إعادة جدولة النظام
إعادة جدولة النظام
● مقالات رأي ٢٤ مارس ٢٠١٥

إعادة جدولة النظام

هل سنشهد يوماً يضع فيه قاسم سليماني، أو أحد رجالاته المخلصين، المسدس على صدغ رأس النظام في سوريا ويطلق النار؟ ربما يكون هذا قد حدث بالمعنى المجازي، وما يعيق احتمال حدوثه نظرياً الفكرةُ التي يوحي بها النظام الإيراني عن وفائه لحلفائه. لكن ما يجعل الفكرة هذه واردة هو السلوك النموذجي للقوى الاستعمارية التي تستبدل وكلاءها المحليين عند الضرورة، وتعمد إلى تصفية من تنتهي صلاحيته لتدفن معه مرحلة وإرثاً وأسراراً.

واقعياً، منذ أشهر والبعض يقول منذ سنوات، بدأ الإيراني بإطلاق النار على قيادات في النظام. فهناك روايات تشير إلى أن ما عُرف بتفجير خلية الأزمة في تاريخ 18/7/2012، وأودى حينها بالعديد من قيادات الصف الأمني الأول، كان من تدبير الحرس الثوري الإيراني. ثمة روايات أيضاً لا تستبعد أن تكون الأصابع الإيرانية غير بعيدة عن مقتل هلال الأسد ابن عم رأس النظام قبل سنة من الآن، وعن إقالة حافظ مخلوف ابن خال الأخير من منصبه الأمني، وصولاً إلى إقالة اللواء رفيق شحادة (رئيس جهاز المخابرات العسكرية في سوريا) على خلفية اعتداء رجالاته بالضرب المبرح على اللواء رستم غزالة (نظيره في رئاسة فرع الأمن السياسي). في التطور الأخير، على الأقل، هناك تأكيدات على أن معاقبة اللواء شحادة أتت على خلفية اعتدائه على الإبن المدلل لإيران وحزب الله اللواء غزالة، على رغم أن ضربه حتى مشارف الموت لا يُتوقع حدوثه إلا بإيعازات من القصر.

وأن تُعزى التغييرات والإقالات إلى أوامر إيرانية فذلك ناجم عن فهم طبيعة النظام نفسه، النظام الذي لم يُقِلْ رستم غزالة وجامع جامع وغيرهما عندما تسببا في تشويه صورته في لبنان، بل تمسك بهما مؤكداً أن تلك هي صورته الحقيقية. النظام الذي يقوم على "فلسفة" أرساها الأسد الأب، تنص على إغراق المسؤولين في المفاسد والجرائم، وكلما أوغلوا فيها صاروا أشد إخلاصاً له. الخط الأحمر الوحيد هو تطاول أحد المسؤولين على الدائرة العائلية الضيقة، أو تطلّعه إلى مشاركة أكبر من حصته في كعكة المنافع. مع ذلك، سمح الأسد الأب لقادته الأمنيين بتجاوز الخط الأحمر قليلاً أثناء مواجهته الإخوان المسلمين في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ولم يعمد إلى إقصائهم إلا بعد انتفاء الحاجة إليهم بسنوات، أو بالأحرى إيذاناً بوضع مشروع التوريث قيد التنفيذ. بالمقارنة، الأسد الابن ليس الآن في وضع يمكّنه من إجراء تغييرات في الأجهزة الاستخباراتية، بخاصة لأن تغيير الرؤوس الكبيرة فيها قد يؤثر سلباً على أدائها غير الممأسس أصلاً، وربما يمنح إشارات سلبية للرجالات الجدد تخفض من منسوب وحشيتهم.

باستعارة المفردات الاقتصادية، كل الدلائل تشير في الأشهر الأخيرة إلى عملية إعادة جدولة للنظام يشرف عليها الإيراني مباشرة. للتذكير، طالما كانت إعادة جدولة الديون العامة مقرونة بإجراءات اقتصادية "مؤلمة"، وفي أغلب الحالات كان صندوق النقد الدولي يشترط إشرافه المباشر على عملية إعادة الجدولة، فيما كان اليسار يراه مساساً بالسيادة الوطنية. لقد قدّمت إيران للنظام حجماً كبيراً من الأموال ومن الميليشيات الشيعية اللبنانية والعراقية والأفغانية وأخيراً الطاجيكية، وقد حان فعلاً وقت تدخلها لتضمن استعادة ديونها، ولتشرف مباشرة على اقتصاد الحرب التي لم يحسن النظام إدارتها، بل الحرب التي أهدر فيها النظام الكثير من الأموال والرجال بسبب فساده.

للتذكير أيضاً، كان قادةٌ من حزب الله هم أول من أعلن التذمر من فساد النظام في إدارة المعارك وحمّلوه مسؤولية الفشل فيها، وهم من بين الحلفاء أوّل من أكّد عفّة عناصره عن السرقات التي تعمد إليها قوات النظام. ذلك التذمر في الدرجة الأولى كان موجهاً إلى القيادة الإيرانية المشتركة التي التقطت الرسالة، ومن حينها تسارعت عملية إنشاء "حزب الله" السوري ليكون بديلاً عقائدياً عن جيش النظام الذي ثبت خلوه تماماً من أي بعد عقائدي سبق الترويج له. في إعادة الجدولة الإيرانية الحالية تبدلت التراتبيات السابقة، مع احتفاظ القوات النظامية بموقعها المتدني السابق. أما ميليشيا الدفاع الوطني (الشبيحة) فقد تدنت مرتبتها لتقترب من القوات النظامية، وليُزجّ بها في مواقع متقدمة من الجبهات وتدفع ثمناً أعلى من هجمات المعارضة، بعد أن كانت تأتي متأخرة لتنال نصيب الأسد من سرقة الأحياء التي تقتحمها القوات النظامية.

رغم كل مساوئه وقيامه على مافيا اقتصادية، لا تحتمل تركيبة الحرس الثوري فساداً بحجم فساد النظام السوري، وأهم ما تفتقده المعركة الإيرانية في سوريا هو البعد العقائدي الذي عوّضته منذ بدء الثورة بالبعد الطائفي. ففي سوريا لا يتواجد الشيعة بحجم يمكن التعويل عليه، ولا يُنتظر من الأقليات عموماً تحالف عضوي طويل الأمد. وإذا أضفنا فساد النظام المستشري إلى حد يصعب احتماله تتطلب الورطة الإيرانية إشرافاً مباشراً لا يشبه الوضع في لبنان أو اليمن، ولا يمكن التساهل معه بسبب فائض الثروة الهائل على شاكلة العراق. لذا بدأت إعادة الهيكلة بحيث تكون القيادة من اختصاص فيلق القدس، تحتها مباشرة ميليشيات أجنبية شيعية عقائدية مخلصة، ثم حزب الله السوري مع من يثبت ولاءه الإيراني التام من أجهزة المخابرات، وأخيراً أولئك الشبيحة وتلك القوات التي باتت تُستخدم أحياناً بمثابة كاسحة ألغام لا أكثر أمام "قوات النخبة" العقائدية.

في إعادة جدولة النظام، بدأ الإيراني العمل من المستويات الدنيا والمتوسطة، في الوقت الذي يصرّ فيه أمام العالم على منع التغيير في رأس الهرم. غير أن ذلك الإصرار تنبغي قراءته كرسالة سياسية موجهة إلى الخارج ليس إلا، أما في داخل "الحلم الإمبراطوري" فلا أحد يعلم متى يشهر قادة الحرس الثوري مسدساتهم وإلى  أي رأس يوجّهونها.

المصدر: المدن الكاتب: عمر قدور
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ