المناطق "المجمدة" في سوريا.. دلالات وسياقات
المناطق "المجمدة" في سوريا.. دلالات وسياقات
● مقالات رأي ٢٠ نوفمبر ٢٠١٤

المناطق "المجمدة" في سوريا.. دلالات وسياقات

في 30 أكتوبر/تشرين الأول 2014، عرض المبعوث الأممي إلى سوريا ستفان دي مستورا على مجلس الأمن الدولي، خطة تحريك للوضع تقوم على إنشاء مناطق "خالية من النزاع"، وصفها "بالمناطق المجمدة"، مشيرا إلى أنها قد تبدأ بمدينة حلب. وبعد لقائه الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق يوم 10 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، قال دي مستورا في بيان إنه "أحيط علما بعزم السلطات السورية العمل مع الأمم المتحدة لإيجاد أرضية مشتركة لتنفيذ اقتراحه حول تجميد الصراع بشكل تدريجي".

    "مصطلح المناطق المجمدة ليس له رديف في معجم القانون الدولي، فهناك مناطق عازلة، ورديفها محايدة، وثمة مناطق منزوعة السلاح وأخرى عسكرية (أو أمنية)، ورابعة ذات حظر جوي، وخامسة محتلة، وسادسة خاضعة للوصاية"

بداية، يمكن القول إن مصطلح "المناطق المجمدة" ليس له رديف في معجم القانون الدولي، على الرغم من أن بمقدور الباحث العثور عليه في بعض دراسات الجيوسياسة التاريخية، سيما تلك التي صدرت في فرنسا.

في القانون الدولي، هناك مناطق عازلة ورديفتها محايدة، وثمة مناطق منزوعة السلاح وأخرى عسكرية (أو أمنية)، ورابعة ذات حظر جوي، وخامسة محتلة، وسادسة خاضعة للوصاية. وهناك تقسيمات قانونية فرعية لكل نوع من هذه المناطق.

في ما يرتبط بمصطلح "المناطق المجمدة"، يمكن الحديث عن ثلاثة مفاهيم متباينة تتقاطع فيما بينها، دون أن يعبر أحدها عن الآخر. المفهوم الأول عسكري، والثاني مدني، والثالث سياسي.

يدور المفهوم العسكري حول وقف الأعمال الحربية، أو العسكرية عامة. ويشمل ذلك توقف الاشتباكات و/أو/ إخراج الأسلحة الثقيلة، وخروج القوى المسلحة -جزئيا أو كليا- من الأحياء والأماكن المعنية.

هذا المفهوم أشبه بالحاجز الفيزيائي الذي لا يُغيّر شيئا من طبيعة المعطيات السابقة له أو اللاحقة عليه، في حين أن هذه المعطيات (السابقة واللاحقة) قد تتغير في وقت ما استنادا إلى عوامل ذاتية، أو ذات صلة بالمحيط الأوسع.

وبمعنى آخر، إذا افترضنا أن حلب المدينة ستكون "منطقة مجمدة"، فإن هذا التجميد في حال استناده إلى مفهوم عسكري، لن يُغيّر من جوهر المعادلة الأمنية القائمة فيها، حتى بافتراض سحب الأسلحة الثقيلة، وانسحاب قسم من المجموعات المسلحة، فجوهر الأمن لا يتغيّر بمجرد حدوث تحوّل جزئي في موازين القوى، أو في معادلة القوة ذاتها.

من ناحيته، يشير المفهوم المدني للمناطق المجمدة إلى عملية شبيهة بالدفاع السلبي. وهذا المفهوم -أو التجلي- مفيد في بعض نواحيه، لكنه ليس مثاليا.

في جوهره، يشير المفهوم المدني إلى تطبيع الحياة العامة دون المساس بخارطة القوة، والانتشار العسكري لفرقاء الصراع.

وفي ظل هذا المفهوم، يجري وضع الترتيبات اللازمة لضمان الحركة الحرة والآمنة للمدنيين، والتأكد من قدرتهم على مزاولة أنشطتهم الحياتية والاقتصادية، والاطمئنان إلى انسياب السلع والخدمات الأساسية.

هذا المفهوم -رغم جاذبيته وارتباطه بالضمير الوطني- يُمثل في جوهره أو في خواتيمه نوعا من إدارة الأزمة، ولا يُشير بالمدلول الإجرائي إلى ما هو أبعد من ذلك.

    "استنادا إلى أن قاعدة أن السياسة لا تمثل على الدوام امتدادا خطيا للأمن، فإنه -بالنسبة لنظام الأسد- عوضا عن الإمساك عسكريا بحلب، تقرر تسييلها في صورة ربح سياسي مؤكد عنوانُه التجميد"

وفي الأصل، تمثل حياة المدنيين أولوية تتقدم كل الأولويات، بيد أن استقرارهم الفعلي يصعب تحقيقه استنادا إلى منطق إدارة الأزمة. وهذا المنطق قد يفرض نفسه في هذه الحالة بديلا ضمنيا عن الحلول الأكثر شمولا، أو لنقل الأكثر ارتباطا بالسياق الوطني الكلي.

وبالانتقال إلى المفهوم السياسي للمناطق المجمدة، يشير هذا المفهوم إلى عملية مرحلية تنطوي على إعادة تشكيل متدرّج للبيئتين المدنية والأمنية، على نحو دافع باتجاه تحقيق مرتكزات النظام العام الذي يشعر في ظله السكان بالثقة والطمأنينة على نحو محفز لتطبيع حياتهم وعودتهم إلى سالف عيشهم.

إن المفهوم السياسي للمناطق المجمدة في سياقه المعرفي العام يُمثل الاصطلاح الرديف -الأكثر تدرجا ومرحلية- لما بات متحققا في سوريا باسم المصالحات المحلية.

وعند الأخذ به في الحالة السورية، فإن هذا المفهوم سيعني التأكيد على مقاربة سياسية اجتماعية تتجه أفقيا نحو تعميم نماذج المصالحات المحلية، وتنحو رأسيا باتجاه الحل الوطني الشامل.

من جهة أخرى، ثمة إشكالية تفرض نفسها منهجيا على صعيد تحديد المناطق المجمدة، إذ لا تشير المراجع العلمية المتاحة -وهي في الأصل نادرة- إلى أسس موحدة أو ثابتة.

ومن الواضح لنا أن لا أحد لديه معايير محددة بهذا الشأن، فكل منطقة نزاع تُدرس ظروفها العامة أمنيا وإنسانيا، وبالضرورة عسكريا وسياسيا. كما تجري دراسة جملة حيثيات مرتبطة بالمحيط الجغرافي الداخلي والخارجي. وهذه العناصر مجتمعة يُطلق عليها مصطلح البيئة الجيوسياسية للصراع.

وهناك بُعد آخر يرتبط بما يُعرف بالرمزية الوطنية، ويشير إلى دلالات حضارية أو دينية أو سياسية ذات صلة بالمجتمع المحلي أو الشعب عامة.

وماذا عن مدينة حلب في نموذج المنطقة المجمدة؟ في ما يتعلق بحلب، اندمجت خصوصية البيئة الجيوسياسية للنزاع بالرمزية الوطنية للمدينة، ولا سيما لجهة ثقلها الكبير في الاقتصاد الوطني.

في الشق العسكري من البيئة الجيوسياسية، يمكن ملاحظة أن مسارا طويلا من المعارك العنيفة قد دار في مدينة حلب ومحيطها، كما في الطرق والأرياف المؤدية إليها. وقد انتهى هذا المسار أخيرا بوقوف الجيش على أبواب حلب وكشفها عسكريا بالكامل.

وفي الاشتقاق السياسي لهذا التطوّر، ثمة سؤال فرض نفسه على الجميع، وهو: أي ثمن يمكن أن تقبل به الحكومة السورية مقابل اعتبار المدينة "منطقة مجمدة" بعدما أضحت في متناولها عسكريا؟

وكما يعلم الجميع، ففي السياسة ليس هناك شيء من دون ثمن، أما في الأمن فالثمن عادة ما يكون مضاعفا، وهذه معادلة قديمة ثابتة.

ورغم ذلك، فإن السياسة لا تمثل دوما امتدادا خطيا للأمن، والثابت هو أن دخول الجيش إلى حلب -على شاكلة دخوله مناطق أخرى في البلاد- سيمثل حدثا مدويا، وسيتردد صداه في ما هو أبعد من الساحة الوطنية، إلى حيث أروقة العواصم الإقليمية والدولية المعنية.

وهنا، ننتقل إلى بعد آخر في البيئة الجيوسياسية للصراع.. إنه بُعد المحيط، وهذا البعد لا يرتبط بحلب، أو لا ينحصر فيها.

إن الحكومة السورية تدرك دون ريب، أن المجتمع الدولي يراقب جيشها وهو يقف على أبواب حلب ممسكا بزمام المبادرة. كما تدرك أن بعض هذا المجتمع الدولي -كالإقليمي- قد تحرك داعيا إلى وقف التقدم نحو المدينة.

وكما سبقت الإشارة، فإن السياسية لا تمثل على الدوام امتدادا خطيا للأمن. واستنادا إلى هذه القاعدة، فإنه عوضا عن الإمساك عسكريا بحلب، تقرر "تسييلها" في صورة ربح سياسي مؤكد عنوانُه التجميد.

وبهذا المعنى، تكون دمشق قد كسبت معركة حلب المدينة قبل خوضها، أو حتى دون خوضها أصلا. ولكن ماذا عن الواقع الدولي وإسقاطاته على تفاعلات الوضع السوري الراهن؟

يمكن القول إن خصوصية المرحلة أخذت حيزا مهما في حسابات السياسة -واستتباعًا الأمن- في تطورات الموقف، وانتهت الولايات المتحدة إلى القول بعدم استبعاد فرضية العمل مع دمشق لإنجاز هدف مشترك يتمثل في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية.

وقد ورد مضمون هذا الموقف في كلمة لوزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب بالكونغرس الأميركي يوم 13 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، وقال للمرة الأولى إن "الأسد جزء من العملية".

    "يمكن القول إن خصوصية المرحلة أخذت حيزا مهما في حسابات السياسة واستتباعًا الأمن في تطورات الموقف، وانتهت واشنطن إلى القول بعدم استبعاد فرضية العمل مع دمشق لإنجاز هدف مشترك يتمثل في محاربة تنظيم الدولة"

وبالطبع، هذا يترجم نوعا من التحوّل في الموقف الأميركي من الأزمة. وخطاب هيغل هذا تزامن مع دعوة الرئيس الأميركي بارك أوباما إلى إعادة تقييم السياسة الأميركية تجاه سوريا.

وقبل ذلك بأيام، كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قد أعلن أن نظيره الأميركي جون كيري أخبره بأن وجود الرئيس بشار الأسد على رأس السلطة في سوريا لا يمثل مشكلة بالنسبة للولايات المتحدة، وأن الأولوية الراهنة لديها هي مواجهة تنظيم الدولة.
هذا التطور تردد صداه سريعا في تركيا التي أعلنت أنها غير معنية بإرسال جيشها إلى سوريا تحت أي عنوان كان، بما في ذلك مقولة المنطقة العازلة التي جرى اليوم التخلي عنها بشكل نهائي.
 
وبالطبع، هذا موقف صحيح لأن دخول الجيش التركي إلى أي رقعة في سوريا يعني إدخال المنطقة في نفق لا يعلم أحد مداه.

وبالعودة إلى مقولة التحول الأميركي ذاته، فإنها قد تبدو أكثر وضوحا في الأشهر القادمة، وقد تتعزز -على الأرجح- في اللحظة التي تتوصل فيها الولايات المتحدة وإيران إلى اتفاق نهائي بشأن ملف طهران النووي، ذلك أن الإيرانيين ما زالوا يرفضون مناقشة أي قضايا إقليمية مع واشنطن قبل الانتهاء من هذا الأمر، ورفع العقوبات المفروضة على بلادهم.

والولايات المتحدة مهتمة -على وجه الخصوص- بدخول إيران على خط الحرب على تنظيم الدولة. ولهذا الاهتمام أسباب مختلفة، من بينها طبيعة العلاقة التي تربط إيران بكل من سوريا والعراق.

ولأنه لا شيء في السياسة دون مقابل، فقد يكون هذا المقابل مزيدا من التأكيد الأميركي على المقاربة السياسية للأزمة السورية.

المصدر: الجزيرة الكاتب: عبد الجليل زيد المرهون
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ