"علمانية الأسد".. حكم الحديد والنار الذي كرس سلطة السفاح على حساب الطائفة والوطن
ما إن فرَّ الأسد "رأس الأفعى" بدأت أذياله تتحرك في سوريا، مدعية الثورية ومحاولة التسلق على حراك السوريين الأحرار المنشغلين بالبحث عن رفات أبنائهم في السجون أو بقايا منزل مدمر يعودون إليه بعد غربتهم لسنوات، في وقت يحاول هؤلاء المتسلقين الجدد فرض أنفسهم عبر منظمات مجتمع مدني أو نقابات أو تكتلات مجتمعية، تحركهم وتتصدرهم شخصيات كانت إلى فترة قصيرة تدين الولاء وتمجد بطولات الأسد وجيشه وتدعوا للقتل وسفك دم من تطلق عليهم توصيفات الإرهاب في شمال سوريا.
هذه الدعوات ليس هدفها التشويش على نصر السوريين فحسب، بل تحاول استغلال حالة الفراغ الحاصلة ونهج "التسامح المطلق" الذي أطلقته "الإدارة السياسية الجديدة"، شجع الشبيحة بمختلف تصنيفاتهم على النهوض والخروج للساحات، متناسين تاريخهم الأسود ليس في الصمت والرمادية، إنما الشراكة الحقيقية في الدعوة للقتل والعنف، هدفهم فرض أنفسهم كأمر واقع، وتهميش دور أبناء الثورة الحقيقيين.
كثير هي التحذيرات التي انطلقت من شخصيات دينة وسياسية عربية (ليبية ومصرية)، حذرت من تكرار تجاربهم في ثورتهم على طغاة بلادهم، ونهج "التسامح" الذي انقلب وبالاً عليهم لاحقاً، فأسقط ثورتهم في أيدي المجرمين وتجار الحروب، إذ عادت أزلام الأنظمة السابقة للواجهة واستطاعت الانقلاب على أبناء الثورة الحقيقيين.
لعل من الأخطاء التي يحاول الكثيرون اليوم تجاوزها - من باب الوقوف ودعم السلطة وتأجيل النقد -، هي السكوت على بقاء شخصيات البعث وأزلام النظام من رؤوس الشبيحة والتجار والإعلاميين وفنانين، وخروج هؤلاء إلى الشوارع منذ اليوم الأول دون خوف أو رادع، بعد أن حصلوا على الأمان، لكن دون اعتذار عن الماضي أو منعهم من تصدر الواجهة الإعلامية وتصدر الحراك لاحقاً.
تأجيل المحاسبة لحين تمكين مؤسسات الدولة أمر حق، لكن السماح للشبيحة والمتطفلين والمتورطين بدعم النظام والبعثيين والفنانين المعروفين بفجورهم في حق أبناء الشعب السوري الثائر، للتحرك والتجول بحرية والعمل على تنظيم تجمعات ومجسمات مدنية، أعطى تبعيات سلبية بدأت تظهر تردداتها في الشارع العام بسوريا، ليخرج هؤلاء يريدون تحديد هوية الدولة ومستقبلها قبل صياغة دستور جديد حتى.
يقول متابعون إنه "ليس من حق أحد أن يوزع الغفران كما يشاء، للذين لم يجدوا في سجون النظام الفاشي من آثار أبنائهم سوى "البطاقة الشخصية" فأبناء الشبيحة الذين شرعوا بإثارة القلاقل بحجة السعي في سبيل دولة مدنية عليهم أولاً أن يخبروا أجهزة الأمن عن أماكان اختفاء آبائهم ممن لم يكتفوا بسحق أجساد أهل البلد، بل جعلوها طعاماً للأسود!".
من يحدد هوية الدوية ومستقبلها هي صناديق الاقتراع، عندما تبدأ الدولة باستعادة حريتها وتبدأ مؤسساتها بالخلاص من شبيحة الأسد وأزلامه، ويبدأ أبناء الثورة الحقيقيين بالتشارك مع كل أطياف الشعب السوري الذي عانى الويلات طيلة 50 عاماً من حكم عائلة الأسد باعتماد دستور جديد للبلاد، لكن ليس للشبيحة وتجار الموت أي دور، فدورهم انتهى مع انتهاء حقبة الأسد، والمحاسبة هي ماينتظرهم فقط بدولة أي كانت هويتها.
المراقبون لتصريحات "أحمد الشرع" ومسؤولي القيادة الجديدة، يجدون فيها كثير من الإيجاب في إيصال رسائل التطمين للأقليات والمقيمين في مناطق النظام وللمجتمع الدولي عامة، لكنهم وقعوا في نفس الوقت بأخطاء سيجدون تأثيرها لاحقاً، منها إعطاء "الأمان المطلق" لشبيحة النظام وتركهم في مواقعهم والسماح لهم في تصدر الموجة والانقلاب على الثورة، علاوة أن كثرة التصريحات وتعدد مصدرها يوقع في الأخطاء التي يتم استثمارها للتجييش ضدهم.
يرى آخرون أن "على الثورة أن تكون واضحة وهي تتحدث أمام العالم، نحن إرادة الأكثرية، وأن تجبر العالم قبول الواقع الحالي، فلم يعهد السوريين أي مشكلات طائفية أو عرقية أو مذهبية طيلة قرون من الزمن، حتى جاءت عائلة الأسد، واستطاعت إحداث شروخ في بنية المجتمع السوري، استثمرته لتمكين جذورها وسطوتها، فبدأت بذور الطائفية والقومية والمناطقية تُزرع في المجتمع تباعاً، في الوقت الذي حاولت عائلة الأسد إظهار حبها للأقليات وقربها منهم وأوهمتهم بأنها تحميهم.
لو نظرنا إلى سوريا اليوم، سوريا المعذبة المكلومة، من قُتل وشرد ودمرت ونهبت ممتلكاته، من فقد أبنائه في المعتقلات لم يجد حتى هوياتهم الشخصية، لم يجد عظامهم إلا رائحة الموت بين الجدران الفارغة، هم هؤلاء الأكثرية، وهم من يحق لهم أن يرفع صوته عالياً وينادي بهوية الدولة وكيف يريدها، لأنه لن يختار حكما استبدادياً يعيد مشهد الموت الذي عانوه، وسيكونون حريصون على صون حرمة الإنسان والدين والعرف.
أليس من حق هؤلاء الذين عانوا التشريد والاضطهاد والقتل والتفكك الاجتماعي، أن يقولوا كلمتهم، ألم تكن سوريا دولة علمانية تحكمها عائلة الأسد بصبغة طائفية، ماذا حصدتم أيها المؤيدون لحكمه بعد كل هذه السنوات إلا الخيبة وتدمير سوريا والوقوف في وجه نهضتها لصالح بناء إمبراطوريات المال لصالح العائلة، حتى الطائفة العلوية كانت ضحيتهم وعانت ماعانت من ويلات الحرب والتسلط.
أليس من الحكمة اليوم ترقب المشهد وترك مشروع الثورة الحقيقة أن يكتمل بكل حروفه مع التفاف الجميع مؤيد ومعارض حول السلطة الحالية، وليظهر علينا نهج جديد أي كانت هويته فالغالبية العظمى في سوريا مسلمون، لماذا تريدون تكرار نفس التجربة وإيجاد "بشار" جديد باسم "العلمانية، أليس الأولى بكم أن تجربو حكم الإسلام والمسلمين، أليسو هم الأكثرية التي حررتكم من عبودية واستبداد الأسد، أليس من حقهم أن يكون لهم دور في قيادة وطنهم بالشكل الذي يقررون، مع صون حقوق الجميع ومشاركة كل الطوائف والملل، لبناء وطن يسوده العدل والتسامح بعد محاسبة كل المتورطين بالدم.