هنه أرنت في سورية أيضاً!
هنه أرنت في سورية أيضاً!
● مقالات رأي ٦ نوفمبر ٢٠١٧

هنه أرنت في سورية أيضاً!

هيربرت ماركوزا وجون بول سارتر اثنان من المثقفين الأوروبيين الذين أُعجبوا بدايةً بالنموذج السوفياتي حتى اكتشاف الجرائم الستالينية فاعتذرا ومضيا قُدماً. أما مارتن هيدغر أحد أبرز فلاسفة القرن العشرين فانتمى في فترة من حياته إلى الحزب النازي ونسب إليه بعضهم تُهمة معاداة السامية. ومثلهم مثقفون ومبدعون على طول القارة الأوروبية وعرضها أيدوا موسوليني وفاشيته أو حكم فرانشيسكو فرانكو الانقلابي على الجمهورية الإسبانية. بمعنى أن مثقفين كباراً أخطأوا في مواقفهم وقراءاتهم الواقع، ولا يزال هذا الخطأ وصمة عار في تاريخهم الشخصي وإرثهم يلاحقهم أينما ذُكروا.

وفي سياق متصل، شهدت التجربة العالمية في ذروة حملة التطهير الستالينية داخل الحزب الشيوعي أو ضد مَن اعتبرهم معادين للثورة، مثقفين على مدار العالم يدافعون عنه وعن جرائمه. ورأينا مجتمعات ونُخباً أوروبية تفعل الأمر ذاته مع النازية وتنضمّ إلى جهودها في تطهير بلاد من سكانها وفي إنجاز محرقة اليهود. والأمر ذاته حصل في سياق الفاشية الإيطالية والفرانكوية في إسبانيا وفي حالات مشابهة. فثمة مجتمعات كاملة وأوساط ثقافية واسعة سقطت في امتحان جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، مرة عندما دافعت عنها ومرة عندما شاركت فيها بالفعل أو بالصمت.

ومن تجربة العالم هذه تحديداً في النصف الأول من القرن الفائت، جاءت نصوص القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة والمحاكم الدولية ودستور مجلس الأمن الدولي وسواها من مؤسسات وآليات دولية بهدف واضح وصريح: منع تكرار ما حصل والحدّ قدر الإمكان من احتمالات تكرار جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، لا سيما الإبادة الجماعية والتطهير العرقي واستخدام أسلحة محرّمة وما إلى ذلك. وهي جرائم، قالت هنه أرنت، أنها ممكنة الحدوث والتكرار وأن كل شعب ومجتمع قابل لتنفيذ مثلها. بمعنى أن الشرّ لم ينتهِ في الهولوكوست وأنه عادي ومألوف وما مِن أحد محرّر من إغراء القيام به. لهذا السبب، قاطعت المؤسسة الصهيونية أرنت اليهودية الأصل ولم يُترجم أي من كتبها وإبداعاتها التنظيرية إلى اللغة العِبرية إلا في السنوات الأخيرة. وهذا لإصرار الصهيونية على مؤسساتها أن الهولوكوست فعل استثنائي لم يكن ليحصل لو أن ضحاياه من اليهود وأن ما من جريمة تشبهها! وهو ما نفته أرنت في تقارير كتبتها عن محاكمة المجرم النازي أدولف آيخمان في إسرائيل في الستينات كمندوبة لصحيفة أميركية. وهي تقارير تحوّلت في ما بعد إلى نص نظري فلسفي ألمعي شهير لأرنت عن «عادية الشرّ»، جزمت فيه بأن المجرم آيخمان لم يكن استثناء وإنما هو - في ارتكابه الجرائم التي نُسبت إليه - تجسيد واضح لقُدرة النُظُم الشمولية على تجريد الإنسان الفرد من إنسانيته وعلى تحويله، كما المُجتمع، إلى ماكنات قتل وفتك لا تسأل ولا تستأنف، وأن هذه السِّمة من سِمات كل الأنظمة الشمولية وليس النازية فحسب!

هذا يعني أن أرنت الألمعية استطاعت أن تضع يدها على مفصل في السلوك السياسي للدول الشمولية والمجتمعات فيها وأن تفتح لنا باب الفهم على مصراعيه لنُدرك، مروراً منه، إمكانية تكرار التجربة النازية بتسميات أخرى. كأنها استطاعت بعينها النافذة أن تتوقع ما حصل في كمبوديا زمن الخمير الحمر أو في سورية الآن، وأن ترسم لنا خريطة السلوكات السياسية التدميرية للدولة السورية ممثلّة بنظامها الشمولي وبالأفراد، بوصفهم منزوعي الإنسانية وعلى استعداد للإتيان بأي فعل كجزء من القوة الهائلة التي تعتمدها لتحقيق نظريتها ومصالحها (كما فعل عصام زهر الدين وأمثاله!). وإذا كانت تنظيراتها تعطينا مفاتيح فهم الظاهرة في شكلها الأكثر وحشية وشرّاً، فإنها تُعطينا أيضاً فهما لما يُمكن أن يكون سبباً في كون أناس ليسوا سوريين يؤيّدون جرائم النظام واستخدامه القوة المدمّرة. كما تُعطينا التجربة التاريخية القريبة التفسير لهذا السوك لدى المثقفين أو «المتثقفين» ولدى العامة. وهو سلوك قد يكون له أكثر من منبع واحد لكن نتيجته واحدة، وهي التغطية على أبشع الجرائم و «غسلها» بالكلمات وإيجاد «المبرّرات» لها كأنها جزء من السياسة وحماية للدولة والمجتمع، كأنها حرب مع أبشع عدوّ وأكثره خطراً على وجود الدولة، وما شابه من ادعاءات تبدو منطقية ظاهرياً لولا أنها تستر أبشع الجرائم ضد الإنسانية!

علينا أن نستحضر الألمعية أرنت في السياق السوري لنفهم أداء الدولة - النظام في تأهيل المجتمع والأفراد للمجزرة المستمّرة وللعنف المُطلق ولنفهم إصرار سوريين وعرب وأجانب على اعتبار هذا العنف وهذه المجزرة شرعية أو لها ما يُبررها، ولنفهم الصمت القاتل عنها وحيالها من جهات مختلفة. علينا أن نستعير منها ألمعيتها في القراءة والتحليل والتسمية لنخاطب ذوي القابلية على ارتكاب المجزرة والمنافحين عنهم وأولئك الذين يُغطّون استمرارها بخطاب يساوي بين الفاعل والضحية وبين نظام شمولي مُستبدّ مُجرم وبين شعب ضحية، تارة كمُشارك في جزء منه وتارة كجثث تحت الرُكام. وهو ما يعني أن حقبة مروّعة في تاريخ البشرية كما عبّرت عنها تجربة الهولوكوست وسواها من إبادة وتطهير عرقي قد اندملت هي أيضاً تحت رُكام المناطق السنّية باعتبار ضحاياها يهود هذه الحقبة! وهذا يعني، أيضاً، أن أطناناً من الأدبيات القانونية والتنظيرات في نقد الحداثة والدولة الشمولية والفلسفات المستأنفة الممانعة كلّها أيضاً دفنها المجرمون في سورية وأعوانهم في كل مكان في قبور جماعية لا يزال بعضها مفتوحاً لاستيعاب المزيد من هذه النصوص التي ماتت في السجون أو بالغاز في شيخون ومعضمية الشام، والتي لا تزال تُهجّر قسراً وبالدم من الغوطة والرقّة وإدلب وحلب وسواها. هذا ما يحدث هناك الآن. هناك مَن يُريد التخلّص من الشعب السوري ومن التاريخ ومن نصوصه المستأنفة كي يواصل هو جريمته!

المصدر: الحياة اللندنية الكاتب: مرزوق الحلبي
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ