صورة
صورة
● مقالات رأي ٨ يناير ٢٠٢٥

عن «الشرعية» في مرحلة التحول السوري إعادة تشكيل السلطة في مرحلة ما بعد الأسد

تُعَدّ الشرعية مفهوماً أساسياً في علوم السياسة والقانون، إذ تعكس مدى قبول الشعب أو المجتمع لنظام الحُكم أو القرارات التي تصدر عنه. وبينما تُعتبَر الشرعية الدستورية ركيزة أساسية للنُظُم الديمقراطية المستقرة، تظهر الشرعية الثورية في لحظات التحوّل الجذري، عندما يتجاوز الشعب الأنظمة القائمة استجابةً لمطالب التغيير العميق. وفي مرحلة التحول السياسي التاريخي في سوريا، يبرز مفهوم الشرعية كعنصر أساسي لتعريف وتقييم النُظُم السياسية الناشئة وتحقيق الاستقرار. ويكتسب النقاش حول الشرعية الثورية والشرعية الدستورية أهمية كبرى، خصوصاً في سياق ما بعد سقوط نظام بشار الأسد.

بعد سقوط النظام السوري في 8 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، ظهرت إدارة العمليات العسكرية كقوة مركزية تولّت مسؤولية الحكم، مستندة إلى دورها الحاسم في إنهاء حكم بشار الأسد بعد سنوات طويلة من النضال الشعبي منذ انطلاق الثورة في العام 2011. ورغم نجاحها في فرض السيطرة على معظم الأراضي السورية، وتشكيل حكومة مؤقتة لتصريف الأعمال، فإن شرعية هذه الإدارة في قيادة المرحلة الانتقالية تبقى مَحلَّ جدل بين مختلف الفاعلين في الثورة السورية، وذلك في ظل الطابع الديناميكي والتحولي للوضع السوري في هذه المرحلة، وفي ظلّ السياق المعقد والمتغير الذي يثير مخاوف بشأن احتمالية تَفرُّدها بالسلطة. ذلك إلى جانب أن نهجها البراغماتي المُتقلّب يطرح تساؤلات بشأن مدى قدرتها على، أو رغبتها في، تحقيق انتقال سياسي يضمن المشاركة السياسية التعددية.

الشرعية الثورية؛ طبيعتها وحدودها
تُبنى الثورات في جوهرها على تجاوز القوانين القائمة وتعطيل الهياكل الدستورية التي تسندُ الأنظمة المستبدة، فليس هناك ثورة في التاريخ تُطيع القانون. ومن صُلب هذه الحقيقة يأتي مفهوم الشرعية الثورية، التي من خلالها يكتسب الشعب الحق في مقاومة السلطة المستبدة، والتي تستمد شرعيتها بالتالي من نفسها وليس من القانون. في هذا السياق ينشأ مفهوم الشرعية الثورية؛ من القوة الاجتماعية أو الشعبية والسياسية التي تدفع باتجاه تغيير جذري في النظام القائم، الذي يرى الشعبُ فيه نظاماً فاقداً للشرعية الأخلاقية أو السياسية. وتقوم الشرعية الثورية على أُسس ترتكز إلى الإرادة الشعبية، وإلى التغيير الجذري عبر إحداث قطيعة مع الماضي، على نحو ما تعكسه فلسفة هيغل في إفناء القديم بتحويله -على نحو جذري- إلى ضده. وتحملُ الشرعية الثورية مفهوما تكيفياً يعتبر الثورة وسيلة مشروعة لتحقيق الغايات السياسية والاجتماعية، وتُبرِّر تحطيم قانون الدولة في حالة الظلم والقمع، على أن تكون الثورة وفق الشرعية الثورية داعمة للعدالة وضمان الحقوق، وإحداث تغيير فعّال ودائم في النظام السياسي. 

وفي الحالة السورية، شكّلَ الشعبُ الشرعية الثورية من خلال الثورة الشعبية التي بدأت عام 2011 ضد نظام بشار الأسد، لكن هذه الشرعية تبقى مؤقتة، إذ تنتهي بمجرد تحقيق أهداف الثورة الأساسية، المتمثلة في إسقاط النظام القديم وإلغاء إطاره الدستوري، ووضع الأسس اللازمة لبناء نظام جديد يُعبّر عن تطلعات الشعب ويؤسس لمرحلة دستورية مستقرة. وربما هنا يظهر مفهوم المشروعية كمعيار يعتمد على مدى قبول الشعب، وعلى استمرارية هذا القبول، للقرارات والأنظمة التي تُتَّخذ خلال المرحلة الانتقالية.

رغم أن مفهوم المشروعية إشكالي، نظراً لصعوبة تحديد معيار موضوعي واحد لتعريفه، فإنه يمكن القول إن الحكومة التي تنشأ عقب ثورة شعبية قد تُعتبر غير شرعية من منظور قانوني جامد، لكنها تحظى بالمشروعية لأنها تستمد قبولها من الشعب، كونها تُعبِّرُ عن إرادة عامة تتطلّع للتغيير بما يمنحها التفويضَ اللازم لقيادة المرحلة الانتقالية.

الشرعية الدستورية: إطار الاستقرار
على النقيض من الشرعية الثورية، تأتي الشرعية الدستورية بوصفها شرعية النظام السياسي المُستمدة من الالتزام بالدستور، الذي يُعتبر العقدَ الاجتماعي الأعلى بين الدولة والمواطنين. وتقوم هذه الشرعية على مبادئ سيادة القانون واحترام الحقوق والحريات الأساسية من حيث المبدأ، وكذلك الفصل بين السلطات لضمان عدم تركيز السلطة في يد جهة واحدة. وينبغي أن يتم تأسيس الشرعية الدستورية من خلال انتخابات حرة ونزيهة، بمشاركة شعبية واسعة، وفي ظلّ إطار قانوني يحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم. 

مع ذلك، تُواجه الشرعية الدستورية تحدياتها الخاصة، إذ يمكن أن تُقوَّضَ سيادة القانون إذا تم التحايل على الدستور من قبل السلطات الحاكمة. ويبرز هذا الخطر بشكل خاص في مراحل التحول السياسي، حينما تكون المؤسسات ضعيفة والثقة الشعبية هشَّة أو قابلة للانعكاس. في سوريا ما بعد الأسد، يبقى السؤال الأبرز حول كيفية بناء نظام دستوري تمثيلي يُحقّق تطلعات الشعب، في ظل تَعدُّد القوى السياسية والعسكرية التي قد تتنافس على السلطة، وفي ظلّ تبايُنها من حيث القوة والتأثير وحتى الاتجاهات.

التبايُن والتكامُل 
ثمة تحديات مختلفة تواجه الشرعية بنوعيها (الثورية والدستورية)، إذ قد تنحرف الشرعية الثورية نحو الفوضى أو تُنتِجُ نظاماً استبدادياً جديداً إذا غاب الإطار القانوني الواضح والرؤية السياسية المستقبلية. أما الشرعية الدستورية، فقد تفقد فعاليتها إذا لم تَستند إلى إرادة شعبية حقيقية، أو إذا تحايلت السلطات على أُسسها. ويُضاف إلى هذه التحديات صعوبة الانتقال بين الشرعيتين، الأمر الذي التي يُشكِّلُ تحدياً في حد ذاته.

على الرغم من التباين الواضح بين الشرعية الدستورية والشرعية الثورية، فإن التكامل بينهما يصبح ضرورة في ظل التحولات السياسية الكبرى. إذ يمكن للشرعية الثورية أن تُمهِّدَ الطريق لإنشاء شرعية دستورية جديدة عبر انتقال مدروس ومخطط، وتُجسِّد الثورة الفرنسية (1789) مثالًا كلاسيكياً على الشرعية الثورية التي أطاحت بالنظام الملكي، وأرسَت شرعية دستورية جديدة. إن هذا التكامل خلال مرحلة الانتقال يُعَدُّ أمراً حيوياًِ لتحقيق العدالة والاستقرار، بما أنه يجسد العدالة السياسية والاجتماعية التي تمثل جوهر كلٍّ من الشرعية الثورية والدستورية.

بينما يخوض الشعب السوري أولى تجاربه في التحول السياسي منذ نصف قرن، يبرز الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية كخطوة محورية تتطلب إدارة واعية ومنظمة. ويستدعي هذا الانتقالُ وضعَ خطوات واضحة ومدروسة لصياغة خارطة شاملة للانتقال السياسي، تُشرِكُ جميعَ شرائح المجتمع السوري في حوار وطني جامع وشامل يغيب عنه الإقصاء، لتحويل النضال الثوري إلى عملية دستورية متكاملة تضمن تحقيق الأهداف المنشودة للثورة ضمن إطار قانوني يحمي الحقوق ويوفر الاستقرار السياسي والاجتماعي.

يُشكِّلُ المؤتمرُ الوطني خطوة تأسيسية محورية في بداية مسار طويل لبناء الدولة السورية الجديدة، دولة ترتكز على العدالة والحرية والكرامة لجميع مواطنيها. إن هذا المؤتمر، الذي يُطرَح كنواة لميلاد سياسي جديد، لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تحضيرات دقيقة تبدأ بتشكيل لجنة تنظيمية شاملة. هذه اللجنة، التي تضمُّ ممثلين عن الأطياف السياسية والوجاهية والمجتمع المدني والخبراء، تتولى وضع جدول أعمال واضح ومحدد. يقوم المؤتمر على مبادئ أساسية لا يمكن التنازل عنها، أبرزها الالتزام بحقوق الإنسان، وسيادة القانون، والوحدة الوطنية، كخطوة ضرورية لتجاوز إرث الانقسام والاستبداد. ومع اتّساع وتعقيد القضايا المطروحة للنقاش، يأخذ المؤتمر ما يتطلبه من وقت لتناول قضايا المرحلة الانتقالية بشكل شامل ومدروس. يُتوَّجُ المؤتمر بإعلان وثيقة وطنية تشكل خارطة طريق للمرحلة الانتقالية، تتضمن تشكيل حكومة انتقالية جامعة تمثل مختلف المكونات السياسية والاجتماعية، وتكليف لجان تأسيسية لصياغة دستور دائم يُطرَح للاستفتاء الشعبي، وتنظيم انتخابات حرة تُشرف عليها جهات مستقلة لضمان النزاهة والشفافية.

يشكل المؤتمر الوطني بمعناه الحقيقي حجر الزاوية في بناء سوريا المستقبل، ويُعَدّ بداية مرحلة انتقالية شاقة، لكنها حاسمة في تحقيق الحرية والعدالة والمواطنة لجميع المواطنين. من شأن إطلاق هذا المؤتمر أن يضمن نقل سوريا من مرحلة الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية، مع الحفاظ على توازن القوى وتحقيق العدالة السياسية والاجتماعية.

المصدر: موقع الجمهورية

الكاتب: مقال بقلم: نور الخطيب
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ