أمهات تحت القصف!
أمهات تحت القصف!
● مقالات رأي ١ مارس ٢٠١٨

أمهات تحت القصف!

لا تعرف بناتي معنى الموت، تسألني طفلتي الكبرى حينما قلت لها إن العنكبوت الذي قبضت عليه تحت المنديل "مات": "شو يعني مات؟ وأين سيذهب؟" فلا أجيب وأطرق رأسي هربا من إجابة معقدة حتى على عقلي. وأمهات سوريا؟ كيف يشرحن الموت لأبنائهن؟ أم أن القصف يروي لهم بالصوت والصورة التفاصيل التي لا يردن لهم أن يعرفوها؟ أم أن الموت بنفسه يأخذهم ليشرح لهم ما معناه وكيف يكون؟ وكيف يحكين للعالم الماجن بصمته وتفرجه عليهن ماذا تعني لهن الحياة؟ الحياة التي لا يعرفن عنها سوى توقع الموت في أي لحظة؟

بائسة هي حياتنا نحن الأمهات المترفات ونحن نُقصي أطفالنا بعيدا عن كل ما هو مؤلم حتى بالمشاعر، جرحتْ طفلتي رأسها في الحديقة وهي تلعب فهرعتُ كالمجنونة أستعلم ما جرى وصرخت عندما شاهدت بعض الدم بين شعرها؟ كيف تشعر أمهات سوريا وهن يرين الدم يَسحُّ من كل جزء من أجزاء أبنائهن وبناتهن... وبعضهم قد مات بدمائه بالفعل؟

صعب أن نظل نفكر بمشاعرهن ومهما حاولنا فلن نفهمها، ولن نعرف ولو وصفت تلك الأم السورية التي تنقل يومياتها تحت القصف عن أحاسيسها وهي تريد أن تضم طفليها إلى جسدها "ما عم أقدر أستوعب إني مابقدر غطي بايدي قصي ومايا.. وإنو لسا في أجزاء مكشوفة منهم ومو محميين ومخبايين جواتي...".

وأنا التي أمنع أي صورة عنيفة وأي صورة من الحروب عن بناتي لأنهن لا يدركن بعد ماذا يحصل في العالم من دمار وقهر وحروب ولا يتخيلن شكل الموت الذي يعيشه أطفال مثلهن يوميا، وأسأل نفسي ترى متى علي أن أبدأ بشرح الحياة على حقيقتها لهن؟ ومن أين أبدأ؟ من الغوطة مثلا؟

قضيت أكثر من ساعة وأنا أتابع ما كتبت تلك الأم على حسابها على الفيس بوك وكيف تناقل الناس كلماتها وحاولتُ أن أشعر بما تشعر به وأتخيل شكل الحياة التي تحياها تحت القصف وهي تستميت لحماية طفليها بأي وسيلة ممكنة، وقد تركت بيتها الجميل وحياتها الطبيعية لتسكن القبو المظلم مع عشرات من الناس الذين هم في الغالبية من النساء والأطفال.

مريرة هي الأمومة في ظل الحرب، وصعب تخيل الحياة في سوريا وفي الغوطة وهي تحت القصف، وجُل الذي يمكن للأم أن تفعله هناك أن تدعو الله في كل لحظة وكل ساعة وتجمع قواها لحماية أبنائها وعائلتها، ثم يشتد القصف فجأة فتفقدهم أو يفقدوها في ثوان معدودة... وترى الأطفال يصرخون بجهل وضياع والرماد يغطي كل الأشياء من حولهم: ماما... ماما... فلا صدى ولا رد.

الذين يتابعون القصف ويقلبون الأكف على الأبرياء المدنيين الذين يقتلون... يكتبون على الفيس بوك وتويتر وينتظرون كل صورة تصل كي يبكون... يبكون ضعفهم وهوانهم وقلة حيلتهم، ثم يلومون بعضهم على التقصير بالكتابة والتعبير عما يحصل ولو بـ"بوست" صغير على أحد مواقع التواصل... كأضعف الإيمان.

أنا لم أكتب على صفحتي منذ بداية القصف وانتشار الصور من هناك أي كلمة... أصيب قلبي بالخرس من جديد... فهل يمكنه الكلام وهو يطالع المجزرة الهائلة التي لا تصدق... والعالم كله صامت أمامها؟ هل نكتب عن مشاعرنا المشلولة والمنهكة كل مرة؟ عن دعواتنا لهم بأن يصمدوا ونحن منهارون... عن ضعفنا وقهرنا وهم يقصفون... أم نكتفي بالبكاء مع أنفسنا على الغوطة، وعلى حلب وعلى سوريا؟ هل نساهم في التبرعات ونشفي بعض الغل الذي يقهرنا ونرتاح بعدها؟ وهل يكفي هذا؟

تخرسنا الأمومة التي نشهدها في الغوطة، تُخجل مشاعرنا التي تبدو كاذبة أمام مشاعرهن... ويخجل قلبي وأنا أحس بأنني لا أصلح أن أكون أما أمام أمومتهن، فلا المشاعر التي تعتريهن تعتريني ولا الخوف الذي يُقذف في قلوبهن يشبه ما في قلبي.

أمهات صامدات بدون طعام وماء... بماذا يبررن عجزهن عن طبخ الغداء لأبنائهن وبناتهن؟ كيف تتعامل أمهات الحروب مع الخوف والصدمات النفسية التي تسري في قلوبهن وقلوب أطفالهن الصغيرة، وكثيرون منهم قد ولدوا في الحرب ولم يعرفوا غيرها منذ سبع سنوات؟ أي قصص يحكينها لهم قبل النوم وكيف يتخيل هؤلاء الأطفال أبطال الحكايات من غير حرب ومن غير قصف؟ وهل ينامون أصلا كي يحلموا بغير ذلك الكابوس الذي يعيشونه؟

المصدر: مدونات الجزيرة الكاتب: مي ملكاوي
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ