تعددت الوجوه... و«الدواعش» واحد!
تعددت الوجوه... و«الدواعش» واحد!
● مقالات رأي ٣ نوفمبر ٢٠١٤

تعددت الوجوه... و«الدواعش» واحد!

كلما ألمحت إلى بوادر أمل وإشعاع نور في نهاية النفق العربي المظلم جاء من يحتج ويحدثني عن اليأس والكآبة ونهاية العرب، إن لم يكن موتهم. وكلما كنت اؤكد ان المؤمن لا ييأس وان الفرج لا بد ان يأتي ان عاجلاً أو آجلا حتى ولو جاء متأخراً بعد مخاض عسير كان يبادرني إخوان لي بالإنكار والجزم بأن الأبواب موصدة والنوافذ مسدودة.

 وكلما قلت ان المنطق يدفعنا إلى القول انه ما من حرب إلا وتنتهي الى سلام وما من مشكلة إلا ولها حل، وما من أزمة إلا ويأتي يوم يتم فيه إيجاد حلول لها وتسويات، يجيبني أعضاء نادي التيئيس وحزب المتشائمين بالرد بأن حروبنا ليست كحروب الآخرين مثل كلماتنا وشتائمنا التي هي ليست كالكلمات الطبيعية لأنها تجرح وتسيل دماء غزيرة وتفتح جروحاً لا تندمل ولا تترك مجالاً للصلح ولا تساعد في ان ننسى ونسامح وعلى الأقل نسامح ولا ننسى!

ومع أنني لا أحب أن أزرع الورود والأزهار والرياحين في حقول الألغام، ولا أحبذ سياسة المعالجة بالمسكنات والمهدئات ولا توزيع الأوهام الكاذبة وتفسير الأحلام الوردية، فإنني أرفض الاستسلام لليأس لأن المؤمن لا ييأس، ولهذا أحاول تقديم صورة واقعية عن الأوضاع والتطورات بالاستناد الى الوقائع والحتمية التاريخية والدروس المستقاة من تجاربنا وتجارب الآخرين عبر العصور.

ومن هنا، أكاد أجزم بأن الأمل بالله عز وجل كبير ومؤكد لأن الأمور وصلت الى مرحلة الحسم والفصل واتخاذ القرارات الصعبة والبحث عن الحلول المؤلمة سلباً أو إيجاباً ان لم تحدث في وقت قريب على المدى المنظور فإنها تبقى ماثلة للمقاربة خلال أشهر مقبلة لتحديد مسار المنطقة ومصير أهلها.

وعلى رغم السحب الداكنة والعواصف المرتقبة، تلوح في الأفق ملامح مفترق طرق من منطلق المواقف والحسابات الداخلية والعربية والإقليمية والدولية، لا سيما بعد دخول «داعش وأخواتها» على الخط وبدء حرب التحالف الدولي ضد الاٍرهاب واقتناع  الأطراف بأن البديل عن التسويات انهيار كامل لكل المعادلات والجنوح نحو هاوية نار جهنم تحرق الجميع وسط انقسام ظاهر بين متشائم ومتفائل ومتشائل! بل ان أحد الأصدقاء جزم سلفاً بأن الحل مستحيل، مستخدماً عبارة الزعيم المصري الراحل سعد زغلول التي قالها لزوجته المرحومة صفية بعدما أحس بقرب أجله: «غطيني يا صفية ما فيش فايدة»! ورد عليه صديق آخر بسخرية مؤلمة تعبّر عن الواقع: حتى الغطاء (اللحاف) غير متوافر هذه الأيام حتى يغطي المساكين الذين يعيشون في العراء تتقاذفهم عواصف الشتاء وتجمدهم ثلوجه ويكويهم لهيب حرارة شمس الصيف الحارقة.

وبعيداً من التحليل والتنظير والتنجيم، لا يمكن لوم من ينظر إلى الأوضاع العربية الراهنة بنظارة سوداء لا يرى من خلالها بصيص أمل بعد ٤ سنوات عجاف من الدمار والقتل والمذابح والتهجير وإثارة الفتن والأحقاد والتعصب وكل ما في أوبئة الطائفية والمذهبية والعنصرية من موبقات. فكيف يمكن لنا ان ندعو إلى التفاؤل ونحن نشهد مذابح وجرائم يندى لها جبين الإنسانية وتلصق بالإسلام والمسلمين زوراً وبهتاناً؟ وكيف نروّج لأمل زائف ونحن نسمع جهابذة التحالف الدولي وهم يتحدثون عن حرب قد تدوم ١٠ سنوات أو ربماً ٤٠ سنة؟ وكيف نطالب بالتخلي عن اليأس ونحن نرى دولاً تنهار وكأنها مجرد علب كرتونية تتهاوى عند أول هبة ريح؟ وكيف نطمئن ونحن نشاهد جيوشاً جرارة تندحر وتستسلم وكأنها دمى خشبية؟ وكيف يرتاح  المواطن العربي وهو يصدم بشباب وشابات في عمر الورود يجنحون الى العنف والتطرف والإرهاب؟ وكيف لا ييأس من تصم أذنيه صرخات الأطفال وأنين النساء والسبايا وهن يبعن في سوق النخاسة في القرن الحادي والعشرين؟

وكيف لا يصاب المرء بالغم والقرف عندما يتحدث البعض عن خلافة مزعومة أو دولة لا كيان لها ولا قرار وعن حروب  عبثية تزهق الأرواح وتأكل الأخضر واليابس وتدمر البشر والحجر وتقطع الرؤوس وتصلب الصبية، مع أن الدين الاسلامي وكل شرائع وقوانين العالم تحرم معاقبة من لم يبلغ سن الرشد لأنه فاقد الأهلية ولا بد من الانتظار حتى يملكها؟

وكيف يقبل أي إنسان، مهما كان دينه ومعتقده ان يأتي من يهدم الكيان المبني على أساس التعايش والوحدة الوطنية والتسامح والسلام عبر العصور ويضطهد «الآخر» لا لذنب ارتكبه، بل لمجرد كونه ينتمي الى دين آخر من الأديان السماوية؟

كل هذه الأسئلة تطرح اليوم في كل بيت ومحفل من دون ان تؤثر على السياق العام، وهو الوصول الى هدف تحديد أصل العلة وسبب البلاء ومعرفة أبعاد وخفايا وأسباب الوصول الى ما وصلنا اليه من انحدار ديني وأخلاقي ووطني وممارسة شتى أشكال العنف والتمادي في ارتكاب المذابح بكل دم بارد وبلا رادع من ضمير.

أحد الزملاء البريطانيين حاول ان يخفف عني وأنا أحمل أثقال هذه الأسئلة المرة قائلاً: لا تحزن يا صديقي، فأنتم  تمرون الآن بالمراحل التي مررنا بها في عصور الظلام وتعيشون الصور الرهيبة ذاتها وتعانون من الممارسات المرعبة أيام محاكم التفتيش يوم إعدام الناس حرقاً بالنار على أساس تهمة ظالمة بممارسة السحر او الكفر، إضافة الى هيمنة الكنيسة على كل مناحي الحياة ومقاليد الأمور في أوروبا، وبعدما دفعت شعوبها أثماناً باهظة جراء القمع والاضطهاد وشن الحروب بدءاً من الحروب الصليبية وحروب الدول وصولاً الى الحروب الكونية توصلت الى عبر ودروس أثمرت عن تنفيذ مبادئ سيادة القانون وحقوق الانسان والحريّة والديموقراطية ومبدأ «أَعْط ما لقيصر لقيصر وما لله لله».

صدمني هذا التشبيه المفزع وآثار قلقي وأنا استعرض ما قرأت وما سمعت عن تلك الحقبة السوداء، وعدت الى دراسة أعدها الزميل محمد قواص (مجلة «الحصاد») عنها وعن المظالم التي ارتكبت خلالها ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

- تحول من اتخذ الدين سبيلاً للهيمنة الى طواغيت ومحترفين سياسيين ومستبدين تحت ستار الإكليروس وبيع صكوك الغفران وتكفير من لا يتفق مع مواقفهم.

- وقوف الكنيسة ضد العلم وهيمنتها على الفكر وتشكيل محاكم التفتيش واتهام العلماء بالهرطقة مثل:

- اكورنيكوس الذي نشر عام ١٥٤٣ كتاباً عن حركة الأجرام السماوية، فحرمت الكنيسة هذا الكتاب.

- غرادانو صنع التلسكوب فعذب عذاباً شديداً وعمره سبعون سنة، وتوفي عام ١٦٢٤.

- يبينوا صاحب مدرسة النقد التاريخي وكان مصيره الموت مشلولاً.

وهناك مئات الأمثلة عن تعذيب  وتكفير وحرق العلماء والمفكرين والنساء وحتى الأطفال قبل ان تغلق أوروبا هذه الصفحة السوداء وتستقبل عصر النهضة.

ولكن هل كتب علينا أن ننتظر كل هذا الوقت، أي أكثر من ٥٠٠ سنة حتى ننعم بالسلام ونحلم بغد مشرق ونطمئن على مستقبل أبنائنا وأحفادنا؟ يجب ألا نستسلم لهذا الكابوس المرعب لأن الأمل معقود على الأجيال الصاعدة وانفتاحها على روح العصر والإنجازات العلمية وبذل الجهد والمثابرة على العمل والعطاء والتضحية ونبذ التطرّف والعنف من دون ان تتخلى عن إيمانها الصادق بمبادئ دين المحبة والتسامح، دين الوسطية والاعتدال ودين المودة والرحمة.

ومع هذا، فإن علينا أن نعترف بأن ما نمر به من تجارب مريرة اليوم ليس ابن ساعته، بل جاء نتيجة تراكم الحوادث والمآسي وتوالي عمليات العنف والقمع والقتل والارهاب خلال العقود المنصرمة، وما ترتكبه «داعش» وأخواتها من أعمال مستنكرة مارست مثله وأكثر دول وفئات وأحزاب وطوائف حتى حق على الجميع القول: تعددت الوجوه و»الدواعش» واحد؟

ففي السنوات القليلة الماضية، ارتكبت جرائم تفوق ما ارتكب خلال قرون: مئات الآلاف من القتلى والجرحى، ملايين اللاجئين والنازحين والمهجرين قسراً، عشرات المدن دمرت عن بكرة أبيها على رؤوس أهاليها، مئات الآلاف من المعتقلين والمفقودين وإعدام الآلاف من الرجال والنساء وحتى الأطفال، من دون ان يجنح أي طرف للسلم أو يرفع بيده غصن زيتون ويقبل بالحوار والاعتراف بالواقع المرير وبوجوب وقف نزيف الدم وحجب دماء الأبرياء.

تعنت وعناد ومكابرة وإنكار للحقيقة والواقع وإصرار على المضي في الغي مهما كان الثمن والتشبه بشمشون ومقولاته الشهيرة عندما هدم الهيكل: «عليّ وعلى أعدائي». ورفض البحث عن الحل الوسط المعمول به في كل الحروب والأزمات والمفاوضات ومجالس الحوار.

أما التاريخ ، فـ»الدواعش» فيه كثر بأشكال ومزاعم وادعاءات مختلفة ودعاوى مزورة لا داعي لفتح سجلاتها السوداء ونبش القبور في هذه العجالة، بل يكفي الإشارة العاجلة الى بعض  صورها:

الحرب الأهلية اللبنانية وخسائرها البشرية والمادية، وحروب السودان بين أهل الشمال وأهل الجنوب والتي انتهت بالانفصال، الى دارفور التي قتل فيها مئات الآلاف من المسلمين العرب والمسلمين الأفارقة، الى حروب اليمن القديمة والجديدة بين الجنوب والشمال، وصولاً الى الحرب الأهلية بين القبائل والحوثيين والتي تتقاطع مع حرب السلطة و»القاعدة» وحرب «القاعدة» والحوثيين، وحرب الصومال الطويلة والدامية بين شمال وجنوب وشرق وغرب، وهي مستمرة «بنجاح منقطع النظير» وتحصد أرواح مئات الآلاف، من دون أن نتجاهل حروب العراق وصراعاته الطائفية والمذهبية والعرقية وحروب سورية وأحداث العنف في مصر وتونس والجزائر مع مئات عمليات التفجير والاغتيالات والتخريب التي جرت على هامش هذه الحروب وفي أوقات استراحات المحاربين.

أما إسرائيل، فالحديث عنها يطول، هي التي قامت على مداميك العنف والمنظمات الإرهابية وما زالت تعيشها بكل أشكالها وصورها المشينة والسوداء، بل هي أول «الدواعش» التي ولدت من العنف وعلى العنف تعيش، مهما صبغت وجهها بالمزاعم ووضعت من أقنعة،  فهي ممثل الاٍرهاب الحصري والوحيد في مواجهة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية.

إنها وجوه متعددة ابتلينا بها، ولن نضع أيدينا على قلوبنا ونتنفس الصعداء مع نسيم أمل إلا بالعودة الى هذه الوقائع وتحديد أسباب انتشار العنف وتفاقم جرائمه والاعتراف بأنه بات جزءاً من حياتنا وفكرنا وواقعنا وان الحل يجب ان يبدأ بالمصارحة التامة والتخلي عن التكاذب بعيداً من الحساسيات والخوف من قول كلمة حق وتجنيب النفس الخضوع في مواجهة قوى التكفير العاملة على قمع قوى التفكير.

وعندما نبدأ بأنفسنا يمكن لنا ان نجيب على كل الاسئلة المطروحة ونرفع راية الدعوة الى التفاؤل ونبذ التشاؤم ونزع صواعق اليأس لتنير دروبنا شعلة الأمل!

المصدر: الحياة اللندنية الكاتب: عرفان نظام الدين
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ