من صنعاء الى كوباني… بعد بغداد ودمشق
من صنعاء الى كوباني… بعد بغداد ودمشق
● مقالات رأي ١٧ أكتوبر ٢٠١٤

من صنعاء الى كوباني… بعد بغداد ودمشق

أزمات الشرق تزداد تعقيدا لأسباب متنوعة، وتنذر بتحول المنطقة نحو المزيد من التوتر الداخلي والاحتراب العرقي والطائفي. كما ان حالة الاستقطاب السياسي تتوسع لتدخل المنطقة واحدة من اشد حقبها التاريخية سوادا. فما من بلد الا ويعاني من ازمات سياسية او امنية، وما من شعب الا ويشعر بالاحباط والتخوف مما يخبئه المستقبل.
في المقام الاول تزداد هوية ما يسمى «الدولة الاسلامية» غموضا، وما اذا كانت القيادات الداعشية المعلنة هي التي تحدد هويتها وسياساتها، ام ان هناك «تحالفا» غير معلن يخطط لمشروع سياسي ايديولوجي أوسع مما يمثله مشروع «الدولة الاسلامية» للوهلة الاولى. وحين تتخذ الدول الاقليمية الكبرى مواقف تتسم بالغموض الشديد، وحين توغل السياسة الغربية في الضبابية والاهداف، وعندما يتم تهميش الشعوب الى المستوى الحالي من غياب الارادة او القدرة على التأثير، فان الوضع يستدعي تفكيرا جادا لاستنطاق الواقع والسعي للتعرف على ملامح ما هو مقبل من الامور والتطورات. فمثلا عندما اعلنت الولايات المتحدة عزمها على استهداف «داعش» في سوريا والعراق، كان واضحا غياب التوافق الغربي على ذلك. فبريطانيا لم تنضم لامريكا الا بعد ايام من بدء العمليات العسكرية، وتركيا ما تزال مترددة في اتخاذ موقف واضح في التدخل المباشر لضرب «داعش»، بل تسعى لتوسيع اهداف التحالف ليشمل استهداف النظام السوري نفسه. اما دول الخليج بقيادة السعودية فقد شاركت بخجل بعد ان خشيت ردة فعل امريكية غاضبة بسبب الاعتقاد السائد بان تلك الدول تقف وراء تصاعد التطرف والارهاب متمثلا بظاهرة داعش. وبلغت أزمة الثقة ذروتها بعد ان اطلق ريتشارد بايدن، وزير الخارجية الامريكي، علنا انزعاجه من «دعم الحلفاء» لتنظيم الدولة الاسلامية وذكر السعودية والامارات وتركيا بالاسم. ولتحاشي المزيد من التوتر في العلاقات بين امريكا وهذه الدول بادر بايدن بـ «الاعتذار» عما قال، ولكن ذلك الاعتذار لم يلغ حقيقة ما ذكر، ولم يخفف من الشكوك العميقة المتبادلة بين واشنطن والعواصم الخليجية.
ساحتان ساخنتان ساهمتا في تلبد اجواء العلاقات بين امريكا والتحالف الخليجي – التركي: تطورات الوضع اليمني في جنوب الجزيرة العربية وتوسع نفوذ «الدولة الاسلامية» في شمال العراق وسوريا. وفي الحالين يمكن استحضار العامل المذهبي ليساعد على تحليل الوضع، ولكنه ليس العامل الحقيقي في ما يجري، بل يمثل غلاف الازمة وظاهرها.
اما الجوهر فتتفاعل فيه عوامل بعضها يرتبط بالاصرار على حماية الاستبداد والتخلف في العالمين العربي والاسلامي، وبعضها ذو صلة بالاحتلال الجاثم على صدور الامة اكثر من ستة عقود، والبعض الثالث لا ينفك عن الخشية من قيام نظام سياسي اسلامي يوفر للمسلمين بديلا للنظام الغربي الذي تعترضه صعوبات جمة. ولذلك تجتمع اطراف عديدة تجمعها هذه العوامل لتقود الحملات العسكرية والاعلامية غير المحدودة بهدف اشغال الشعوب وتهميشها وتصفير دورها في النهضة او البناء الحضاري المنشود. فمنذ بدايات الاسلام كان هناك تعددية فقهية وفكرية ضمن الاطار الاسلامي الجامع للامة، وقد استطاعت شعوبها التعايش ضمن هذا الاطار الجامع مع احتفاظ كل طرف بخصوصيته العرقية او المذهبية، بل الدينية احيانا. فقد عاش المسيحيون واليهود في كنف الدولة الاسلامية التي احترمت الجميع ووفرت الحماية له.
ويسطر التاريخ في اسفاره ان يهود اسبانيا فضلوا الرحيل مع المسلمين بعد سقوط الاندلس لينعموا بالامن الذي تمتعوا به في ظل الحكم الاسلامي. ولذلك فما هو مطروح اليوم ليس استعادة تلك الروح التي هيمنت على الاطار السياسي الاسلامي قرونا، بل التشبث بمسمى خاو من المضمون، يتبنى الاسلام ظاهرا ويمارس ما يناقضه في الواقع والتصور والاهداف. وبدلا من تطوير اداء المشروع الاسلامي بما يواكب التطورات الانسانية والاجتماعية في مضامير الحكم والادارة، تم الجمود على ما اسماه العالم الكبير، الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله «فقه البداوة» الذي جمد على النص وصادر العقل الذي يعتبر ضرورة في قضايا العقيدة والفقه الاجتهادي.
وخلال المائة عام الاخيرة تعايش الغربيون مع نمط الحكم المؤسس على فقه البداوة الذي يركز على قشور الدين والمظاهر الخارجية لاتباعه، وتجاهل جوهره المتمثل اولا بالتوحيد الخالص ونبذ الشرك الحقيقي (اي إشراك غير الله في الربوبية والحكم) وثانيا بالحرية التي منحها الله للانسان حتى في مجال اختيار العقيدة، واعمار الارض وقداسة النفس الانسانية التي كرمها الله، واقامة العدل الذي هو الهدف الاساس ي للرسالات السماوية، والشورى.
هذه القضايا التي تمثل جوهر الدين واضحة لدى رواد ما يسمى «الاسلام السياسي» الذي سخرت كافة الجهود الغربية ومن انظمة الحكم العربية لمواجهته واسقاط مشروعه. ولذلك استهدفت كافة التجارب المؤسسة وفق هذا المنهج، بينما لم يعترض الغربيون على انماط الحكم التي حصرت اهتمامها بالتركيز على المظاهر العامة من ارتداء الثوب القصير او اطلاق اللحى او بتر الاطراف او قطع الرقاب.
ولوحظ صمت الغربيين على ممارسات داعش في العراق وسوريا اكثر من عامين، ولم يتحركوا الا عندما تحدت الغربيين وقطعت رقاب خمسة منهم في الاسابيع الاخيرة. الصراع اذن له ابعاد اخرى يساهم الغربيون في رصدها ووضع السياسات المتلائمة معها، بعيدا عن الاعتبارات الانسانية او الاهتمام بترويج الديمقراطية وحقوق الانسان في الدول العربية والاسلامية. ولذلك يعتبر الفصل الحالي من الصراع أخطر كثيرا مما سبق. فالغرب يرى في توسع دائرة الالتزام الديني الموجه لاقامة منظومة سياسية – ثقافية تختلف في جوهرها عن ثقافة الغرب المادية بجفافها الروحي، امرا خطيرا واستهدافا لمشروعه التوسعي المدعوم باحدث اشكال السلاح وانواعه.
في خضم الانشغال بتطورات الوضع في العراق وسوريا يتركز الاهتمام على موازين القوى الميدانية، فتسقط هذه المدينة بايدي هذا الطرف او ذاك، ويتم التصفيق للطرف المنتصر من قبل مؤيديه. ولكن الصورة الاشمل يجب ان تتضح لدى من يهمه امر هذه الامة. فحين تنتشر ظاهرة العنف والتطرف الى الكثير من بلدان المسلمين فمن الضرورة بمكان استيعاب المشهد السياسي في جانبه الاستراتيجي للتعرف على القوى التي تسعى لاعادة تشكيل بلاد المسلمين بما يخدم مصالحها ويفتت الامة ويضعف شوكتها. وحين يستهدف بلد كبير كاليمن بالعنف الاعمى والتفجيرات الانتحارية هذا يعني ان قوى الثورة المضادة تسعى لاعادة ذلك البلد للمربع الاول من العنف وعدم الاستقرار وغياب الحرية واعداده للتدخلات الاجنبية. ومن المؤكد ان السعودية لا تريد على حدودها بلدانا كبرى كالعراق واليمن وهما تتمتعان بالحرية والاستقرار في ظل ممارسة ديمقراطية متطورة. كما انها لا تريد لمصر، البلد العربي الأكبر، امنا مؤسسا على الحرية والديمقراطية. المشكلة ان السعودية ليست وحدها التي تخطط ضد التغيير في العالم العربي، بل ان الغربيين انفسهم متورطون في ذلك. وما يجري اليوم في سوريا والعراق واليمن من تصعيد عسكري وامني يؤكد وجود تحفز من هذه الدول لتكريس الازمات وتصعيدها.
وما يضاعف الازمة ان هذه الامة باتت بدون رعاة او مفكرين او اصحاب قرار، وترك الحبل على الغارب لجيل ضائع من الشباب دفعه الحماس للالتحاق بقوافل الموت التي لن تتوقف حتى تأتي على الاخضر واليابس وتهلك الحرث والنسل، وهذا فساد لا يحبه الله ولا ترتضيه الانسانية. فلا بد من يقظة عاجلة لوقف هذا التداعي الديني والاخلاقي والسياسي، لان البديل سقوط مروع الى هاوية التمزق والقتل العبثي والقتل على الهوية والحروب التي يستعر اوارها من باكستان والعراق وسوريا الى الصومال ونيجيريا وشمال افريقيا. فهل هذا ما نريده؟

٭ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

المصدر: القدس العربي الكاتب: د. سعيد الشهابي
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ