخلية. هناك امتناع من النظام الإيراني عن محاورة خصومه من الإيرانيين في الداخل الذين يقضون أحكامًا جائرةً بالإقامة الجبرية، أو السجن والاعتقال، يحدث هذا مع مختلفين مرموقين مع النظام مثل الرئيس السابق محمد خاتمي، أو بعض أحفاد الخميني، وورثة رفسنجاني، هذه هي العقلية التي تدار بها الأمور داخل البلاد، فكيف يمكن للآخرين توقع ردات فعلٍ أو خطواتٍ تذهب بعيدًا باتجاه الحوار وضبط التدخل، واحترام سيادة الدول؟!

نعم هناك أصوات أقل جنونًا، أو قل «عاقلةً» في إيران، استطاعت دول الخليج التعامل معهم بنجاح مثل محمد خاتمي، وعلي أكبر هاشمي رفسنجاني، وسواهما، لكن هذه أطياف لا تشكل لونًا فارقًا على لوحة إيران الدموية!

ما يفقده النظام الإيراني هو الواقعية السياسية، لهذا امتاز رفسنجاني عن نجاد وروحاني، وفي مقابلة موقع «جماران» مع غلام علي رجائي، مستشار رفسنجاني يقول عنه: «كان يحظى بميزتين؛ الأولى نظرته الواسعة، فمثلاً عندما كان يقترح حلاً لمشكلات العالم الإسلامي، كان يعرف الواقع الشيعي والسني، فإذا دعا للتقارب والتفاهم مع أهل السنة كانت دعوته على أساس اعتبارهم أشقاء أولاً، وأن الشيعة أقلية في العالم الإسلامي من ناحية العدد ثانيًا. إن رفسنجاني كان واقعيًا، فمن هذا المنطلق استجاب الملك عبد الله بن عبد العزيز لدعوته، وكان يكرر دائمًا أننا توصلنا إلى اتفاقات مع الملك عبد الله، وشكلنا لجانًا لكل المشكلات في المنطقة والعالم الإسلامي من قبل القدس ولبنان والعراق ومناطق أخرى، لكن أحمدي نجاد تخلى عن تلك الاتفاقات المهمة كافة».

الخطابات السياسية التي يدلي بها الساسة والدبلوماسيون في القمم الدولية، تتسم غالبًا بالبراغماتية وتوجه إلى الغرب أكثر من كونها متضمنةً رسائل لدول الجوار، لكن العمل العسكري عبر الحرس الثوري يعبر عن سياسة إيران الحقيقية، وعن مشروعها في تصدير الثورة، أما الخطاب السياسي الهادئ كما يجسده وزير الخارجية ظريف، فإنه قشرة لينة على قنبلة قاتلة!

الحوار مع إيران من حيث الفكرة، هو جزء من العمل السياسي لأي دولتين جارتين في العالم، هذا من حيث الفكرة والشكل، لكن على الأرض والواقع، وبقياس الإمكانات والاحتمالات، فإن نجاحه صعب للغاية، لأن أنياب إيران غرست باليمن ولبنان وسوريا والعراق، وأججت للطائفية وقتل الآخرين على الهوية، وعودتها لتكون إيران خاتمي، أو رفسنجاني، تلك المراحل العابرة سريعًا لن يكون أمرًا سهلاً، بل أراه شبه مستحيل في المرحلة الحالية، والملك سلمان حدد سياسة السعودية، وماذا يجب على دول الجوار احترامه، وذلك بـ«الالتزام بالمعاهدات والاتفاقيات والمواثيق الدولية، بما في ذلك احترام مبدأ السيادة، ورفض أي محاولة للتدخل في شؤوننا الداخلية»، تلك خلاصة سياسة السعودية، دولة الاعتدال.

اقرأ المزيد
٣١ يناير ٢٠١٧
الديموقراطية والتنوير والحداثة

ازدادت في الفترات الأخيرة عملية تفكيك وتهشيم المجتمع السوري بحيث جعلت منه حالة مصدعة على نحو شمولي مأساوي، وراح الأمر يبدو وكأنه غدا مع سوريا ريحاً صرصراً لم يترك إلا الخراب والآلام، إضافة إلى شكوك سوداء في القدرة على إعادة البناء، ولكن إرادة الشعب السوري على هذا الأخير هي الرهان الذي يبرز بقوة، رغم كل شك وتشكيك في ذلك. وفي هذا وذاك تبرز النواظم لهذه الإرادة، على رغم ما قد يبرز من سلبيات، ولا شك أن إنجاز ذلك مجتمعاً سينتج ما سيكون البدايات الناظمة لإعادة الأيقونة العظمى إلى ألقها.

وإذا قلنا إن تحقيق هذه المهمة يمثل واجباً وجودياً وأخلاقياً وإنسانياً، على الجميع أن يشارك في إنجازه، فإنما نعني أن على هؤلاء جميعاً المشاركة في ذلك انطلاقاً من واقعين اثنين، أولهما المشاركة المادية، العسكرية والاقتصادية والجغرافية الطوبوغرافية.. إلخ، كما يتبلور في المسؤولية الأخلاقية والسياسية حيال الصمت المريب والمؤلم الذي أبداه الآخرون في العالم، حين أظهروا عجزاً فاضحاً في الصمت على قتل الأطفال، وعلى استباحة النساء بشكل فاحش مُريب إلى حد الثمالة. وذلك كله لا يعوضه إلا استعادة العافية البيولوجية والإنسانية والأخلاقية التاريخية للشعب السوري الذي قدم ما نراه في ملحمة الخلاص والكرامة.

إن هذا الحدث السوري الفائق الدلالة بالنسبة إلى ما مر بشعوب العالم الأخرى لن نسدد الدَّين التاريخي المترتب عليه، إلا إذا وُفقنا في ضبط عناصر إرادة البناء، كما في وضعها الموضع المناسب من التراكمات التاريخية السورية الفائقة في وجودها البشري المديد، وسيبقى طويلاً الصدى السوري في التاريخ، الماضي كما القادم، بأعظم ما قدمه شعبه، للكرامة البشرية، ورفعها إلى الفرادة أو قريباً منها في التاريخ.

وقد يكون هذا السؤال وارداً في هذا المنعطف التاريخي: ما الذي أفضى إليه الصراع السوري، وهل ما أفضى قابل للحل؟ ألم يكن الصراع السوري فريداً في التاريخ، بل هو صيغة من الصراع الذي ينشب حين يقف طرف من هذا الصراع في وجه التاريخ، حركة وتجدداً وتغييراً، بل وتثويراً إذا اقتضى الأمر، أي إذا خرج فريق من الناس الحاكمين، وعبر عن ذلك بالتمادي في ردود الفعل لإيقاف عجلة التغيير في بلد ما، وجعل هذه الرغبة كأنها خارج التاريخ، ومن هنا كان الوعي التاريخي لبعض ذوي السلطة والرأي غير ذي حكمة، حين يرفضون النظر إلى دواعي التاريخ، وأحياناً خاصة لضروراته! والمأساة تنساح أمام الشعب حين يواجه بالسلاح بدلاً من الإقرار بواقع الحال والعمل بمقتضى الضرورات التاريخية، فالوعي بهذه الأخيرة، وبالاستجابة لها، من علامات النمو الحضاري والوعي الوطني بالمعنى البسيط المباشر. وغياب ذلك يترتب عليه الوقوع في أخطاء تمتد مع الزمن بكل الاعتبارات والدلالات، ومن ثم، ها هنا تظهر إرادة الاستجابة الواعية للأحداث، وهذا من طبائع الأمور وأمهاتها، ومن ثم فليس من العيب الاستجابة لدعوة التغيير، حين تلعلع في السماء بصوتها الحكيم، مع الاستجابة المتواضعة الأمينة، بل بتقديم هذه الاستجابة محشوة بالرموز والدلالات التي عليها أن تقربها وتعلن ضرورة التبشير بها، وفق استجابة عقلانية وتواضع بشري تاريخي.

ومصطلح «الديموقراطية» قد يكون هنا ذا أهمية كبيرة تمتد إلى كل المصطلحات المعنية في هذا الحقل، وربما كذلك لغيرها مثل الحداثة والتنوير وإعادة البناء، إضافة إلى مفهومي الوطنية والقومية والنهضة.. إلخ، مع العلمانية والمجتمع المدني. وسنتوقف في منعطف دقيق وذي حساسية بالنسبة إلى موضوعنا، ونعني مركّب مفاهيم العلمانية والديموقراطية والمجتمع المدني، فليس بعيداً عن الاحتمال أن كل تلك المفاهيم الثلاثة تلتقي بصيغة أو بدلالة ما تشير إلى ما يربط بينها.

وقد نشأ مفهوم العلمانية في أوروبا وترك بصمات مشددة على علاقته بكل الحياة الأوروبية، فالكل ها هنا غدا النظر إليه بمثابة البصمة الرئيسة: أن تكون العلمانية موقفاً صارماً من الحياة، فهنا نغدو أمام حقلين من الحياة، الحياة الدينية والأخرى «اللادينية» المدنية في السياسة والمجتمع والثقافة الجديدة، وأخيراً حصرنا ذينك الحقلين كلاً في فسحة تعزله عن الآخر.

اقرأ المزيد
٣١ يناير ٢٠١٧
الخميني كما يدعون : "روح الله" التي عادت

تعيش ايران هذه الأيام حالة من الهياج العاطفي و الجنون الحزني على مؤسس دولتهم ، في ذكرى عودته من منفاه المشبوه ، التي بناها و أسسها الخميني قبل ٣٧ عاماً ، و مات بعد تأسسيها بثمان سنوات ، تاركاً إرثاً سلبياً على كاهل الإسلام و كل ما يحيط بالمنطقة .

الخميني الذي يعتبره الشيعة مرسال الإمام المهدي المختفي ، و صاحب القرار و الأمر و النهي ، فهو في مرتبة الرسول الأعظم لما يقولون عنه "صاحب الزمان" و بلغتهم "ولي العصر" ، خاض سلسلة من الاتفاقيات و الصفقات حتى وصل إلى سدة الحكم و أنهى حكم "الشاهنشاهي" .

الخميني الذي نظّم و أسس لدولة بوليسية غاية في التعقيد وضعها في قالب اسلامي ليضمن الهالة لها ، و نشر الرعب و الخشية ، أن أي مخالفة لها هي مخالفة لإرادة الله و"بقية" آل البيت على الأرض ، ألا وهو "المهدي" ، دولة قامت على أهداف و مشاريع استعادة أمجاد الفارسية ، بصبغة دينية ، و لباس شرعي ، و تأييد إلهي ، فهو مندوب المهدي .. ولي أمر المسلمين ، مؤسس جيش محمد ، مساند فعال لمواجهة الظلم ، و لكن على أن يكون تحت هذه الراية و الشعارات والخطب ، ما يعيد أمجاد الإمبراطورية الفارسية و الإنتقام من الحضارات أجمع و على رأسهم الحضارة العربية الإسلامية .

فالمشكلة التي تعيش إيران لإنهائها هي مشكلة حضارية بحتة ، و من عاش و عايش الفرس عموماً و الإيرانيين على وجه الخصوص ، سيلمس بشكل جلّي الحقد الدفين على العرب في أشعارهم و أقوالهم و مبادئهم ، فالعرب هم "آكلي الجراد" لا يحق لهم السيطرة أو التفرد أو التطور ، فكيف و حطموا أمجادهم و أنهموا أساطيرهم .

هذه الرؤية التي جمعت و تحجمع إيران مع الغرب و كل من يعادي العرب ...

ايران التي تقوم على نظام "ثيوقراطي" تعمل بكل ما أوتيت لكي تعيد وجودها المنفرد بالمنطقة ، و التفرد فعلته من خلال تعزيز المذهب الشيعي الإثني عشري ، و تفردها بدعمه و إدارة شؤونه ، كونه مذهب يقوم على أسس الطاعة و الولاء المطلق للمراجع الدينية ، و يرفض أي اختلاف أو تخالف مع الغير ، و يجعل من رجال الدين (تجار الدين) هم همزة الوصل بين العبد و الله على مبدأ "درجة درجة حتى تلتقي مع الله " و هم أولى و اهم هذه الدرجات .

الخميني هو لغز و عنصر فعال في التمدد الإيراني الحالي ، لذا يدأب الإيرانيون على إضفاء كامل هالات القدسية و التقديس ، و اعطاء قيمة لمحبته و السير على خُطاه كتلك التي يتعرض لها الإنسان يوم القيامة فهو "روح الله" ، و يملك مفاتيح الجنة ، و يرسم طرق الخلاص .

إيران القائمة على مبادئ التأليه و الرسولية المستمرة بعد سيد الخلق "محمد صل الله عليه و سلم" لم و لن تصل إلى مبتغاها ، فما قام على باطل فالبطلان مصيره .

اقرأ المزيد
٣٠ يناير ٢٠١٧
سيموت بشار ولو بعد حين

انتشرت في السنوات القليلة الماضية، وخصوصا في 2016، مقالات وآراء عديدة تقارن بين ما يجري في سورية اليوم وما جرى قبل ثمانين عاماً تقريبا في إسبانيا، على خلفية الانقلاب العسكري العنيف الذي قامت به عناصر من الجيش الإسباني بقيادة الجنرال فرانسيسكو فرانكو ضد حكومة الجبهة الشعبية اليسارية المنتخبة في مدريد.

تقوم معظم المقارنات على التشابه في عامل التدخل الخارجي لصالح فرانكو، وتخلي الدول الداعمة للديمقراطية عن الجمهوريين، بشكل مباشر أحيانا وغير مباشر أحيانا أخرى، وهو ما حصل، بطريقةٍ أو بأخرى، مع النظام السوري والمعارضة الشعبية له، حيث تُركت الأخيرة لتدخل دوامة التخبط وحيدةً في مواجهة نظام دموي مدعوم مادياً بشكل رئيسي من إيران، وعسكرياً من إيران وروسيا. بينما وُعدت المعارضة بالدعم الذي لم يأت، أو أنه قُنن واستُخدم للتلاعب بكل مجريات الأمور على الأرض، بما يخدم حالة الاستعصاء العسكرية لمرحلة طويلة، والتي ستنتهي، على ما يبدو، بفوز عسكري للنظام، وهو ما لن يستطع، كما كانت الحال في إسبانيا بعد فوز فرانكو، أن يقتل روح الثورة التي ستعاود الاشتعال بأشكال مختلفة لتعيد إلى سورية حريتها، ولو بعد حين.

فعلى الرغم من فوز فرانكو العسكري عام 1939، بعد عامين من المعارك المشرّفة التي خاضها الجمهوريون دفاعا عن الديمقراطية، وعلى الرغم من تعرّض جزء كبير من الشعب الإسباني للنزوح والتشرد بعد الهروب من بلادهم، وتعرّض الآلاف للإعدامات الميدانية، وغالبيتهم من النخب الثقافية والسياسية المناوئة لفرانكو، وعلى الرغم أيضا من القمع الوحشي والدكتاتورية المطلقة اللذيْن حكم بهما فرانكو إسبانيا حوالي 36 عاما حتى تاريخ وفاته، على الرغم من ذلك كله، استطاعت جيوب المقاومة السرية أن تقلق عرش فرانكو طويلا، وأن توجه له ضربةً قاضيةً باغتيال لويس كاريرو بلانكو، مساعد فرانكو الأوثق ووريثه المحتمل في الوصاية على رئاسة الدولة. وهو ما يُعد حدثا مفصليا في تاريخ إسبانيا، لأنه أسقط حلم فرانكو في استمرار حكمه من بعده.

لا مجال هنا للدخول في تفاصيل الأحداث. لكن، يمكننا أن نقول بشكل عام إن كل تلك الوحشية والقمع و"الانتصارات" العسكرية التي سلمت فرانكو العرش، وأبقته فيه، لم تستطع أن تمنع إسبانيا من النهوض دفعةً واحدةً، وكالمارد من تحت الرماد، ما إن مات الدكتاتور، وذلك لم يكن ليكون لولا تذوّق الشعب الإسباني طعم الحرية والديمقراطية، وقتاله دفاعا عنها، وتقديمه ثمنها كاملا قبل حكم الطاغية وفي أثنائه.

كان العالم يعرف أنه يسلم إسبانيا للدكتاتورية المجرمة، كما يعرف العالم نفسه اليوم أنه يسلم سورية لدكتاتوريةٍ قد تكون أسوأ وأقسى وأكثر إجراما. أما الشعوب فكانت، ولا تزال، تعرف أن التاريخ لا يمكن أن يعود إلى الوراء، وأن الثورات لا تُهزم، حتى وإن أسكت الرصاص أصواتها إلى حين.

لم تهزم الثورة السورية ولن تموت، فقد انتصرت حين كسرت جدران الصمت وقيود الفكر. انتصرت حين قالت للطاغية إنه الدكتاتور الأخير على هذه الأرض، حين عّرته تماما أمام نفسه، وأمام العالم المشيح بوجهه اليوم، كي لا يعترف بهزيمته الأخلاقية والإنسانية. انتصرت حين أجبرت كل سوري على الوقوف أمام المرآة عارياً، إلا من إنسانيته، وحين أمادت الأرض السورية لتخرج كل الغث من باطنها، سياسيا واجتماعيا وثقافيا، ثم جرفتهم جميعا إلى الهاوية.

حتى وإن "انتصر" نظام الأسد عسكريا في هذه الجولة، فإنه مهزومٌ حتى الصميم، ومنخور بالسوس الذي سيأكله سريعا.

بشار الأسد هو الطاغية الأخير على أرض سورية، حتى وإن اجتمعت لدعمه كل أهل الأرض، وأجبرتنا، نحن السوريين، على الضغط على الجراح سنوات أخرى، سنعمل خلالها على إعمار ذواتنا المهشّمة المجروحة والتخطيط الصحيح ليومٍ سيأتي لا محالة، تحمل شمسه فجراً جديداً لسورية، حتى وإن كنا سننتظر حتى يموت الطاغية.. وهو ما تقوله شائعات اليوم.

اقرأ المزيد
٣٠ يناير ٢٠١٧
حلب آخر معارك روسيا بانتظار قمة بوتين - ترامب

تكرّر موسكو أن لا حل عسكرياً لأزمة سورية. وتقود منذ تدخلها العسكري خريف 2015، نشاطاً ديبلوماسياً لا يكل ولا يمل لإبرام حل سياسي. لكن هذا الحل يبدو أيضاً معضلة، إن لم نقل مستحيلاً. فلا هي قادرة على فرضه بالقوة. ولا هي على سكة واحدة مع اللاعبين الآخرين والمتصارعين على بلاد الشام. اجتماع آستانة الأخير لم يفشل، لكنه لم ينجح وقد لا ينجح إذا ظل المعنيون بالحل على مواقفهم. تقدم الكرملين خطوة باتجاه الفصائل المسلحة التي حضرت الاجتماع ووافقت على وقف النار. لكنه لم يستطع إقناعها ولن يستطيع، لا هو ولا الآخرون بدفعها إلى القبول ببقاء الرئيس بشار الأسد، حتى وإن قبلت بإعادة تأهيل النظام مع تعديلات معقولة نصت عليها مسودة «روسية» للدستور السوري الجديد. لا يجرؤ فصيل سياسي أو عسكري على القبول بما تقدمه روسيا بعد كل هذه التضحيات، حتى وإن سكتت تركيا، أحد الأطراف الثلاثة الضامنة الهدنة. وهي سكتت بالفعل وقبلت على مضض ألا يتضمن بيان العاصمة الكازاخية أي إشارة إلى إعلان جنيف الأول وإعلانات فيينا. صحيح أن القرار الدولي 2254 الذي لحظه البيان الثلاثي الروسي - الإيراني - التركي يتضمن إشارة إلى إعلان جنيف. إلا أن الواضح أن موسكو تستهدف منذ استئثارها بالدور البارز في إدارة الأزمة، إلغاء كل ما سبق، وإرساء قواعد ومفاهيم وعناصر جديدة للتسوية. لذلك، أعلن وزير الخارجية سيرغي لافروف تأجيل مفاوضات جنيف، مفضلاً أن تتحول آستانة مقراً لأي مفاوضات بديلاً من المدينة السويسرية.

لا شك في أن موسكو حققت في آستانة خطوة متقدمة على طريق استثمار تدخلها العسكري، خصوصاً في حلب أخيراً. ولم يشر البيان الثلاثي إلى إعلان جنيف الذي بات كتاباً «مقدساً» للمعارضة. لذا، لم يوقع ممثلو الفصائل على البيان، وكذلك فعل النظام. وهنا المعضلة في الحل الذي يبحث عنه الرئيس فلاديمير بوتين. لا شك في جدية بحثه عن الحل. لكن عقبات كبيرة تعترضه. أولها موقف إيران والنظام في دمشق. وليس سراً استياؤه من موقف هذين الحليفين. وصور الخلاف بين موسكو وطهران لا تحتاج إلى تظهير، منذ بداية التدخل العسكري الروسي. لم يصل الأمر إلى حد القطيعة وقد لا يصل بانتظار ما ستسفر عنه القمة المرتقبة بين الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب ونظيره بوتين. ولكن، حتى هذه قد تفاقم العقبات. سيد البيت الأبيض لن يحمل إلى القمة المرتقبة في الربيع المقبل ملف سورية وحده. سيضع في جعبته كل الملفات موضوع الخلاف من أوكرانيا إلى إيران مروراً بسورية وغيرها. يعني ذلك أن اللقاء بين الزعيمين قد يثمر أو لا يثمر صفقة كاملة. بالطبع ما يأمل به المعنيون بسورية، خصوصاً أطياف المعارضة بكل أجنحتها، ألا يكتفي الزعيمان بالتفاهم على محاربة «داعش» وما شاكل، بل أن تنضم واشنطن إلى الجهود الثنائية الروسية - التركية لترتيب حل مُرضٍ يرفع اليد الثقيلة للجمهورية الإسلامية عن دمشق. ويحبط استراتيجيتها في بلاد الشام، مقدمة أيضاً لانضمام أطراف أخرى، مثل دول الخليج، إلى رسم مستقبل سورية. وما لم يحصل مثل هذا التفاهم الدولي - الإقليمي الواسع ستظل التسوية معضلة تماماً كما الحسم العسكري المستحيل. ويصعب الآن التنبؤ بموقف الإدارة الأميركية الجديدة حيال الأزمة في بلاد الشام. وإشارة ترامب إلى تأخير رفع العقوبات التي فرضها سلفه على روسيا، ودعوته أركان فريقه إلى البحث عن إقامة ملاذات آمنة في سورية، لا تؤشران إلى سهولة التفاهم بين الكرملين والبيت الأبيض في القمة الموعودة.

المعارضة السورية تلقت ضربات قاصمة بعد حلب. لكنها ليست في وارد التسليم ببقاء الرئيس الأسد. لن تعول على مدها بسلاح نوعي يعيد شيئاً من التوازن على الأرض. لكن القضاء عليها بالكامل شبه مستحيل والحسم الميداني ليس في أجندة القوات الروسية لاعتبارات كثيرة. تحسب موسكو ألف حساب لحضور إيران واستراتيجيتها وقدرتها على التأثير في موقف الرئيس الأسد. ولعل الرئيس بوتين ليس واثقاً في قدرته على تنفيذ أي التزام بتنحية الأسد إذا اقتضت صفقة كبرى ترحيله. استثمرت طهران الكثير في سورية وقدمت الرجال والمال. ومارست أخيراً ضغوطاً واسعة على دمشق وأوقفت إمدادها بالنفط وتقديمات أخرى لنحو شهرين إلى أن حصلت على عوائد ضخمة لتدخلها وميليشياتها. وضعت يدها باتفاقات رسمية على مناجم الفوسفات، وعلى مساحات واعدة للتنقيب عن النفط كانت من نصيب الشركة السورية للنفط. ونالت ترخيصاً ثالثاً لتشغيل الهاتف الخليوي. وكانت تضغط بلا جدوى للحصول على موقع في مرفأ اللاذقية. وهذا هو العنصر الأهم في استراتيجيتها. وللحقيقة أن الأسد استطاع حتى الآن التملص من هذا المطلب.

الإمساك بموقع على الساحل السوري هدف رئيسي لإيران، يضعها في مواجهة مكشوفة مع روسيا وتركيا أيضاً. ليس سراً أن الجمهورية الإسلامية تريد، بتحركها العسكري وبناء جيوش رديفة من الميليشيات التابعة لها، استكمال وضع يدها على سورية ولبنان كما هي الحال في العراق. وتقضي خطتها الاعتماد على «الحشد الشعبي» وباقي الميليشيات لبناء جسر كبير يمتد من حدودها إلى أرض الرافدين فبلاد الشام مخترقاً المثلث السنّي الكبير بين هذين البلدين حتى الوصول إلى الساحل. يضمن لها هذا بناء خط لتصدير الغاز إلى أوروبا والغرب عموماً. مثلما يضمن لها تحقيق هدف آخر هو التواصل البري الآمن مع حلفائها في لبنان. هكذا، تستكمل عناصر أساسية من سياستها، وترسخ حضورها أو ثقلها السياسي والعسكري والاقتصادي في المشرق العربي. ولا يخفى أن هذه الأهداف تصطدم بسياسة روسيا التي سعت من الساحة السورية بعد الأوكرانية إلى توكيد قوتها دولة عظمى. وقد طوت صفحة خلافاتها مع تركيا من أجل ضمان التعاون معها في بناء خط مماثل لتصدير الغاز عبر القناة التركية لتظل تتحكم بمصادر الطاقة إلى أوروبا عموماً. فهي تدرك أن الاقتصاد هو عماد قوتها إلى جانب قواها العسكرية. إضافة إلى رغبتها في التعاون مع الدول الخليجية لأهداف تتعلق بالطاقة أيضاً، ولحرصها على عدم ترسيخ صورتها عدواً للعالم السنّي والعربي عموماً.

الجبهات المشتعلة الآن ترسم مشهداً يعكس سياسات الأطراف المعنية. هناك جبهتا تدمر ودمشق وجبهتا الباب وإدلب. الواضح أولاً أن حلب ربما كانت آخر المعارك الروسية، بانتظار الصفقة الكبرى مع الولايات المتحدة. فالواضح أن القوة الروسية التي أعادت حلب إلى حضن النظام قادرة على استعادة تدمر، وقادرة على إلقاء ثقلها الكامل لفك الحصار الذي يضربه «داعش» على بضعة آلاف من جنود النظام في دير الزور. بل قادرة أيضاً على المساهمة الفعالة لتغيير ميزان القوى في إدلب وريفها. فلماذا هذا الإحجام؟ الواضح أيضاً أن قوات النظام وحليفته إيران وميليشياتها تركز على إدلب بدلاً من تدمر لقطع الطريق على النفوذ التركي شمالاً فلا يكون قوة موازية للحضور الإيراني، ولتوجيه ضربة إلى تفاهم موسكو - أنقرة. ويتناسى رأس النظام في دمشق ما قد يحل بالآلاف من جنوده المحاصرين في دير الزور. لعله لا يزال مأخوذاً بنشوة «النصر» الحلبي. أو لعله، إذا وقعت الواقعة، يشحذ آلته الدعائية حيال الغرب بدماء هؤلاء الجنود «ضحايا تنظيم الدولة» كما فعل ويفعل. والإشكال الذي يتحكم بالصراع الخفي بين روسيا والجمهورية الإسلامية أن الأولى تعي مدى حاجتها إلى قوات برية تساعد طيرانها العسكري في تحقيق «إنجازات» على الأرض. بينما تعي الثانية مدى حاجتها إلى القوة الجوية الروسية في الحرب الدائرة. وخير دليل ما حصل في تدمر حيث استأثر الرئيس بوتين بالاحتفال بالنصر، وأصر على إخراج الميليشيات من المدينة. مع أنه يعرف سلفاً أن القوات النظامية السورية لا يمكنها القتال في جبهات عدة. ولا يمكنها وحيدة الحفاظ على ما يتحقق على الأرض. والسؤال اليوم هل لإحجام الكرملين عن الانخراط الحاسم في معارك إدلب وتدمر ودير الزور علاقة بفرملة المشروع الإيراني؟

لا شك في أن الرئيس بوتين لن يجازف في خسارة حليفه الآخر، تركيا التي وقعت على مضض على بيان آستانة، وعدلت خطابها حيال بقاء الرئيس الأسد، من باب الحرص على تفاهمها مع روسيا. وهي تأمل بأن تبدل إدارة ترامب في سياسة أميركا حيال الملاذات الآمنة، لعلها ترتاح من خطر الإرهاب الذي يجتاح مدنها، وترتاح من عبء ملايين اللاجئين ومشاكلهم المرافقة. كما أن بوتين بتفاهمه الواضح مع إسرائيل يعي الإشكالية التي تواجه تل أبيب. فهي تتمسك من جهة ببقاء الأسد خوفاً من رحيلٍ يودي إلى نموذج ليبي ومرابطة قوى متشددة على حدودها الشمالية. ومن جهة أخرى تخشى أيضاً مرابطة إيران وميليشياتها المتحالفة مع النظام على حدود الجولان... يبقى أن سورية قد لا تحتمل استمرار الحرب لسنة أخرى لن توفر البقية الباقية من معالمها بشراً وحجراً. وعند ذلك يسهل تحويل بلاد الشام عراقاً آخر!

اقرأ المزيد
٣٠ يناير ٢٠١٧
مجدّداً في عهدة شبابها

من حسنات ما ترتّب على هزيمة حلب المرعبة ما نشاهده اليوم من تجدّد لدور الشباب السوري في الثورة. وكما أخذت فاعلية الشباب، في بدايات الثورة، شكل حراكٍ سلميٍّ ومجتمعيٍّ واسع ويومي، تستعيد أنشطتهم المتجدّدة في كل مكان ذكريات ذلك الحراك، وإن كانت لم تبلغ بعد المستوى الذي كان لها في مطالع الانتفاضة الاجتماعية/ السياسية الكبرى لعام 2011، التي بلغت، في فترة قصيرة، مستوىً ندر أن عرفته ثورةٌ سبقتها.

والآن، هل يمكننا القول بثقة: هزيمة التعسكر المتمذهب في حلب ستضع الثورة من جديد في عهدة حراكٍ يقوم به شبانها، إناثاً وذكورا؟ سيلاحظ متابع أنشطة المواطنين عامة، والشباب خصوصاً، عودة كتلٍ كبيرة من الشباب إلى مسرح الأحداث في مناطق سيطرة التنظيمات المسلحة، وسيلمس ارتباط الثورة المتجدّد بشبابها: الجهة التي لعبت الدور الأهم في انطلاقتها، وزوّدتها بشعاراتٍ ومطالب جعلت منها ثورة "حرية وسلمية للشعب السوري الواحد"، تنبذ الطائفية والتفرقة والتمييز والصراع والاقتتال بين السوريين، وتنشد مخرجاً سياسياً، يحرّرهم من الاستبداد، يجعل العدالة والمساواة نعمةً، ينالها كل مواطن، بعد الانعتاق من عبوديته للأسدية والتنعم بالحرية التي سيأتيه بها من ضحّوا بحياتهم في سبيلها.

لكن عودة الشباب إلى الثورة، والثورة إلى الشباب، لن تكتمل من دون استعادة مشروعها الحر الذي انطلق منهم، ويتطلب استئنافه انغماسهم فيه واستئنافه من جوانبه السياسية والميدانية والتنظيمية والفكرية كافة، وإزالة نواقصه التي حال دون نجاحهم في التخلص منها قمع نظام الأسد، وقتل عشرات الآلاف منهم، خلال حله القمعي/ العسكري الذي أزاحهم عن قيادة الحراك المجتمعي، ومنعهم من بلورة رؤيةٍ متكاملة لثورتهم. من هنا، يرتبط استئناف الثورة بتصميم الشباب على تجديدها، وتحريرها من التعسكر والتمذهب، وقيادتها في المنافي والمخيمات وداخل الوطن، واستعادة طابعها السلمي وحامله العظيم: مجتمع سورية الأهلي، ضحية التمذهب الذي قوّض دوره الوطني في معظم المناطق السورية، وتكاملت أفعاله وخططه مع أفعال نظام الأسد وخططه ضد الشباب وقطاعات المجتمع المدنية والحديثة التي دمرت الوحدة التي صنعت الثورة بين قطاعي المجتمع الحديث والأهلي، وسيرتبط تجدّدها من الآن بالشباب وقيادتهم حراك هذين القطاعين الثوري.

هل فات وقت تحقيق ذلك؟ كلا، لأسبابٍ عديدة، منها أن دوران الثورة، منذ أعوام، داخل حلقة مفرغة يرجع، في قسمه الأكبر، إلى افتقارها لقيادة شبابية ثورية، ونجاح الأسدية في تفكيك وحدة قطاعي المجتمع الثوريين، المدني والأهلي، ومذهبة الثاني منهما، وتطييفه وتعسكره، وذهاب خطاب المعارضة السياسي، الناقص واللحاقي، في اتجاه، والأعمال العسكرية، العشوائية والخارجة على أي نهج سياسي يلبي مصالح الشعب ويعزّز وحدته، في اتجاه آخر. ولم يفت الوقت، لأن السوريين لن يخرجوا من الفوضى من دون سد (وإزالة) فجواتٍ وعيوبٍ عطلت انتصارهم، أهمها افتقارهم قيادة شبابية مدنية تمارس دورها الحاسم في حراكهم السياسي ومقاومتهم العسكرية، يحتم قيامها مسارعتهم إلى تنظيم صفوفهم داخل الوطن وخارجه، وتأسيس صلاتٍ مدروسةٍ ويومية بينهم، تجدّد الثورة السلمية/ المدنية، وتبلور صيغاً متجدّدة لحراك نضالي يراعي أوضاع سورية الحالية، ويبني خططه عليه، لاستعادة الشعب إلى الشارع، وجعل عودته إلى الوطن، وبلوغ حل سياسي يطبق قرارات جنيف حول رحيل الأسد على رأس مطالبه.

هل يستطيع الشباب إنجاز هذه المهام الكبيرة؟ نعم، إنهم أهل لها، ويستطيعون تحقيقها. تشجّعني على اعتقادي هذا أدوارهم المبدعة في الثورة السلمية أمس، وعودتهم إلى الشارع اليوم، وحماستهم التي لم تخمدها سنوات القتل والحرمان والتهجير والتعذيب، وحراكهم الثوري والوطني الذي لا بد أن تكون الأيام قد أنضجته، وخطابهم السياسي المعادي للطائفية والمذهبية، العائد بالحرية إلى مكانها الأصلي رافعةً للثورة، تكون بها ثورة حقيقية، أو لا تكون أبداً.

لن يتخلى السوريون عن ثورتهم، ما بقيت أجيالهم الشبابية منتمية إليها، وعازمة على بلوغ هدفها السامي: الحرية والعدالة والمساواة لشعبها الواحد، المضحّي، الذي يرفض اليوم في كل مكان بديل الديمقراطية الإرهابي، الأسدي من جهة والمتمذهب والمتعكسر من جهة أخرى، الذي لا مفرّ من أن يسقطه عدوهما، شباب سورية إناثا وذكوراً، انتقاما ممن خانوا الثورة، ونكّلوا بشعبها.

اقرأ المزيد
٣٠ يناير ٢٠١٧
حروب داخل حرب: مدخل لفهم الاقتتال الداخلي

لا تعتبر الثورة السورية حالة فريدة في نشوء ظاهرة الاقتتال الداخلي في صفوفها، فلقد شهدت الجزائر إبّان حرب التحرير ديناميكية شبيهة حين قامت الجبهة الوطنية للتحرير بمحاربة الحركة الوطنية الجزائرية. وبحسب بعض المصادر كان عدد عمليات الجبهة ضد الحركة في باريس فاقت عدد العمليات التي استهدفت الجيش الفرنسي، وكذلك في سيرلانكا حين قضت حركة نمور التاميل على جميع فصائل المقاومة الأخرى. تتعدد الأمثلة، وتتغير المسميات والأسباب المعلنة، وتبقى حقيقة واحدة ثابتة بغض النظر عن نتيجة الحرب سواء انتصر الثوار / المتمردين أو النظام / الحكومة، لم تنج أية حالة فصائلية من باقتتال داخلي.

 
كشف اللثام عن الأسباب الموضوعية للنزاع الداخلي بين فصائل المقاومة السورية مهم لسببين رئيسين، الأول رسم واعتماد السياسات الملائمة والفعّالة لحثّ جميع الأطراف على التعاون الإيجابي، والثاني منع أي تعاون محتمل بين أحد أطراف المقاومة والنظام، حيث تشير دراسات الحالات السابقة إلى ازدياد احتمال الانشقاق والانضمام للعدو المشترك مع احتداد وتيرة النزاع الداخلي.

كما تظهر التجارب السابقة في الثورة السورية ودول أخرى أن النزاعات تنشأ حول النتائج والأعراض الجانبية لأساس الإشكال بين المتنازعين، ولكن غالباً ما يتدخل الوسطاء لحلها على مستوياتها الدنيا فحسب عوضاً عن معالجة جذور الخلاف. وتؤكد التجارب نفسها فشل معظم الحلول السطحية فيما تتجذر الإشكالات الأصلية بسبب تجاهلها.

يكشف تحليل البيانات الصادرة عن الفصائل التي كانت طرفاً في نزاع داخلي أن معظم الأسباب المعلنة لتبرير القتال تندرج ضمن اللائحة التالية:

محاسبة العناصر المسيئة.
تحكيم الشرع في خلافات بين العناصر.
وقف أعمال السرقة والنهب.
المطالبة بتسليم قاتل / مجرم.
خرق بند أو كل بنود اتفاقية تعاون مشترك / تحالف / صلح.
التعاون مع الأعداء.
تخزين السلاح والعتاد وعدم مشاركته أثناء المعركة.
وفي المقابل يجنح الخبراء والمحللون إرجاع أسباب الاختلاف إلى عوامل ذات طبيعية اجتماعية أعمق. وإذ لا يمكن تجاهل هذه الإشكالات الناتجة عن خلل العقد الاجتماعي في سورية وعبث حزب البعث فيه، إلّا أنها تعجز عن تفسير النزاعات التي تنشأ بين فصائل تتبنى نفس الفكر وتسكن ذات المنطقة وينتمي أفرادها لنفس العوائل والحواضن الاجتماعية المحلية. فما هو إذاً جذر الخلاف الذي لم نزل غير قادرين على التعرّف عليه، وبالتالي طرح الحل الأنسب لتحييده على الأقل؟

 
يقدم هذا الملف نظريةً أساسها أن الفصائلية حبلى بالاقتتال الداخلي، وأن تضارب المصالح في استقطاب الحاضنة الشعبية وإدارة الموارد المحلية تشّكل وعياً مستبطناً لدى الفصائل بوجود مكامن فرص لاحتكار القوة، ومواقع تهديد من اضمحلال قوتها مما يدفعها لمبادرة القتال مع الفصائل الأخرى إما لاستثمار الفرص أو للقضاء على التهديد. ونسعى في هذا الملف تعريف القرّاء والوسطاء على ديناميكيات نشأة القتال الداخلي بهدف مساعدتهم على إيجاد الحلول المناسبة والناجعة في مواجهة الظاهرة.

وتظهر مكامن الفرص، عندما يشعر فصيل ما بقوته النسبية مقارنة بالفصيل المنافس على ذات الموارد الذاتية (حاضنة اجتماعية، تمويل، دخل محلي) وعندما يكون التهديد الذي يشكّله النظام في أدنى درجاته. وتشكّل الظروف السابقة محفزّات للطرف الأقوى في التحرك لأجل فرض هيمنته على مصادر قوة الفصيل الأضعف.

أمّا مواقع التهديد، فيزيد الوعي الذاتي بها عند ارتفاع وتيرة الأعمال العدائية من فصيل منافس، أو عند مواجهة خطر الزوال، وتحفّز الظروف السابقة غرائز البقاء لدى الفصيل المهـدَد بما يشجعه على القيام برهانٍ أرعن هدفه الرئيس خلط الأوراق وخلخلة التوازن البيئي أملاً بتحقيق تحالفات جديدة أو اكتساب مصادرة قوة بديلة.

تتناول الفقرة الأولى من هذه الورقة لغز الاقتتال الداخلي، فيما تفّصل الفقرة الثانية الديناميكيات الناتجة عن الفصائلية والمسببة في تشكّل مكامن الفرص ومواقع التهديد لدى الفصائل، ونطرح في الفقرة الثالثة نتائج دراسة أبرز 40 حالة اقتتال داخلي عصفت بالثورة، ونختتم الملف ببعض الآليات التي من شأنها رفع الكلفة المترتبة على القتال وتخفيض المصلحة العائدة منه أملاً في تثبيط الفصائل عن مهاجمة حلفائها ومنافسيها على حد سواء.

1. اللغز الاجتماعي
تشكّل ظاهرة الاقتتال الداخلي وما ينتج عنها من هدر للموارد البشرية والعسكرية والمالية الشحيحة لغزاً من الناحية الاجتماعية، وكثيراً ما يصعب على الحاضنة الاجتماعية تقبّلها والتعامل معها وذلك لكونها تتعارض مع مبدأ التعاون في حروب التحرير والثورات. وتسود الوعي العام ثلاثة أفكار رئيسية من شأنها تشجيع الحاضنة على التحالف بدلاً عن التنافس وهي:

عدو عدوي صديقي: المقاربة السائدة لدى عموم الخبراء أن الصراع مع نظام جائر أو محتل أجنبي قوي من شأنه تقوية أواصر التعاون بين المتمردين عليه (الأضعف)، ويقتضي منطق "في الاتحاد قوة" تجميع القوى الصغيرة والمتفرقة رغم اختلافها في القضاء على العدو الأقوى.
الاقتتال يظهر بعد الانتصار وليس قبله: كان للتجربة الأفغانية الأثر الأكبر على تشكّل الوعي الشعبي حول النزاعات الداخلية بين أبناء القضية الواحدة، ويقتضي منطق ميزان القوة والمصالح تخطي الفروقات الفرعية لحين الانتصار على العدو المشترك.
الدعاية السلبية المترتبة على التفرقة: للنزاعات الداخلية أثر معلوم على صورة وسمعة الثورة عند الحاضنة الاجتماعية والداعمين الدوليين، ولقد أظهرت التجارب السابقة أن شرعية النظام تزداد مع ارتفاع حدّة النزاعات بين الثوار / المتمردين وذلك رغم الدعم المحلي والدولي الأولي لهم.

 
يتبنى المحللّون السوريون المتعاطفون مع الثورة عدد من القراءات التقليدية حول جذور الاقتتال الداخلي بين فصائل الثورة، أهمها عوامل: المناطقية، الاختلاف الأيديولوجي والفكري، الطبقية، الانتماء القومي، والتدخل الخارجي. وبالفعل لا تخلو معظم النزاعات التي شهدتها الثورة من تأثير تلك العوامل فيها، إلا أن تعدد طرق توظيفها واختلاف نطاق تأثيرها يدفعنا لتقييمها كأدوات تعبوية بدلاً عن كونها أسباب ذاتية لافتعال القتال والمبادرة في الهجوم على "الخصم". فالمناطقية تفسّر بعض النزاعات وتعجز عن تفسير معظمها. أمّا الاختلاف الأيديولوجي الفكري، فعدا عن الصبغة الإسلامية المهيمنة على سواد الثوار، لم يشفع التطابق الفكري والمذهبي في عدم ظهور نزاعات على مستوى الجبهة الإسلامية مثلاً. وكذلك الانتماء القومي فعلى الرغم من اشتعال جذوة الصراع بين حزب الاتحاد الديموقراطي وكتائب الثورة، إلا أن اختلاف الأهداف وتباين الحواضن الاجتماعية يجعل هذا الصراع خارج تصنيف الاقتتال الداخلي.

اجتهد عدد من الباحثين في دراسة ديناميكيات الحروب الأهلية، ويمكن تصنيف النظريات المقدمة في هذا الحقل ضمن ثلاث مجموعات:

القتال بين المكونات الاجتماعية المختلفة: وهو القتال الذي ينشب بين مجموعات متباينة اجتماعياً وذات انتماءات قومية أو دينية مختلفة. وترجع الدراسات أسباب هذا الاقتتال لغياب العقد الناظم بين المكونات المتحاربة أو لضعف آليات تنفيذه، ويرتفع احتمال نشوب النزاع كلما زادت درجات التداخل في إدارة المصالح المشتركة، وكلما زاد حضور المحرّض الخارجي. أمثلة: طوشة النصارى في بلاد الشام، الحرب الأهلية الأوغندية، الحرب اللبنانية.
التحالف بين المجموعات المتجانسة: وهي التحالفات التي تتشكل بين مجموعات ذات انتماء قومي أو محلي أو ديني واحد، ولا يوجد تمايز واضح بين حواضنها الشعبية. وتخلص الدراسات في هذه المجموعة لوجود نزعة طبيعية عند الفرقاء لتكوين أضعف الائتلافات القادرة على التغلّب على العدو المشترك، وأنها عرضة للحل عند بروز أول فرصة لتكوين ائتلاف أصغر وأقوى. أمثلة: الجبهة الإسلامية وجبهة تحرير سورية، المجاهدون في أفغانستان.
القتال بين المجموعات المتجانسة: وتخلص هذه المجموعة لحتمية نشوب الاقتتال بين الفرقاء وذلك للتطابق شبه التام في مصادر الشرعية والقوة، وأن صعوبة الفصل بين تشعبات المصالح يضعف أي صيغة تشاركية محتملة، مما يدفع القادة للبحث عن سبل الهيمنة عوضاً عن الالتزام بتعاون هشّ ومؤقت. أمثلة: البارزاني وطالباني، القتال بين الفصائل السورية.
 
2. مكامن الفرص، ومواقع التهديد
إن غياب وجود مظلّة إدارية وقانونية موحدة تفرض إرادتها وعدم وجود قواعد للتعاون بين فصائل الثورة تدفع قوى الثورة للاعتماد على نفسها وعلى التعاون المحتمل مع غيرها في تحقيق أهدافها. وفي حين يدرك الجميع أنه غير قادر على الانتصار بمفرده على النظام، نجد أن جميع محاولات التعاون والائتلاف قد فشلت. ويعود ذلك إلى تضارب المصالح، فعلى الرغم من تطابق الأهداف الاستراتيجية لدى الفصائل في إسقاط النظام، وإقامة حكم جديد، إلّا أنها تمتلك أهداف تنظيمية مختلفة. إن الخلاف حول إدارة الموارد المتوفرة، والعلاقة الناظمة مع الحاضنة الاجتماعية يتحول بشكل تلقائي إلى تضارب مصالح يرتقي ويستثار إلى حد النزاع مع ازدياد الندرة.

وبناءً عليه يمكن القول إنه يتوقف قرار المبادر في النزاع على:

تقديره لحجم المصلحة العائدة
تقديره لكلفة النزاع
فيما يلي جدول يحدد منطق اتخاذ القرار لدى المبادر:

 
منطق السلامة أولاً
لا يمثل تشكّل فرصة أو تهديد فصيل بغض النظر عن حجم المتوقع الحصول عليه من المكاسب محفّزاً تلقائياً لمبادرة إحدى الفصائل في الهجوم على فريق منافس، وإنما يتدّخل عامل مهم آخر هو مدى حساسية القيادة لكلفة النزاع. فقد تبادر إحدى الفصائل لقتال مجموعة منافسة رغم عدم اجتماع الظروف الأنسب له وذلك خوفاً من ارتفاع كلفته فيما لو أُرجئ.

ويعود سبب سيادة الشك والارتياب عند الفصائل من التزام منافسيها بمبدأ التعاون إلى فوضى القانون في المناطق المحررة، وإلى غياب آليات المحاسبة والمراقبة بين الكتائب. ويوجد شعور عام لدى معظم الفاعلين المحليين بعدم جدوى المحاكم الشرعية في فضّ النزاعات وذلك لعدم استقلاليتها ولخضوعها لسيطرة فصائل معينة، مما يحيّدها عن القيام بواجبها عندما يكون داعموها أحد أطراف النزاع. ولذا يؤدّي غياب آليات المحاسبة الفعّالة والمستقلة والموثوق بها إلى تغلّب منطق السلامة أولاً على التعاون الهشّ الذي قد يحمل مخاطر لاحقاً، حيث تؤثر الفصائل القضاء على مصدر التهديد حينما تشك بنوايا الفصيل الآخر، ولا تثق بقدرته على الامتثال بمبدأ "عدم الاعتداء" أو "الدفاع المشترك". وتعتبر المبادرة في القتال، في هذه الحالة، تحركاً استباقياً درأً لهجوم محتمل مستقبلي.

الاستغلال السهل
تشترك فصائل الثورة في الحاضنة الاجتماعية، وفي السيطرة على ذات الرقعة الجغرافية، فهي تتنافس على إدارتها واستثمارها، وتنظر إلى سهولة استغلال مصادر الأطراف الأخرى فيما لو ارتفعت كلفة جلب مصادر دعم خارجية. فعلى مستوى المقاتلين مثلاً، أظهرت الحوادث السابقة ميولهم للانضمام إلى الطرف المتغلّب في الاقتتال فيما لو رافقتها حملة تشويه سمعة للطرف المغلوب.

بالطبع لا يفترض وجود هذا التنافس حول المصادر نشوء نزاع تلقائي حولها، ولكنه على غرار دافع الخوف والارتياب يستثار بديناميكيات العلاقة الناظمة بين الفصائل، ويمكن في هذا الصدد تسليط الضوء على ديناميكيتين محددتين تغذّيان شعور التهديد التنظيمي لدى القادة الذي يدفعهم في آخر المطاف لاستغلاله عوضاً عن الوقوع ضحية له، وهما:

سهولة الاختراق من قبل الفصيل المنافس، وذلك سهل بسبب إمكانية توظيف الشباب المقاتلين من ذات الحواضن الشعبية.
صعوبة احتواء مشاكل العناصر الشخصية والحؤول دون تحوّلها إلى صدام تنظيمي.
وفي حين يصعب التكيف مع الديناميكية الأولى، وهي ناتجة بشكل رئيسي عن عدم منطقية نشوء الفصائلية لدى شريحة اجتماعية متجانسة اجتماعياً، إلّا أن التخفيف من أثر الديناميكية الثانية متاح فيما لو وُجد الرادع المناسب. يشكّل غياب آليات المحاسبة الداخلية، ولوائح العقاب الإداري الفعّالة موقع ضعف يسهّل من تضخم المشاكل التنظيمية وتحولها إلى صدام دامي وصراع صفري مع الفصيل المقابل.

الفصائلية والهوية
لا يمكن تناول الثورة السورية وجانبها السياسي وتجاهل العوامل الاجتماعية التي ساعدت في نشأتها وأوجدت المناخ المجتمعي الحالي. ومن شأن الحروب الدامية وطول أمدها أن يتشكّل عنها هوّيات فرعية تغّذي في دورها الصراع. وإذ تحتل الهويات المحلية موقعاً هاماً في الضمير السوري، حيث ينتمي الفرد أولاً لعائلته ومن ثم بلدته أو مدينته ومن ثم البلد، تلعب الفصائلية دوراً وظيفياً في تشكّل هوية مرادفة للانتماء الاجتماعي تصبح بعد فترة موقع احتراب وقتال يستوجب الدفاع عنها بنفس درجة الدفاع عن الثوابت الأخرى.

لا تشكّل الهوية أو مجموع الانتماءات الفكرية دوافع كافية للاقتتال، ولكن غالباً ما يتم استحضارها للتعبئة المعنوية ولاكتساب شرعية محلية وذاتية لإجازة النزاع. وإذ تشجّع جميع المدارس الفكرية الإسلامية على الوحدة، فإنها تختلف في آلية تشكيلها، حيث تتبنى فصائل القاعدة مبدأ التغلّب، فيما يتبنى معظم الطيف الآخر مبدأ الشورى من خلال التعاون، والإيثار، والتشاركية.

من الجائز القول إذاً أن للفصائل القريبة فكرياً من القاعدة قابلية أكبر للاقتتال الداخلي من نظرائها الإسلاميين، ويكفي وجود هذه الحالة الشاذة في بيئة يسودها الارتياب وفوضى غياب القانون كي يتحول إلى نمط عام، حيث يثار لدى الهويّات الفرعية خوفاً وجودياً يسهل استثماره في تعبئة العناصر أيديولوجياً.
التدخل الخارجي
يقدّم التدخل الخارجي في الصراعات القومية والدينية بين مكونات محلية فرصة لتشكيل تحالفات مديدة، من شأنها تعزيز حظوظ الأقليّات في الاستمرار والهيمنة بفضل هذه الشراكات، . ويلعب المتدخل والمستفيد في هذه الحالة على تضخيم حجم الاختلافات مع الأغلبية وعلى تعظيم حجم التقاطعات بين الأقلية والمتدخل الخارجي.

أمّا على صعيد النزاعات بين المجموعات المتجانسة اجتماعياً يعلب التدخل الخارجي دور المحفّز، حيث يتدخل لتقليل الكلفة ولتعظيم المصلحة العائدة، ولكنه لا ينجح في تسويق علاقة تشاركية أقوى من الرابط الاجتماعي المتين أصلاً، ولذا نجد أن حجم تأثيره متفاوت ومتقلب ومحط شك وارتياب بما في ذلك عند المستفيد.

4. الدراسة الإحصائية
قام فريق مدونة نصح بإحصاء أهم حوادث الاقتتال الداخلي التي نشبت بين قوى المقاومة الوطنية والتي تشمل أربعة فرق: الجيش الحر، والكتائب الإسلامية، وجيش الإسلام، وحركة أحرار الشام من جهة، وجبهة نصرة الشام (جبهة فتح الشام)، وحلفاء تنظيم الدولة الإسلامية من جهة أخرى. واعتبرت هذه الفصائل أنها تتحرك في حيزٍ واحدٍ وبالتالي تتنافس على ذات المصادر البشرية والمحلية. وجرى استثناء كلاً من تنظيم الدولة الإسلامية، وذلك لطابعه متعدد الجنسيات والعابر للحدود ولتمايز مناطق السيطرة، واستثناء حزب الاتحاد الديموقراطي لتمايز حاضنته الاجتماعية. وتمّ حصر أهم حالات النزاع التي تتعدى الاشتباكات المحدودة والنزاعات الفردية، ما بين عامي 2012 و2017 واستُثنت أحداث مواجهة الجيش الحر وجبهة فتح الشام التي نشبت في كانون الثاني 2017 وذلك لعدم استقرارها على نتائج نهائية عند إتمام الدراسة.

مصطلحات الدارسة
المصطلح    التعريف
النطاق الزمني للدراسة    1 كانون الثاني 2012 إلى 1 كانون الثاني 2017
حجم العينة    أربعون حالة اقتتال داخلي.
النزاع / الاقتتال الداخلي    الحدث الذي شهد أعمالاً عسكرية واسعة النطاق وبشكل مستمر امتدت على مدة زمنية طويلة.
هيمنة    العمل العسكري بهدف الاستحواذ على موارد الخصم.
تهديد مستقبلي    التهديد الناتج عن تعاظم قوة الخصم وزيادة احتمال التصادم معه في المستقبل.
تهديد وجودي    التهديد الناتج عن زيادة الأعمال العدائية من الخصم في الوقت الحالي والتي يمكن أن تدمّر الفصيل أو تضعفه بشكل نهائي.
موارد    مصادر قوة الفصيل وتضم الموارد البشرية، والحواجز، والمقرات، والمعدّات الحربية، والأنفاق، والمزارع، والمعابر الحدودية.
الكلفة    تبعات القتال على المبادر من الناحية المادية (عدد الجنود، الذخائر)، والمعنوية (الأثر السلبي على الحاضنة الاجتماعية والعلاقات مع الفصائل، والقوى الإقليمية والدولية).
الفائدة العائدة    حجم الفائدة المتوقعة من انتهاء القتال لصالح المبادر من الناحية المادية والمعنوية.
زوال    انتهاء الوجود العسكري للفصيل.
انحسار    تراجع الفصيل عسكرياً أمام الخصم.
اندماج    انضمام الفصيل لفصيل آخر بغرض الحماية أو بمثابة الاستسلام.
تقدّم    تقدم الفصيل عسكرياً أمام الخصم.
جيش حر    مجموعة الفصائل العسكرية التي تقبل تلقي العون من أحد غرفتي عمليات الموم والموك.
فصائل إسلامية    مجموعة الفصائل الإسلامية التي كانت جزأً من الجبهة الإسلامية أو جبهة التحرير الإسلامية، وتقدم الشعارات الإسلامية على الشعارات الوطنية. تم اعتبار جيش الإسلام وحركة أحرار الشام الإسلامية فئات مستقلة عن هذه الفئة لكبر حجميهما النسبي، ولتماسك هيكلهما التنظيمي فضلاً عن اتباعهما سياسات خاصة بهما.
حلفاء داعش    مجموعة الفصائل التي بايع عدد من قادتها التنظيم دون أن تنضم تنظيمياً له.
مبادر    الفصيل الذي يبادر بالقتال.
متلقي    الفصيل المعتدى عليه.
تدخل    شكل الوساطة والتدخل الخارجي لفض النزاع.
وساطة    عملية فض النزاع بين الفصائل المتنازعة.
وسيط    هيئة أو فصيل غير متورط في القتال تتدخل لفض النزاع.
المناطق المحررة    المناطق التي تخضع لسيطرة مجموع القوى المقاومة الوطنية.
جبهة باردة    جبهة مشتركة مع عدو خارجي مشترك ولا تشهد اشتباكات واسعة النطاق.
جبهة مشتعلة    جبهة مشتركة مع عدو خارجي مشترك وتشهد معارك معه.
حصار    حصار عدو مشترك لمنطقة محددة جغرافياً ولا تشهد بالضرورة قتالاً على أطرافها.
هدنة    اتفاق وقف إطلاق نار مع العدو المشترك في منطقة محددة جغرافياً.
حالات القتال المدروسة
يبين الجدول التالي عدد 30 حالة موثقة من الاقتتال الداخلي، والمنطقة التي جرى فيها النزاع، وأي فريق كان البادئ المبارد وأي فريق كان المتلقي.

التاريخ    المبادر    المتلّقي    المحافظة
3/23/2014    جبهة النصرة    قيادة الجبهة الغربية والوسطى في الجيش الحر    اللاذقية
4/1/2014    جيش الإسلام    الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام    ريف دمشق
8/14/2014    جبهة النصرة    جبهة ثوار سورية    إدلب
9/20/2014    جيش الإسلام    جيش الأمة    ريف دمشق
10/27/2014    جبهة ثوار سورية    جبهة النصرة    إدلب
11/29/2014    جبهة النصرة    لواء خالد بن الوليد    حمص
12/15/2014    جبهة النصرة    لواء شهداء اليرموك    درعا
12/30/2014    لواء شام الرسول    جبهة النصرة    ريف دمشق
1/27/2015    كتيبة أنصار الساحل    كتيبة احفاد صلاح الدين    اللاذقية
1/29/2015    جبهة النصرة    حركة حزم    حلب
4/4/2015    جبهة النصرة    الجبهة الجنوبية/ تحالف صقور الجنوب    درعا
5/1/2015    جبهة النصرة    جيش الجهاد    القنيطرة
8/2/2015    جبهة النصرة    الفرقة 30    حلب
11/3/2015    جبهة النصرة    شهداء البياضة    حمص
12/1/2015    جيش الإسلام    جيش تحرير الشام    ريف دمشق
1/1/2016    جيش أحرار العشائر - جيش اليرموك    حركة المثنى الإسلامية    درعا
1/11/2016    جبهة النصرة    جبهة ثوار سورية    القنيطرة
3/11/2016    جبهة النصرة    الفرقة 13    إدلب
4/28/2016    فيلق الرحمن    جيش الإسلام    ريف دمشق
5/19/2016    جبهة النصرة    حركة المثنى الإسلامية    القنيطرة
6/7/2016    جيش تحرير الشام    لواء القادسية    ريف دمشق
6/25/2016    جيش اليرموك    لواء توحيد الجنوب    درعا
6/30/2016    المجلس العسكري في انخل    كتيبة أهل السنة    درعا
7/3/2016    جبهة النصرة    جيش تحرير الشام    إدلب
7/9/2016    جيش اليرموك    فرقة شباب السنة    درعا
10/6/2016    جند الأقصى    حركة أحرار الشام    إدلب
11/2/2016    جبهة النصرة - كتائب أبو عمارة - الزنكي    تجمع فاستقم كما أمرت    حلب
11/14/2016    حركة أحرار الشام    الجبهة الشامية    حلب
12/3/2016    جبهة النصرة    جيش الإسلام - فيلق الشام    حلب
12/28/2016    جبهة النصرة    اللواء الأول    دمشق
التوزع الزمني والجغرافي
 

الأكثر شراسة

عدد النزاعات التي خاضتها الفصائل مع خصومها حسب الدور الذي لعبته، ويتصدر الجيش الحر عدد الحالات حيث تم تسجيل تورطه في 37 حالة، خضع في 20 كمتلّقي مباشر للاعتداء في حين لم يبادر إلا بـ 5 حالات فقط.


 أمّا جبهة النصرة فهي الجهة التي الأكثر مبادرة في الاقتتال، حيث سجل لها 16 حالة مبادرة من أصل 40 حالة. وبالنسبة للجهة الأقل ضلوعاً في الاقتتال الداخلي فكانت حركة أحرار الشام والتي غالباً ما تكتفي بالمؤازرة. ويبين الشكل 6. المتلّقي المفضل لكل مبادر، وإذ لا يعدو غريباً أن يتصدر جيش الحر لائحة "الضحايا" مقابل كل مبادر إلّا أن دوافعه جبهة النصرة لمبادرته في الهجوم ترجع إلى الغنى النسبي للفريق المتلقي، وهو ما يبرر حافز الاستحواذ على مصادره، وشرعيته الشعبية وهو ما يبرر حافز الهيمنة على حاضنته، وعلاقته مع الداعمين الدوليين وهو ما يبرر خوف الجبهة من تهديد مستقبلي منه.

 

التهديد الخارجي
 

إجمالي النزاعات حسب شكل الجبهة مع النظام أو تنظيم الدولة، وتكشف البيانات عن زيادة ملحوظة في الجبهات الباردة ذات حجم التهديد المنخفض، وهذا يعزز نزعة الفصائل للاقتتال عند انخفاض التهديد الخارجي من النظام. ويؤكد الشكل 8. هذه النزعة حيث يزداد عدد النزاعات بهدف الهيمنة في البيئات الأكثر استقراراً فيما يزداد عدد النزاعات بهدف القضاء على التهديدات الوجودية والمستقبلية في البيئات الأكثر خطراً فيما يمكن وصفه بالمراهنة.

 

الوساطات
 

الجهات التي توسّطت في حالات الاقتتال الداخلي وتتصدر الفصائل العسكرية هذه المهمة، فيما تعتبر الهيئات المدنية أقل الجهات المتدخلة، وإذ يمكن تفسير اعتماد الفصائل على نظرائها العسكر في فض نزاعاتها إلّا أن تضارب المصالح الممكن حصوله من جرّائه يضع العديد من الشكوك حول استدامة هذه الوساطات ونجاعتها على المدى الطويل. أمّا الشكل 10. فيبين البنود الأكثر شيوعاً في اتفاقات الوساطات حيث ترد البنود ذات الطابع العسكري (إعادة الانتشار، إطلاق سراح الأسرى، حل أحد الأطراف) بأكبر تواتر كما يظهر الشكل الحادي عشر، في حين لا تتعدى البنود ذات الطابع الاقتصادي (إعادة السلاح / مقرات / حواجز، تحييد الموارد) السدس، علماً أن الهيمنة بهدف السيطرة على مصادر المتلّقي تعتبر السبب المرجح الأول كما يكشف الشكل 12.، وهذا بدوره يضع العديد من الشكوك حول نجاعة الوساطات كونها لا تقدم حلولاً لأصل دافع الاقتتال.

 
وللوقوف على نجاعة الوساطات، يظهر الشكل 13. نوع التدخل حسب المسببات المرجحة، وفي حين تتصدر منطقياً البنود ذات الطابع الردعي (قانوني وعسكري) حلول النزاعات التي حفّزتها التهديدات العسكرية، نجد أن التدخل الاقتصادي الذي يتوقع له أن يتصدر قائمة حلول النزاعات التي حفّزتها الهيمنة أتى في المرتبة الثالثة بنسبة 14%.

 
أمّا بالنسبة لتعامل الفصائل مع الوساطات فيظهر الشكلان 14. و 15. عدّة أنساق كالتالي:

ردّة فعل المبادر تملي إلى حد كبير ردّة فعل المتلّقي.
هناك نزعة أكبر للقبول بالوساطة من رفضها.
هناك نزعة أكبر للقبول بالوساطة عند تقدم المبادر، ويمكن إرجاع ذلك إلى حرص المتلّقي على عدم خسارة المزيد من الموارد، وحرص المبادر على الاحتفاظ بمكاسبه.
هناك نزعة أكبر لرفض الوساطة عند انحسار المبادر، ويمكن إرجاع ذلك إلى أمل المبادر باستعادة ما خسره.
هناك نزعة أكبر لقبول المبادر للوساطة عند قرب زواله، في حين لا تنخفض نسبة القبول لدّى المتلقي للنصف.
 

 

الأسباب المقدمة للحاضنة الاجتماعية والمرجحة

الأسباب المقدمة للحاضنة الاجتماعية مقابل الأسباب المرجحة، وتظهر دعوى الانتماء لداعش في رأس الأسباب المعلنة وقد يعود ذلك إلى سرية التنظيم وصعوبة دحض الاتهام أو إثبات خلافه، وفي المقابل تظهر دعوى الانتماء للغرب الأقل وروداً وقد يعود ذلك لعدم اعتباره مبرراً كاف لدى الحاضنة الاجتماعية للمبادرة بالقتال. ويمكن استخلاص القراءات التالية:

لا تعتبر دعوى الانتماء لداعش خاطئة، فلقد تم استحضار هذا المبرر في معظم الحالات التي كان يواجه المبادر فيها تهديداً حقيقياً.
يتم استحضار مبرر محاربة الفساد في معظم النزاعات بهدف الهيمنة.
يعتبر مبرر قتال فصيل قد استحوذ في وقت سابق على موارد المبادر الأصدق تعبيراً عن أهدافه.
 

الكلفة والفائدة

كلفة النزاع على المبادر، ويظهر أن كلفته منخفضة في معظم حالات الهيمنة، في حين ترتفع كلفته عند التهديد الوجودي وهذا ما يؤكد طبيعة المراهنة التي يقوم بها الفصيل للحفاظ على نفسه، وتنخفض الكلفة عند وجود تهديد مستقبلي بما يؤكد وجود وعي لدى الفصائل بمنافسة نظرائه له. أمّا بالنسبة للفائدة العائدة على المبادر فتظهر البيانات أن فائدة 40% من النزاعات بهدف الهيمنة منخفضة وهذه نسبة عالية مما يدلل على عدم تقدير المبادر لحجم مصادر الخصم، أمّا في حالات التهديد الوجودي فقليلاً ما تعود بفائدة عالية على الفضيل المراهن، في حين ترفع نسبة الحصول على فوائد جيدة عند مواجهة التهديدات بوقت مبكر.

 

الخلاصة
في حين يُفترض أن وحدة الهدف والمنشأ، وحضور الحاضنة الاجتماعية، وقوة العدو المشترك – أي النظام وحلفاؤه – ينتج عنها درجة تعاون عالية بين فصائل المقاومة، إلا البيانات تؤكد انتشار ظاهر الاقتتال البيني على كامل الجغرافيا السورية رغم تقدم النظام وتكبد الثورة خسارات كبيرة مؤخراً. ولقد قدّمت هذه الورقة نظرية مفادها أن تشعّب مصالح الكتائب والجماعات الثورية أدّت إلى استحالة رسم حدود سيطرة كل منها على مصادرها، وبالتالي استحالة اعتماد آليات ناجحة للحماية من فقدانها. ونتيجة لذلك ينشأ جو من التنافس بين الفصائل للهيمنة على المشهد، يتخللها فرص للاستحواذ على مصادر قوة الخصم، وتهديدات من الفناء، وتلعب كل من "المصلحة" العائدة من القتال، و"الكلفة" المترتبة عليه عاملي التوقيت والترجيح.

ونلحظ في الورقة لعب كل من عوامل المناطقية، والاختلاف الأيديولوجي والفكري، والتدخل الخارجي، وتدني درجات الثقة المتبادلة درجات متفاوتة في تعبئة العناصر للقتال، وفي خفض التكلفة ورفع المصلحة العائدة منه. ويجدر الإشارة في هذا الصدد إلى التوظيف المتعدد للعوامل الآنف ذكرها في إجازة القتال وإضفاء الشرعية عليه.

وإذ يصعب التدخل في ديناميكيات نشأة "فرص الاستحواذ" و"مكامن التهديد" وذلك لكونها جزء لا يتجزأ من ظاهرة الفصائلية، توصي هذه الورقة العمل على إيجاد آليات تخفف من المصلحة العائدة من الاقتتال وعلى تعظيم كلفة المترتبة عليه، ويمكن حصرها بالتالي:
1.    الحفاظ على توازن القوة بين الفصائل، فلا يقوى فصيل دون الآخر.
2.    تعزيز المهدد الخارجي والاستمرار في فتح الجبهات ضد النظام، وهذا يتطلب تدفق الأسلحة والعتاد بشكل مستمر لضمان نجاح المعارك دون زج الثوار في معارك خاسرة ودون طائل.
3.    تفعيل أنظمة ولوائح العقوبات الداخلية ضمن الفصيل الواحد وذلك لوقف التفاعلات السلبية مع عناصر الفصائل الأخرى.
4.    تشكيل محكمة فض نزاعات مستقّلة مع قوة إلزام وإخضاع، ويتطلب هذا اعتراف جميع الفصائل بها فضلاً عن تأمين التمويل المستقل لها.

لا تشكّل النقاط أعلاه جلّ ما يجب فعله للحد من أثر الفصائلية على الجبهة الداخلية للثورة، فيمكن إضافة حوافز إضافية مثل توحيد مصادر التمويل وتشكيل غرف قيادات وتنسيق، وغيرها، وهي نقاط لم تفتأ قوى الثورة عن ذكرها وتكرارها، وعن الفشل في تحقيقها بسبب وقوعها خارج نطاق تأثيرها المباشر. وإذ لا يتسع المقام لدراسة سبل التوحيد، فإنه علينا التأكيد أنه لا يمكن لأي مشروع توحيدٍ أن ينجح دون تحقيق الشروط الثلاثة التالية: وحدة الأهداف الاستراتيجية والتنظيمية بين كافة مكونات مؤسسات الثورة، ووضوح رؤية مستقبل البلاد والعقد الاجتماعي المزمع جمع الناس عليه، ووجود القيادة الموثوق بها والقادرة على تنفيذ الأهداف وتحقيق الرؤية.

اقرأ المزيد
٣٠ يناير ٢٠١٧
اندماج للثورة أم للمنهج


ولدت الثورة السورية يتيمة، واستمرت في يتمها لست سنوات مرت بمزيد من القتل والإجراء وشلالات الدماء، وسط تكالب كل قوى العالم وشيعة الأرض ضد مطالب الشعب السوري في الحرية والخلاص، والعيش بكرامة بعيداً عن تسلط أجهزة المخابرات، وغطرسة الأفرع الأمنية لنظام الأسد وطغمته الحاكمة.


وتولى حماية الثورة طيلة أعوامها الستة أبنائها من الثوار الأوائل، وكل من لحق على دربهم، ومن قدم من دول بعيدة لنصرتهم، فشاب الثورة من الشوائب الكثير، ومرت بمراحل عدة من الضعف والانكسار، وتكاثرت الفصائل وتنوعت الإيديولوجيات والأفكار، وطفى الصراع الفكري والعسكري على سطح الأحداث، فتغيرت المعادلة العسكرية، وسقطت العشرات من المناطق بيد القوى المعادية للثورة من نظام الأسد وروسيا وإيران وقوات قسد وتنظيم الدولة.


ومع تنوع الأفكار وتبيان القوى، باتت فصائل تحاول السيطرة وتغليب موقفها ومنهجها على حساب القوى الأخرى، فنشب الصراع، تكتلت لأجله قوى عدة تتوافق على رؤية واحد ضد فصيل، فكان أولى زواله خلق الحجة " فاسد، مارق، عميل، مفحوص، مبيع" وتهم متنوعة، اختلقت لإنهاء الفصيل، والسيطرة على مقدراته ومقراته وسلاحه، وإنهاء مسيرته بعد سنوات قدم فيها المئات من الشهداء كانوا كتف لكتف في خندق واحد في قتال الأسد، فحكم عليهم جميعاً بنفس الحكم، وكل لأجل نصرة الثورة، وباسم تغليب مصلحة الدين.


وما إن زال "المفسدون" وتقاسم الحلفاء الغنيمة، عاد التوتر لمرحلة جديدة من الصراع الداخلي بين قوى الثورة، فحكم على فصيل آخر ربما كان ممن شارك بقتل أخيه وشارك في إنهائه، ليحكم عليه بحكم جديد، وتساق الفتاوى لإنهائه، وتختلف الرؤى بين مؤيد ورافض للفعل، وتسير الأرتال وتبدأ مرحلة إقناع الشعب بأن هذا الفعل لصالح الثورة، ولنصرة الدين، وتتباين المواقف، فيما لا حول للشعب ولا قوة حتى لم يستشر في أي أمر، جل ما فيه أن أبناءه هم وقود الحرب المستعرة، والخاسر الأكبر من كل هذا الاقتتال هم لا سواهم، فالأسد والروسي يقصفهم بطائراته، والأخوة من أبنائهم يتصارعون على أرض لم يتمكنوا من تأمين أبسط متطلبات الحياة فيها بعد لتكون حلبة لصراعهم وسط ترقب الأعداء.


ومع تباين المواقف بين مؤيد ورافض لكل هذه الأعمال التي وصفت بأوصاف عدة منها " البغي، الصيال، العدوان، السلب، التعدي"، وعبارات " تصحيح المسار، تغليب مصلحة الثورة، ترتيب البيت الداخلي، التخلص من المفسدين في الأرض، قطع دابر العملاء"، تتباين المواقف في النظرة البعيدة من كل تكتل أو اندماج لعدة قوى في جسم ثوري جديد، تختلف فيه الرايات، والمسميات، وربما يشوب قليلاً من تغيير وجوه القيادة.


فمع إعلان تشكيل "هيئة تحرير الشام" تباينت النظرة بين مؤيد لهذا التشكيل من وجهة نظره، أن الشعب يترقب هذه الخطوة منذ سنوات، ويترقب بفارغ الصبر توحيد الصفوف لمواجهة ما تتعرض له الثورة السورية من عدوان، وأن لا مجال لنصر إلا بتحقيق الوحدة بين قوى الثورة، وتغليب المصلحة الثورية على مصلحة المنهج والفصيل والكيان، وأن هذا التكتل هو المخلص بنظرهم، داعين باقي مكونات الثورة للالتحاق به.


وفي الطرف المقابل ينظر آخرون إلى أن هذا التكتل ما هو إلا لتغليب مصلحة الفصيل والمنهج على مصلحة الثورة، مستشهداً بالحرب التي تشن ضد كل فصائل الثورة الأوائل من الجيش الحر وحتى الإسلامية منها وكل من خالف أفكار هذا المنهج باسم الدين وبفتاوى المشايخ من أرباب هذه التكتلات، وناظراً للاندماج لأنه تكتل قوى تتفق على رؤية واضحة من باقي تشكيلات الثورة، وأن الادعاء بتغليب مصلحة الثورة والشعب يكون بالتمسك بمبادئ هذه الثورة لا باعتقال أبنائها، والسيطرة على سلاح كل من يخالفهم، وكل من لا يقوى على ردهم، بتهم الفساد في حين زاد الفساد وقويت شوكته أكثر عما قب.


وبين مؤيد ورافض لما تشهده الساحة من تكتلات، يعيش آلاف المعتقلين والمعتقلات في سجون طغمة الأسد، وتهجر مناطق لمخيمات تفتقر لأدنى مقومات الحياة وسط برد وحر وتقلب الظروف ونقص الموارد، في حين تشهد الساحة العسكرية أكبر انكسارات الثورة السورية، فبات الحكم اليوم لمن يغير المعادلة وينصر الثورة نصرة حقه، ويحقق مراد الشعب الثائر، لا مراده، ويغلب مصلحة الشعب الذي قام بالثورة ودفع كل الفواتير من دمائه ومازال يقدم.

اقرأ المزيد
٣٠ يناير ٢٠١٧
الانقلاب على الثورة ..

من الخطأ اعتبار الهيكيلة الجديدة التي ظهرت خلال اليومين الماضين و اتخذت من اسم “هيئة تحرير الشام” ، أنها شيء سلبي و غير ذي فائدة ، و لكن في الوقت ذاته الخطأ الأكبر هو عدم الاهتمام بكارثية ما حدث ، و ما سيتبعه ، سيما أن المطلوب حاليا ليس الغفران على ما اقترف ، و إنما السماح بارتكاب الأشنع.

لم تكن الثورة السورية ، ذات ايدلوجية معينة أو اتجاه معين ، بل كانت شعبوية خالصة تماماً ، و متسعة حد احتضان جميع من أراد المشارك بها ، و مساندتها ، كما يقل “الصدر للضيف و العتبة للأصحاب المنزل” ، هذه النظرية التي كانت ساذجة بعض الشيء في البداية و تحولت إلى قاتلة في مواجهة ما يحدث الآن .

لم يكن لتنقلات جبهة النصرة بين القاعدة و فتح الشام وصولاً إلى هيئة تحرير الشام ، أي أثر علي المنهج الاقصائي و السلطوي المدعم بالدين ، بل كان الانتقال من صنف لآخر ، عبارة عن صك لمنحها المزيد من الاعفاءات و الضمانات بعدم المحاكمة و الحساب .

و انقلبت النصرة سواء أكانت “فتح الشام” أم بلبوسها الجديد “هيئة تحرير الشام” ، على أهل الأرض و قررت أن تضع نفسها كوصي عليهم ، مدعمة بعشرات الفتاوي من نوع “العابر للقارات” ، يرأسها مشايخ من النوع “فرق تسد” و “اضرب تحت الحزام” ، فالمهم لديهم هو الانتصار للفكر و الجماعة ، لا الأمة أو المجتمع .

اليوم يظهر الانقلاب على الثورة من خلال اقصاء طيف كامل من ثوارها و ممثليها في السلاح ، اصباغهم بصبوغات لاتتفق و الواقع بشيء ، و إنما أوهام حُملت عبر عشرات السنين ، التي كانت حُبلى بالفشل ، ليعاد تكرارها اليوم على أرض سوريا ، التي تتجرع كافة أنواع الموت تحت كافة أنواع التسميات ، ابتداء من الديكاتورية بأقذر صورها إلى التشدد بأحمق أشكاله ، وفي كل الأحوال لامكان للعقل و لا الحكمة ، و إنما الصوت الوحيد المسموع هو صوت “الرصاصة” التي اما أن تكون في رأس من بجانبك أو تسير باتجاه جمجمتك.

عمليات الانهاء المنظم و المدروس لمكونات الجيش السوري الحر “بمختلف تدرجاته” ، ليست عبثية بأي حال من الأحوال ، و كذلك ليست اسعافية كما يدعون ، و إنما هي تمهيدية لادخال الثورة في الاحتضار .

لايمكن النظر بتشاؤم شديد اتجاه “هيئة تحرير الشام” ، و لكن لا تفاؤل يعلو الوجوه ، سيما أن الممهدات و السوابق و المقدمات تشي أن الانقلاب يسير بخطى متسارعة ، و لكن هذه الخطى ستجد تثاقل يجعلها تتباطئ حتى التوقف لتعود للخلف ، فالثورة التي يتم الانقلاب عليها طوت ست سنوات ، دون أي كلل و تجاوزت كل المواجهات و الانقلابات المتلونة ، ونجت و رحل المنقلبون.

اقرأ المزيد

مقالات

عرض المزيد >
● مقالات رأي
١١ ديسمبر ٢٠٢٥
الحق ينتصر والباطل ينهار: مفارقة "المذهان" وداعمي الأسد أمام العدالة
سيرين المصطفى
● مقالات رأي
٤ ديسمبر ٢٠٢٥
سوريا الجديدة تستقبل مجلس الأمن: سيادة كاملة واعتراف دولي متزايد
أحمد نور الرسلان
● مقالات رأي
١ ديسمبر ٢٠٢٥
من يكتب رواية السقوط؟ معركة “ردع العدوان” بين وهم التوجيه الدولي وحقيقة القرار السوري
أحمد ابازيد - رئيس تحرير شبكة شام
● مقالات رأي
٢٦ نوفمبر ٢٠٢٥
قراءة في مواقف "الهجري وغزال" وتأثيرها على وحدة سوريا
أحمد نور الرسلان
● مقالات رأي
٢٥ نوفمبر ٢٠٢٥
بين القمع الدموي في 2011 وحماية التظاهرات في 2025: قراءة في التحول السياسي والأمني
أحمد نور الرسلان
● مقالات رأي
٦ نوفمبر ٢٠٢٥
"أنا استخبارات ولاك".. حادثة اختبار مبكر لهيبة القانون في مرحلة ما بعد الأسد
أحمد نور الرسلان
● مقالات رأي
٣ نوفمبر ٢٠٢٥
فضل عبد الغني: عزل المتورطين أساس للتحول الديمقراطي في سوريا
فضل عبد الغني