
"بين الألم والأمل.. سطور من حياة السوريين" ( 1 )|| .... "أنا أم المعاقة ذهنياً"
ما يزالُ ذلك اليوم خالداً في ذاكرتي، لا تغيب تفاصيله عنها، تراودني في كل ليلة أخلدُ فيها إلى النوم، يُعاد المشهدُ أمامي "جلوسي قبل عامين في عيادة طبيب العصبية بمدينة إدلب وأنا انتظر بفارغ الصبر أن يحين موعد دوري كي أفحص ابنتي شام.
أُنقل ناظري ما بين الأشخاص الذين يحين دورهم والآخرون المغادرون للمكان. وأنا من الداخل أجري حوار مع نفسي، وأتوقع النتيجة المتوقعة لـ الطبقي المحوري، التي طلبها الطبيب لشام، فأقنع نفسي بأنها مُرضية وأن ابنتي بخير. فسرعان ما تدور في عقلي مقارنات بينها وبين الأطفال الذين بعمرها، فأجد أن الفرق ليس عادياً، ليسيطر عليّ الذعر، فتجاهلته ما إن طرقَ مسمعي نداء الممرضة باسم طفلتي.
مكثتُ أمام الطبيب انتظر منه أن يعطيني النتيجة، تسارعت ضربات قلبي وارتجفت يداي الحاملتين للطفلة. لاحظتُ تبدُّل ملامحه، صمتَ قليلاً ثم قال: "ابنتك مريضة بالضمور الدماغي بدرجة متوسطة"، شعرتُ أن إناء ماء بارد انكب عليّ. لأول مرة أعجزُ عن الكلام، لا أعلم كيف قادتني قدماي إلي السيارة فحملتُ ابنتي وغادرت العيادة تاركة زوجي يتناقش مع الطبيب بخطة العلاج. عانقت شام وانخرطت في موجة من البكاء، لم أكن حينها أريد أن يراني أحد، تحدثت إليها طالبة منها أن تسامحني على ماذا لم أكن أعرف، أما هي كانت تحرك رأسها وتلعب بقارورة المياه وتضحك.
لا أعلم لماذا سيطرت على المفاجئة، مع أنني سبق وقرأت ماقاله الطبيب في إحدى المواقع الطبية عندما كنت أبحث عن حالة ابنتي، لكنني كنت أُكذب التقارير والدراسات، وأخدع نفسي بأنها طبيعية وحالها كحال باقي الأطفال الآخرين، لكن في هذه اللحظة لم يعد هناك مجالاً للأمل الكاذب. فابنتي لن تكون مثل أقرانها.
بدأتْ قصتي مع ابنتي عندما كان عمرها شهرين إلا أسبوع، مرضت وأصابها نقص أكسجة حاد، فأسعفتها إلى المشفى لتمضي عشرة أيام، ثم تعود. ومع مرور الوقت لاحظتُ أن نموها ضعيف وحركتها قليلة، فاستعنت بعيادات تغذية لكن الحال لم يتغير حتى طُلب مني صورة طبقي محوري للتأكد من حالتها.
أخبرني أشخاص ذاقوا نفس المرار، أن رحلة العلاج طويلة تتطلب صبراً ومتابعة وقوة وتقبل لأي شيء سلبي ممكن أن يحصل، وكنتُ أعلم أنني في حال لم أتابع العلاج فسوف يزداد الوضع سوءاً. لتأخذ شام كل وقتي واهتمامي، وصرت أزور طبيب العصبية في كل شهر مرة، وأطبق الوصفة التي يذكرها لنا بالتفصيل سواء الدواء أو العلاج الفيزيائي ودمجها مع الأطفال. فأصبحت كل تفاصيل حياتي مرتبطة، صرتُ أميل للأطعمة سهلة المضغ وأنام في موعد نومها واستيقظ معها في الوقت ذاته، نسيتُ الخروج من المنزل، وزيارة الأصدقاء لأنها لاتحب تغيير الأماكن. صار كل همي أسماء الأدوية ومواعيدها وطريقة إعطائها.
جُرحَ شعوري عندما سمعتُ أن نسوة الحي يلقبونني بـ أم المعاقة، وينسبنَّ سبب مرضها إلي، ويصفنني بالأم المهملة والبخيلة التي لا تهتم بمظهر ابنتها الخارجي. لا يعرفنَّ أن شام ملولة في كل مرة أُزين لها شعرها تنزع الزينة بيديها، وأنها تمضي وقتها بالزحف من غرفة لأخرى طوال النهار، ولا تستوعب الأمر أو النهي، لذلك تتسخ ملابسها وأنني أغيّرهم عدة مرات في اليوم. لم يرغب الأولاد باللعب معها لعدم تفاعلها معهم، فصرتُ أشتري حلويات وأعطي نقوداً لمن يلعب معها ويصبر على طبعها الملول.
ببداية الأمر كنت أحزن عندما يقول عنها أحد "معاقة عقليا"، "مريضة"، "اللهم عافينا" الممزوجة بنظرات الشفقة، حتى قررت أن التزم بيتي وعملي، وأن ابتعد عنهم. لم أعد أهتم لكلام الناس أو انتقادهم لي، فكل ما يهمني تأمين الأجواء المريحة لطفلتي.
الٱن عمر شام ثلاث سنوات وأربع أشهر وأسبوع، تمشي بضع خطوات قليلة ثم تسقط على الأرض، تشرب المياه بالببرونة، تعبرُ عن مشاعرها واحتياجاتها بالبكاء، لغتها الوحيدة التي لا يفهمها أحد سواي. أتابع علاجها وسقف طموحاتي أن أراها تمشي دون مساعدة أحد، تلعب مع الأطفال الآخرين، تمسك ملعقة الطعام وتتناوله بنفسها، وتشرب المياه من الكأس، وتقضي حاجتها. وسوف يتحقق حلمي.