ارحموا السوريين.. لقد عشنا ألم الحصار والتهجير
ارحموا السوريين.. لقد عشنا ألم الحصار والتهجير
● مقالات رأي ١١ مايو ٢٠١٨

ارحموا السوريين.. لقد عشنا ألم الحصار والتهجير

يمكثُ الوالدان بجوار أبنائهم في رأس السنة الهجريّة أو في ذكرى المولد النبويّ على شاشات التلفزة منتظرين الساعة العاشرة لعرض فيلم "الرسالة" الذي يروي مراحل حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبدء الدعوة إلى دين الله الحنيف والتحديات التي واجهته صلى الله عليه وسلم لنشر رسالة ربه بين قومٍ عبدوا أصنام سمّوها بأنفسهم ووجدوا لها رونقاً يتماشى مع طبيعتهم.

هكذا هي العادة المسُتحبة لدينا يومئذٍ.. لكنَّ ما يلفت النظر في مشاهد الهجرة من مكة إلى المدينة المنورة، أن الصحابة والرسول صلى الله عليه وسلم عانوا أشد المعاناة في تلك الهجرة ولوحِقوا من أقوامهم وهدُّدوا بالقتل وحيّكت لهم الكمائن، الخروج طوعاً من أرضك أهون بكثير من أن تخرج كرهاً وربما دونما عودة وكلمة رسول الحق يوم خرج من مكة واقفاً على أطلالها ليقول: والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض إلي ولولا أهلك أخرجوني منك ما خرجت" هي دليلٌ على هول الطامة. بهذه الكلمات نستنبط تلك الفجوة التي حالت عند الرسول صلى الله عليه وسلم بين حبه لأرضه وبين تضحيته لأجل قضيته أو درأً لمهلكة قومه. وعلى غرار تلك التجربة قد أعيد تفعليها من جديد، بعد ألفٍ وأربعمائة عامٍ أو يزيد. سأقصّ عليك يا صديقي تلك الأحجية المبهمة لديك.

بعد أن خرج الشعب السوري بثورة منذ سبع سنوات حالمين بالعدل والمساوة وبفك قيّد الحريات المكبوتة، قابلهم نظام الحكم كثورٍ هائج ضُرب بأسهم مخدّرة داخل حلبةً ملُئت بالجماهير والأصوات الصاخبة، فقابلوه بما تحتويّ أيديهم وجابهوه، وكُسر جدار الخوف والجزع، فزاد الثور من همجيته وجنونه، وزاد الشعب اصراراً وتجلداً ليصنعوا حياةً مشرقةً لمن بعدهم، فخرجت الدبابات من ثكناتها والتي -تجهّزت لمقاتلة العدو الاسرائيلي المحتل- وأقلعت الطائرات من مرابضها وتجهز الجيش السوري لقتل الشعب السوري.

أي مهزلةٍ تلك، جيشك الحامي لوطنك وعِرضك هو من يقتلك ببنادقٍ تم شراءها من جيوب شعبه وتبرعاته. بدأ الجيش بالانهيار رويداً رويداً وبدأ الثوار بقلب موازين القوى، لا بد الآن الاستعانة بصديقٍ مثل إيران وحزب الله وروسيا للحفاظ على عرشٍ عِظامه هشة تذروه الرياح. حسناً عليك أن تٌحاصر تلك المدن وتتبع سياسة التجويع والخنوع وزرع المثبطين وتجار الدماء والحروب وانتهج ذلك المنهج الذي تتدارسونه مليّاً لوقف تدفق الثوار من كل حدبٍ وصوب، لقطع ذلك السيلان المُغرق.

أغُلقت المدن، ورفُعت السواتر الرمليّة، ومُنع الدخول والخروج ورفعت تلك اللافتة القذرة "الجوع أو الركوع" قالوا لنا منذ زمنٍ بعيد أنّ الموت جوعاً هي خزعبلاتٌ وخرافات، ليتهم كانوا معنا قليلاً ليروا أن الموت جوعاً حقيقة لا خيال. وما كان من الشعب المحاصر إلا الصمود والصبر والتحملّ لعلّ فرج الله قريب وأن المِحن تتلوها المنح. ربما هي من أصعب الأوقات وألذها أجراً أن تكون معدتك خاويةٌ يؤنسها بعض الأصوات التي تشير إلى الجوع وفي جعبتك القليل من الزاد وترى من هو أحق منك بالطعام فتزوده به، وفي المقابل أيضاً ربما هي من أصعب اللحظات وأشدها حنقاً أن يكون جسمك هزيلاً وجهك شاحباً مصفّراً يتخلله بعض الحمرة من بعض الابتكارات التي وجدت في زمن الحاجة، وجارك في الحيّ لديه قريب تاجر دماء أو قائد فصيل يتلذذ بأشهى الأطعمة في زمنٍ تآلف الناس على وجبة غداءٍ واحدة كلّ يوم.

سامحني يا صديقيّ على الاطالة فتلك الأقاصيص لا يمكن نسيانها أبداً، قد ترسختْ بفعل الحصار الذي لم نسمع عنه إلاّ في حصة التاريخ _ وحتّى تلك التي سمعناها لم تكن مثل قصصنا - عزفَ النظام في فترات الحصار المديدة على وتر الحرب النفسيّة أكثر من العسكرية واللوجستية.. خذ عندك مثلاً أكثر حالات الوفاة لدى الشباب في الفترة الأخيرة من الحصار نتيجة "تجلط الدماء" أو "تقلص عضلة القلب" أو.. وأقولها أسفاً أن من داخل الحصار من ساعد بذلك مثله بمثل من يحاصر المدن والأحياء. عند طيّ الصفحة الأخيرة وبعد التهديدات من "المفاوض" الروسي إبان الحملة النهائية في كلّ حصار، تتجهز الملاجئ المتأكلة ويجمُع الطعام من المنازل ويحمل كلّ شخصٍ دثاره وعباءته وتبدأ السمفونيات تارةً روسية وتارة سورية، تمُطر السماء باروداً أسوداً رائحته تفوح في كل زاوية وفي كل زقاق، تبدأ الابتهالات والأدعية لله عز وجلّ في باطن الأرض ممن يمكث في الملاجئ، ينطلق الدفاع المدني بين أزيز الرصاص ويتوغل تحت الأنقاض بحثاً عن حياةٍ ينقذونها، عن طفلٍ لم يتخيّل أن الحياة عقيمة بهذا الشكل.

تزداد عدوانية القصف أكثر فأكثر وبشتى الأسلحة، الى أن يتصل كبير مفاوضي المدينة المحاصرة ليقول: ماهي شروطكم ليتوقف القصف؟ يتكّور كلّ منا في زاوية ثم ماذا الآن؟ كن مستعداً دائما فالتهجير قادم لا محالة. يا الله كم كانت حرارتها عالية وشديدة تلك الجملة ربما لدرجة الهذيان! يطُلب منك أن تلملم جراحك سريعاً وتجمع حاجياتك الأولية وتودّع منزلك -إن كان حيّاً بعد- كيف ذلك؟ أيعقل إن كتب التاريخ والأساطير لم تذكر حلاً لذلك اللغز؟ ألم يسرد شهريار مثل هذه القصة على شهرزاد؟ هل نحن التجربة الأولى؟ في صباح كل يوم بينما تخرج الدفعات يتبادر إلى أذهان بعضنا أن الخروج مُحال وأشبه بأحلام اليقظة، فيأتي باصٌ أخضر أقرب ما يكون للعفن بمساعدة ضفادع بشريّة زُرعت لجعل الأمل مجرد أوهامٍ شريدةٍ تائهة.

تتألم وتتأمل كل شيء، كل ذرة تراب، كل نبتة زرُعت في الحصار، تودّع كل هذا بعيونك لتأخذ مشهداً كأنها كاميرا سينمائية سيُعرض في هوليوود وتثّبتها في ذاكرة عقلك. تجاهد لتقلّص حاجياتك قدر المستطاع لأجل حقيبةٍ واحدة ستخرج بها، صورك القديمة، أوراقك الثبوتية والهامة وربما بعض الرسائل والذكريات من أحدهم، بعض الأمتعة. تأتي الليلة الأخيرة، لتصحب معها دموعٍ مُكتنفة منذ صغرك محاولاً نسيانها، تسعى للنوم! أيّ نومٍ يا هذا؟ تتقلب ذات اليمين وذات الشمال ووسادتك تزداد بللاً وتثقل وزناً.

يبزغ فجر اليوم الموعود وتشرق شمسٌ ستتغير اتجاه أشعتها عليك، تحمل الحقيبة وتبدأ المسير حيث الحافلات مركونة، جمعٌ غفير يودّع ويستودع هذا يبكي لفراق ذاك، وهذا يأخذ صورةً تذكاريةٍ مع ذاك، والجميع يتوجس خيفةً وشوقاً، ضوضاءٌ وفوضى. يناُدى عليك لتركب الحافلة الخضراء، فقد جاء اسمك ودورك، تحمل الحقيبة وكأن جبالاً جثمت على صدرك، بالكاد تسطيع المشي إن لم يكن حبواً.

تجلس بالقرب من النافذة لترى عيون الجمع عليك "في أمان الله" كثيراً ما ترددت يومئذٍ، تبدأ الحافلة بالحركة وقلبك يعتصر دمعاً أحمراً كأنه ضُم بيدٍ فولاذيّة وشُدَّ وثاقها. تودّ لو تتعطل الحافلة قليلاً لتُشبع عينكَ برهةً من الزمن، لكن عبثاً تتوهم. وتخرج خارج أسوار الحصار لترى مشاهد ومناظر من بلدك غُيّبت عنك إبان الحصار، تصل إلى مداخل الشمال المحرر، تدير رأسك هنا وهناك، وتبقى مذهولاً حيناّ من الوقت، لتكتشف فيما بعد البيئة المختلفة، العمل المفقود، البيوت المخُّبئة، الدراسة المتناثرة.

ويبدأ الضجر والخمول! فمنّا من التصق بجدار الحدود مع تركيا محاولاً العبور بحثاً عن عمل، ومنّا من دخل مباشرة من المعبر الأساسي مع تركيا بعد جمع ثروةً وفيرة من دماء شعبه، وهناك من يحاول سد الرمق من خلال عملٍ عسكريّ أو اغاثيّ أو مهنيّ، وأيضاً وُجدت فئة آبتْ الخروج من أجل قضيةً حوصر لأجلها، مؤمنٌ بأهدافها، محاربٌ في سبيل تحقيقها. وها نحن الآن جُمعنا في الشمال، منّا من قضى أعوام، ومنّا عام، ومنّا أشهر، ومنّا أيام وهلمَّ جرا.

ارحموا ذاك المُهّجر عندما يهرول على جهازه الخلوي عند بث صورٍ جديدة عن مدينته، ارحموه فمعاناته لن تُسطّر بأحرف وكلمات مهما كان. عندما يلتقي بمن شاركه حصاره والتحدث عن الذكريات الخوالي، عندما يُعرف بلهجته بين أقرانه. عن من ترك كل شيء، واجتُثت جذوره من أرضه.. ذاك الشريد الذي جنّ ليله داخل خيمة واستصعب النوم فيها، بعد سريرٍ دافئ في منزلٍ أخذ انشائهُ من عافيته.. ارحموا عزيز قومٍ هُجّر.. فمصابهُ ليس بقليل.

المصدر: مدونات الجزيرة الكاتب: أحمد أبو النور
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ