سرقة النخب على المباشر
سرقة النخب على المباشر
● مقالات رأي ٧ ديسمبر ٢٠١٧

سرقة النخب على المباشر

في سورية حرب أهلية، وفي تونس حالة من التوافق لمعالجة تداعيات ثورة هادئة. لكن على الرغم من اختلاف الأوضاع والسياقات، إلا أن البلدين يشتركان حاليا في تقاسمٍ خطر ماحق، يتمثل في هجرة الأدمغة نحو بلدان الشمال، أو الدول الأكثر ثراء. وقد تابع العالم على المباشر، ولا يزال، تهافت دول غربية عديدة للحصول على حصتها من النخبة السورية المهاجرة قسرا من بلادها المحترقة. وكان لكل من هذه الدول نصيب. أما في تونس، فقد تلقى الجميع، في الأيام الماضية، رقما مزلزلا أكدته منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، حين ذكرت أن حوالي 94.000 كفاءة تونسية غادرت البلاد خلال السنوات الست الأخيرة. وكانت جهتهم الرئيسية أوروبا التي استقطبت 84٪ منهم. ويذكر المصدر نفسه أن أغلب هؤلاء "باحثون ورجال أعمال وأطباء وأكاديميون"، وأيضا إداريون ومعلمون وأساتذة.

جعلت هذه الأرقام من تونس الدولة الثانية عربيا بعد سورية في هجرة الأدمغة. لماذا حصل هذا ؟ هل هي عقوبة للبلدين، بسبب محاولتهما التمرّد على نمط الهيمنة الداخلية والدولية؟ هل من المنطقي أن يقع ابتزاز كل شعب يثور داخل هذه الدائرة الضيقة من العالم، وتمتد أيادي الأقوياء لمصادرة مخزونه الاستراتيجي الذي يعد أهم بكثير من ثرواته الطبيعية. الغاز والبترول والفوسفات ثروات زائلة، لكن رأس المال البشري قوةٌ لا تعوّض، لأنها رصيد الشعوب لحماية مستقبلها، وضمانة للإبقاء على وجودها في المستقبل، فكلفة الطالب التونسي في اختصاص الطب تتجاوز مائة ألف دينار، وذلك قبل أن تشهد العملة التونسية الانهيار الحالي المريع.

حدّثني، أخيرا، طبيب تونسي عن هجرة بعض زملائه، وأكد لي أن أطباء كثيرين هاجروا سابقا كان كثيرون منهم مبتدئين في مزاولة المهنة، لكن الجديد هذه الأيام أن الذين غادروا البلاد أو يفكّرون حاليا في مغادرتها يعتبرون من بين أفضل الأطباء التونسيين، حيث بعضهم عمداء ومديرو مستشفيات عمومية ورؤساء أقسام، ومختصون من طراز رفيع. وأضاف محدّثي أن الجزائر اليوم تواجه صعوبةً حقيقيةً في تأثيث مصحة عالية الجودة، ويعود السبب، حسب اعتقاده، إلى أن نتائج الحرب الأهلية التي مرّت بها الجزائر والمعروفة بالعشرية السوداء هجرة الآلاف من أفضل أطبائها وكوادرها في القطاع الصحي.
ذكر لي أحد هؤلاء الأطباء أنه يتلقى أسبوعيا عشرات العروض من جهات فرنسية وأوروبية تغريه بأجر يتجاوز خمسة أو حتى عشرة أضعاف ما يتقاضاه في تونس. إنه النهم الأوروبي والرغبة في صيد ثمين بسعر زهيد. فهذه الجهات الباحثة عن الكفاءات تعلم جيدا أن في تونس نخبة متعلمة، وذات خبرات عالية، راهنت على تنشئتها وتكوينها دولة الاستقلال منذ تأسيسها. لهذا، ما أن اختلّت أوضاع البلاد نتيجة الانتقال السياسي الصعب، وأيضا بسبب عجز السياسيين عن قيادة المرحلة وحماية الأمل الذي شاع بين الناس، بعد إطاحة الدكتاتورية، حتى أشارت هذه الدول المهيمنة إلى رغبتها الشديدة في الاستحواذ على زبدة النخبة التونسية بالإغراءات المالية والوظيفية.
وبالعودة إلى الأرقام المفزعة، يلاحظ أيضا هجرة 8000 إداري، و1200 رجل أعمال، و1464 بين معلمين وأساتذة. وهؤلاء غادروا تونس فقط بين 2014 و2015. إنه نزيف حاد وغير مسبوق. أصبح الأمر يحتاج إلى تحرّك سريع من أجل إنقاذ البلاد، قبل أن تجفّ الشرايين، وتصاب الدولة بالسكتة القلبية. ونظرا إلى خطورة الأوضاع، تعالت الأصوات المحذّرة من غرق السفينة، وتعدّدت المبادرات الرسمية وغيرها، وكان آخرها مؤتمر تفعيل إصلاح التعليم العالي والبحث العلمي الذي انعقد أخيرا في تونس. وهو المؤتمر الذي قاطعه الاتحاد العام التونسي للشغل، وكذلك اتحاد الأساتذة الجامعيين والباحثين التونسيين الذي اعتبر، في بيان له، أن الجامعة التونسية "تمر بمرحلة عصيبة، فلا إمكانات، ولا بنية تحتية، ولا موارد بشرية، ولا بحث علمي، ولا رؤى، ولا استراتيجيات"، حكاية طويلة ومعقدة لقصة نجاح مهدّدة بالانهيار.

المصدر: العربي الجديد الكاتب: صلاح الدين الجورشي
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ