مكان الولادة: السجن
مكان الولادة: السجن
● مقالات رأي ١٤ نوفمبر ٢٠١٤

مكان الولادة: السجن

طفرت دمعةٌ من عيني زينة يازجي، على شاشة تلفزيون دبي، لما حدّثها المعارض السوري، ميشيل كيلو، في مقابلةٍ معه قبل عامين، عن لقائه، أثناء توقيفه في فرع التحقيق العسكري في دمشق، طفلاً في الخامسة من عمره، وُلد في الحبس، (ويقيم) في الزنزانة مع أمه. اصطحب حارس (يبدو أنه رجل طيّب) ميشيل كيلو إليهما، دردش مع الأم، وعرف منها أنها معتقلةٌ "رهينة"، حتى يسلّم زوجها الهارب (الإخواني) نفسه. ودَّ أن يسلي الطفل ويُبهجه، فحكى له حدوتةً عن عصفورٍ على شجرة. غير أن الطفل فاجأه بأنه لا يعرف ما هي الشجرة ولا ما هو العصفور، فليس في معجمه، ولا خياله، مثل هذه المسميات، وهو الذي رأى (النور؟) في الحبس، فلم تصادف عيناه أشجاراً أو عصافير.
ليس صحيحاً، إذن، أن العدو الصهيوني وحده يحوز مأثرة أسر أمهاتٍ حوامل، يلدن في السجون ومستشفياتها، ويُبقي مواليدهن محابيس معهن سنوات. فهذا ديدنٌ معهودٌ، يقيم عليه نظام آل الأسد، وورثه من يحكمون السوريين، الآن، بغاز السارين والبراميل المتفجرة، من عهد الأسد الأب. وقد أكد خبرٌ شديد العادية، قبل أيام، أن الأمر من "الثوابت" المتمسّك بها، وموجزه أن الطبيبة، ماريا بهجت شعبو، تم احتجازها عند عودتها من بيروت، لدى الأمن السياسي في ريف دمشق، ثم نُقلت إلى الإدارة العامة للاستخبارات، قبل أن يُطلق سراحها بعد أن "استضيفت" تسعة أيام. جاء الخبر على أن ماريا وُلدت في السجن في 1988، عندما كانت والدتها سجينةً سياسية، وقضت سنة ونصف السنة فيه. وبعد خروجها، قام والدها بتربيتها، حتى الإفراج عن والدتها بعد سنتين ونصف السنة، ثم اعتقل والدها عشرة أعوام.
عديدون مثل ماريا السورية أبصروا الدنيا في سجون إسرائيل، ثمة أخوّة خاصةٌ تجمعها بهم. وأَن تصير طبيبةً في شبابها، فذلك يعني أن إرادةً قويةً لديها جعلتها تتجاوز الدرامية الجارحة في حياتها، ونظنّها الإرادة نفسها، سيقاوم بها الفتى الفلسطيني، نور غانم، الأسى الغافي في نفسه، وهو الذي عاش أولى سنوات طفولته في سجنٍ إسرائيلي. أُسرت والدته وهي حامل فيه، وولدته في غضون احتجازها، كما سمر صبُح التي سيقت إلى الولادة مقيدةً، ووضعت طفلتها، براء، بعمليةٍ قيصريةٍ تحت حراسة مشددة، وبقيت المولودة مع أمها في السجن مدة غير قصيرة. أما ميرفت طه، فقد وضعت مولودها، وائل، في زنزانةٍ كانت تحتجز فيها. ومن حكايات مثل هذا الشجى الإنساني الأليم، أن عطاف عليان طلبت ابنتها، وكانت في عمر الثمانية شهور، لتكون معها في الحبس الإسرائيلي المقيت.
ليس في وسع الإنسان عندما يُطالع هذه الأسماء، وكثيراً غيرها لم توثقها الصحافة، أن يكون شعوره كما برود أهل الإكوادور بشأن حادث سير في غينيا بيساو. فالألم الإنساني الذي ينطق به ما أصاب تلك النسوة السوريات والفلسطينيات باهظ، ويوجع الروح. تتآخى حكاية العصفور والشجرة مع متوالية الحبس عند ماريا بهجت شعبو، ومع زوبعةِ أسئلةٍ تنفتح واقعيتها السحرية على تفاصيل مروعة، تثيرها مواجع تلك الأمهات الفلسطينيات، وهن يُشاهدن أطفالهن يتحسّسون الدنيا في زنازين مغلقة ووراء قضبان، ولا تُصادف مداركهم غير عالمٍ من الفظاظة. ولقائلٍ أن يرى أن المشترك الثقيل بين المحنتيْن، الفلسطينية والسورية، (يُثري؟) مدونة الألم فيهما بمقاطع بالغة الحرارة، ما يستنفر وجاهة في دعوة أهل السينما والدراما وكتاب الرواية والقصة والمسرح إلى أن يجترحوا من هذه التجارب التي يعصى كثير منها على التخيّل أعمالاً فنية وإبداعية، ستكون لافتة إذا قيّضت لها مواهب وأدمغة وكفاءات خلاقة.. أصاب شيخنا الراحل، هاني فحص، لمّا قال قدامنا، مرة، في منتدى بالقاهرة، إنه لا فرق بين النظامين السوري والصهيوني.

المصدر: العربي الجديد الكاتب: معن البياري
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ