رهان سلمي روسي (اللاحل) في المعضلة السورية؟
رهان سلمي روسي (اللاحل) في المعضلة السورية؟
● مقالات رأي ١ ديسمبر ٢٠١٤

رهان سلمي روسي (اللاحل) في المعضلة السورية؟

سلاح الطيران وبراميله المتفجرة هو وسيلة التفوق الأخيرة للنظام الحاكم في دمشق على مختلف أصناف أعدائه؛ ولقد كان لسلاح البراميل البدائية هذه دوره الفاعل في تشتيت قوى الثورة، وفي عزل حاضناتها الأهلية عنها، من جماهير المدن والقرى المتحركة، في الوقت الذي تم احتباس أو تقنين موارد التسليح على جماعاته. فتراجعُ المدّ شبه العسكري للعديد من كتائب المقاتلين منَح النظام فُرصاً عديدة في استعادة بعض القدرة على المبادرة، وتجديد ادعاءات الشرعية لما تبقى من سمعة الدولة السورية في عيون الموالين لها داخلياً، كما في أوساط أصدقاء النظام الدوليين، ما يمكن القول أن المرحلة الحالية الموصوفة بالمراوحة بين صيغة البؤر المتفرقة من المعارك المتنقلة في جهات متعددة، وبين أحوال المهادنة والجمود الميداني قد حركت من جديد مشاريع التهدئة، واقتراحات حول إعادة السلم الأهلي، أو على الأقل الشروع في وقف عواصف التقاتل العبثي بين القوى غير المتكافئة لكل من الحركيين والقوى (النظامية)، إسمياً على الأقل. إنها مرحلة غائمة وعائمة، وقد لا تأتي حتى بما يشبه الآمال المتواضعة للسكان الباحثين أخيراً عن الأمن واللقمة الشريفة.
وربما، في حال التهدئة النسبية راهناً قد يمكن لهذه المرحلة أن تتخذ صيغة الجواز الانتقالي إلى ما يشكل تغييراً نوعياً في طبيعة الصراع. ذلك أن معارك الميادين، بعد أن تتراكم خيباتها بالنسبة لأطراف النزاع، لن تؤدي في نهايتها إلا إلى أوضاع الاستنقاع، والمزيد من أمراض وعلل التأرجح العقيمة بين اللاسلم واللاحل.
هل هي إذن عودة إلى أيام التنافس الأولى بين القوى الدولية من ناحية ومعطيات الميادين الداخلية حول السيناريوهات ذات الخلفيات المشبوهة غالباً،لما يسمى بالحلول السياسية ضداً على التفجيرات الدموية من أية جهة جاءت. لكن لنلاحظ منذ الأن ثمة فوارقَ ذات دلالة تاريخية بين نداءات السياسة في بدايات الصراع. وبينها بعد استهلاكات دموية رهيبة خلال حروب السنوات الأربع الماضية. فالمقاتلون أنفسهم ومعظم قياداتهم محلياً ودولياً أمسوا يعانون مزاجاً مختلفاً عما كانت عليه في سابق ظروف اندلاع العنف الجماعي بين الأضداد؛ صحيح أن الروسيا التي لعبت دور الحليف الأول المبادر إلى إنقاذ النظام بشتى أنواع المساعدات المباشرة عسكرياً واقتصادياً ودبلوماسياً، كذلك كان هذا القطب الكبير من أوائل المنادين بالمفاوضات، في الوقت الذي كان عاملاً بكل جهد على توفير أسباب الصمود لحليفه (الأسد). وها هو في نهاية الجولات الدموية البالغة أقصى عنفها، لا يكرر القطب الروسي فقط الإعلان عن نواياه السلمية، بل يبدو أنه يبادر، عملياً إلى الممارسة الفعلية. فهل قرر الرئيس الروسي نفسه أخيراً أن يرشح بلده لتقوم بأعباء عرابة التوافق الأهلي الجديد للداخل السوري. فما تقدم عليه روسيا تريد له أن يكون مشروعاً مختلفاً عن عديد محاولات أمريكا والغرب السابقة في هذا الخط منذ سنوات. إنها تعزو لنفسها إمكانية النجاح المضمون، كأنه رد على فشل أمريكي فاضح، كانت له نتائجه السيئة في كل ناحية كما تجسدت في انهيار مؤتمر جنيف (2).
وفي هذه النقطة بالذات يتساءل بعض المجتمع الدبلوماسي عن قيمة الأوراق الناجحة التي يمتلكها الدب الروسي ليندفع هكذا بالقوة العلنية والإعلامية نحو تحقيق مؤتمر سوري، حكومي أهلي في وقت واحد. هل هناك تفاهم ما بين موسكو وواشنطن في مقدمات هنا الرهان الفجائي. هل هناك توزٌّعٌ للأدوار بينهما من جديد؛ وإلى أي حد يمكن لأمريكا أن تقبل بدور الكومبارس في هذا السيناريو دون أن تكون كعادتها، تشغل دور العقل المدبّر والفاعل الرئيسي فيما تراه مصلحة عليا لها. فهل ثمة شراكة، أو صيغة تلاقِ أولي حول خطة طريق بين قطبي الهيمنة العالمية؛ هل ستكتفي واشنطن بمقعد المتفرج على المسرحية (السلمية) الجديدة برعاية روسية خالصة، وإشراف مباشر من قبل حكام دمشق، وهل هذا الفريق سوف يشكل القطب الأول المقابل لممثلين عن بعض أصناف من المعارضة السياسية والميدانية. هذه الأسئلة قد لا تتكوّن لها أجوبةٌ واضحة منذ الآن، أي في المرحلة الحالية من الإعداد الدبلوماسي والتحديد لمنهج العمل، وتثبيت قائمة المدعوين خاصة من بينها أقطاب الحركيين. بل لعلّ السؤال الأهم في كل هذا هو إن كان السيناريو المنوي رسمه وتنفيذه يُحظى بتغطية دولية كاملة، أم أنه ذو طابع شبه دولي، روسي ومعه بعض حلفائه المعروفين. فأين هو الغرب مثلاً وما هو الدور الأوروبي خاصة. فالمعروف عن القارة أنها هي المعنية منذ البداية بالدعوة السلمية. فما مدى الرهان الروسي على دعم القارة له في هذه اللحظة من احتدام التحدي الروسي في أوكرانيا، وفيما يخبئه من متغيرات لمشرق القارة من شماله إلى جنوبه.
ما توحي به هجمة السلام الروسية في خطواتها الأولى أنها غير عابئة بكمية التحدي النافرة من طبيعة المبادرة نفسها، إذ يبدو أن الرئيس ….. لم يغير شيئاً من طبيعة سلوكه الأخير إزاء المسائل العالقة مع الغرب. فالرجل مندفع في قراره، وفي التعجل بتحقيقه. وها هو وزير خارجية الأسد الذي زار موسكو منذ أيام، شرع في العمل مع المسؤولين هناك كشريك أول، وليس كعضو أول للمؤتمر فحسب، فهذه الجبهة من موسكو إلى دمشق، وإلى طهران وغيرها، إنما تشتغل كفريق واحد. وكأنه الفريق الذي قرر إطلاق حقبة السلم الذي يلائم أعضاءها، وحدهم فهي صاحبة المشروع، وهي ماضية على دربه حازمةً أمرها كلياً على بلوغ المخطط الذي لا يعرفه أحد سواها، وأكثر من هذا، فإن المؤتمر سيعقد ويتخذ قرارات، وليوافق عليه، أويرفضه كل من يشاء. المهم أن جبهة موسكو دمشق قد رسمت طريقها، وحددت ربما المستقبل الجديد لسوريا ،دولتها ومجتمعها ونظامها.
أما المعارضة فليس لها أن تختار ممثليها إلا بالتوافق مع أصحاب السيناريو. سيكون وفدها انتقائياً من قبل القطب الآخر، من هذه الفئات المصنفة (وطنياً) بحسب مواصفات الموالاة كما يحددها أرباب النظام الأسدي. بكلمة أخرى فإن سيناريو موسكو/دمشق. سيكون فصلاً جديداً في مسلسل مناورات السلسلة الحاكمة. ولقاءاته القادمة ستكون أشبه بلقاء مع اتباع وحلفاء فيما بينهم. وأما سوريا الثائرة فهي الغائبة سلفاً عما يُعَدّ لها.
نحن إذن في عتبة العودة إلى مخاضات بداية الانتفاضة، كأنما اختتم النظامُ مسلسلَ الصراع، وفرض النهاية التي يريدها، أي أن حراك التسوية الموسكوفية لا هدف له إلا تكريس انتصار موهوم لربيبه نظام دمشق. وذلك بجعل المتعاونين من نوع المعارضة الموالية، يصادقون على مآل الحال القائمة سياسياً ومدنياً في انحاء الدولة المرهقة والمتهاوية. فقد أدركت موسكو أخيراً أنه ليس أمام حكام دمشق ما يأملونه من متابعة حرب عبثية. لا مستقبل لعودة سوريا القديمة. وما اعتقاد النظام من أنه في طريقه إلى تنظيف الجبهات من أعدائه جميعاً ليس سوى أسطورة، فهوالذي يلقّنها إلى أتباعه، ثم يصدقها هو نفسه.
رحلة السيناريو الموسكوفي لا توحي بأية معجزة خارقة، سوى أنه يمكن للدبلوماسية أن تتابع التلاعب بظواهرها لدرجة أن تقلب ألوانها كما ترغب. لكن حقائق الميادين لها خطاباتها اليومية المختلفة عن ألسنة الباباغوات الزاعقة بأناشيد رعاة السلطة، المكذِّبة لواقعها.. بل يعلم القاصي والداني أن موسكو لم تقدم على هذه المفاجأة لرأي عام محلي وعربي ودولي إلا شعوراً منها أن مأزق اللاحل للمقتلات السورية لن يهزم الثورة نهائياً، بل أنه سيضاعف من الأخطار المحدقة ببقايا النظام الحاكم فإن مصيره لن يكون أفضل حالاً من أوضاع الثائرين. فإما أن تصيبه يوماً ما ضربة انقلابية، وإما أنه سيتهاوى تلقائياً تحت وطأة افتقاره إلى معظم عوامل حيويته السابقة عندما كان له ادعاؤه أنه نظام لدولة متكاملة وليس مجرد سلطة مغتصبة بيد الفئة القليلة الباغية، كحاله الآن.
هذه الرحلة تحت شعارات التفعيل السياسي لعودة السلم الأهلي والحكومي تلقى لها آذاناً صاغية دائماً، وقد يرحب بها الجمهور الأكبر من شعب البلد المحزون، إذ يعيد بعض الثقة باستئناف الحياة الطبيعية في ربوع الشام كلها، ومعها إلى بلاد الرافدين. لكن المسألة ليست في تغيير منعطفات الخطاب السلطوي، بل في قدرة أرباب السيناريو على إقناع أنفسهم أولاً أنهم سوف يعطون الأولوية لمصلحة السلم الأهلي عامة، وإن اضطرتهم الظروف إلى تنازلات عن أشياء كثيرة لم تكن من استحقاقهم لا سياسياً ولا أخلاقياً.
أرباب السيناريو الموسكوفي /الأسدي هم المدعوون بدئياً للاقتناع بأن المنتصر الوحيد في محصلة الإقتتالات الأهلوية لن يكون قطباً معيناً ضد بقية الآخرين جميعاً. وإن عصر الديكتاتوريات قد ولى إلى غير رجعة، سواء كانت نماذجها باردة، شمالية أم جنوبية حارة ولاهبة.
الرحلة الموسكوفية (السلمية) لا تزال في طور التبشير بالنوايا، وأما الأفعال فلا تزال باحثة عن عتباتها الأولى، وإن كانت تحت طائلة أكوام من الجماجم والهياكل البشرية المجهولة أسماؤها وقبورها معاً.

المصدر: القدس العربي الكاتب: مطاع صفدي
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ