سوريا... بين الحاضر والمستقبل
سوريا... بين الحاضر والمستقبل
● مقالات رأي ٢٥ نوفمبر ٢٠١٦

سوريا... بين الحاضر والمستقبل

يقول المنطق العلمي بأنّ جمع المكونات يفضي إلى نتيجة حتميّة. في علم الاجتماع فإنّ الحاضر هو هذه المكونات والنتيجة هي المستقبل. وفي علم النفس، حين يزور المرء طبيباً، يقوم العالِمُ بتحقيق حول ماضي المريض ليُشخّص المرض أو الحالة وفقاً لما مرّ به هذا الشخص منذ طفولته، مروراً بتجاربه في شبابه وصولاً إلى حاضره.

حاضر سوريا يُستنزف بشراً وحجراً... أما مُستقبلُ البلاد، فسيعيد يوماً إعمار ما تدمّر، لكنّ ما يغيب عن اللاعبين الأساسيين في الداخل السوري وخارجه، هو مستقبل الأمّة أثناء بحثها عن مستقبل البلاد.

وإذا كان جيل سوريا الجديد هو الذي نشاهده في النشرات الإخبارية يومياً، أو نقابله في المخيمات في لبنان والأردن وتركيا، أو نصادفه في شوارع أوروبا... أو نراه عاملا في إحدى الورشات لإعالة عائلة، أو مشرّدا في الطرقات لتأمين رغيف خبز لإشباع أمعائه الخاوية، أو أمعاء أخت أو أم هجّرتها وأطفالها الحرب الدائرة في سوريا، بعد فقدانهم المعيل تماما... فأي مستقبل ينتظر الأمة؟؟؟ جيل مستقبلي يحتاج أكثر من 7.5 مليون طفل منهم إلى مساعدة، فيما 5.5 مليون طفل لا يحصلون على التعليم اللازم داخل سوريا وأكثر من 2.5 مليون يعيشون على فتات الخبز في الخارج وقد نسَوا معنى "المدرسة".

وبينما وصل عدد القتلى في سوريا إلى أكثر من نصف مليون قتيل بينهم آباء وأمهات وأشقاء وشقيقات، من ضمنهم ما لا يقل عن 23 ألف طفل معظمهم (بنسبة 94% قتلهم النظام بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان) وبحسب التقارير على مكاتب وفي أدرج المحافل الأممية، يبقى أن هذه الأرقام والجرائم والفظائع المرتكبة في الداخل السوري وخارجه تُطبع يوميا في أذهان أطفال يراقبون ويمتصون مشاهداتهم كإسفنجة، تحدد شخصياتهم مستقبلا، بحسب ما يقول علم النفس.

كل ذلك، إضافة إلى ملايين اللاجئين، وأكثر من 7 ملايين شخص في خضم كارثة إنسانية، بحسب تقارير أممية.

وإذ يبقى السؤال حول ماهية الرابط بين أعلاه ومستقبل سوريا، وحده التاريخ والتجارب التي فسرها العلم ووثقتها النصوص تجيب عن هذا السؤال.

فإذا كان الشخص يؤثر في الجماعة، وإذا كانت المجتمعات لا تبنى إلا بمجموع أفرادها وبإرادتهم ومعرفتهم وتطلّعهم في اتجاه واحد، هل سيكون لأطفال اليوم وعي وإدراك كافيان في هيكلة سوريا الغد؟ أطفال عايشوا الجوع والمرض والبرد والانسلاخ عن محيطهم وأصدقائهم ورفاق الصفّ والحي، أُجبروا على ترك مدارسهم، وقتل ذووهم، ومورست بحقهم أبشع الجرائم النفسية من تحرش جنسي إلى اغتصاب، فعمالة وغيرها من الآفات الاجتماعية التي لن ينسوها، بل سوف تطبع شخصيتهم لا إراديا. ويجمع علماء النفس على أن الولد يراقب، ويشعر، وكل ما يعيشه في طفولته يرافقه طوال حياته ويتجذّر فيه، وتصبح ردة فعله وشخصيته متلاصقتين، فيما أنه لا يزال في عمر لا مكان فيه للعقلانية ويتصرف اعتباطياً وبطريقة عفوية بالفعل وردّه.

وينطلق علم البسيكو- سوسيولوجيا (علم النفس والاجتماع) من هذه النظرية، حيث اتخذ علماء عينة من مراهقين في سجن الأحداث، وخلصوا إلى أن معظم المغتصبين كانوا ضحية تحرش جنسي يوماً، والسارقون عايشوا فقرا مدقعا وجوعا، وافترشوا الأرض وحرمتهم الظروف الاجتماعية من أبسط حقوقهم الطفولية، فيما يوجد بينهم من رأى في تجارة المخدرات مهربا أو تعاطاها، فهو من عاش في بيئة تهيئ لاستغلاله بعيدا من منزل يؤويه في كنف عائلة متراصة تزرع الخير، وتهيئ أبناءها لمواجهة الحياة بالإرادة والقوة والعزيمة رغم صعابها، أما القتلة من بينهم فهم من شاهدوا أو واجهوا العنف المنزلي واعتادوا الدموية صورة أو ممارسة منذ صغرهم.
إذن، حاضر سوريا مأساوي... ومستقبلها في خطر.

فإلى جانب كلّ ذلك، غالبية أطفال سوريا يخسرون سنواتهم الدراسية، وما يستتبع ذلك من أخطار على سوريا المستقبلية فالمنطقة. ففي مخيمات اللجوء هناك محاولاتٌ أممية وحقوقية لاستدراك الوضع التعليمي لأهميته في بناء الأمم لكنّ كارثية الحال وعدم الاستقرار الاجتماعي والأوضاع المعيشية تدفع بالأطفال إلى الشوارع في بعض دول اللجوء للعمل وتأمين قوتهم وقوت أهلهم أحياناً، وبالتالي 70% من الأطفال اللاجئين لا يحصلون على التعليم بحسب الأمم المتحدة، أما من منهم بقي داخل سوريا، فكلّ يوم والتالي تُعلّق الدراسة في المناطق تباعاً مع استمرار القصف الجوي الذي يستهدف المدنيين والعمليات العسكرية المتواصلة، إضافة إلى قصف النظام مدارس كانت آخرَها في الغوطة الشرقية. وفي إثر ذلك، أعلنت مديرية التربية والتعليم في ريف دمشق تعليق الدوام الدراسي حتى إشعار آخر في المدارس الرسمية والخاصة والمعاهد التعليمية، والحال واحدة في إدلب وحلب.

الحجرُ قد يُبنى مجددا والبنى التحتية سيُعاد إنشاؤها يوماً، لكنّ مستقبل الأمة لا يقوم إلا بجيل الغد... فجيل "أطفال سوريا" الذين يعيشون مأساة أبعدَ من حاضرها فيما مستقبلها قد يكون أشدّ ظلمةً بدون تداركِ الوضع سريعاً.

المصدر: قناة العربية الكاتب: بديع يونس
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ