أصبحت صورة
أصبحت صورة
● مقالات رأي ٢ أكتوبر ٢٠١٩

أصبحت صورة

منذُ عشر سنوات كانت حياتي كحياة أي شخصٍ يتنفس في هذا العالم القذر، أستيقظ صباحاً متوجهاً لمنزل صديقي فننطلق للمدرسة، في بعض الأحيان نقرر الهرب من أجواء المدرسة لنطلق العنان لطيشنا فكانت المراهقة وأجواؤها هي الطاغية على حياتي.

أنا من عائلة سورية محافظة على عادات وتقاليد أجدادنا، لي أخُ واحد وثلاث أخوات وأتوسط الجميع عمراً مع شقية الروح توأمي، أمي ربةُ منزل متكاملة وما يميزها عن صديقاتها مهارتها في حياكة الصوف لأنها قادرة على صنع أيّ شيء من الصوف، حتى لو كان غطاءً لمنزلٍ كامل، أبي الجبل المتعالي على وقع الذات، الجندي المجهول في عالمي، فقد قضى حياته على الطرقات لييسّر لنا نعيماً، ضنت به الحياة عن كثيرين من أقراننا، كنا قليلاً ما نراه، وهذا القليل كانت تنافسنا عليه نشرات الأخبار.

انطلقت شرارة الثورة في سوريا على يد أطفال درعا فاعتصامات حمص، وقد حزت شرف المشاركة بكثيرٍ منها فقد كان لأبي دوراً كبيراً بمنعي من المشاركة بالكل، لأنه يدرك إجرام هذا النظام وقدرته على الظلم والبطش، كيف لا وهو ممن عاصروا جميع الانتقالات والتطورات في بلادي منذُ حرب تشرين وصولاً للحظة صراخنا بالحرية.

تعمقت مشاركتي في الانتفاضة الشعبية التي تدرّجت من الإصلاح وعزل محافظ المدينة لتبلغ عتبة إسقاط النظام برمّته لمّا أبى واستكبر، لن أنسى ذاك النقاش الحار الذي دار بيني وين والدي حين أُعلِن أنَّ نظامَ الطاغية بشار الأسد قد فقد شرعيته، حيثُ كانت وجهة نظري بأنّ النظام لن يصمد لأكثر من ثلاثة أشهر بينما أخبرت التجارب والدي غير ذلك فأنهى النقاش بنبرة حزينة قائلاً (لسه ما شفتو شي خلي أحداث الثمانين عبرة إلكون) مزامناً كلامه مع هزّ رأسه للأعلى والأسفل اتباعاً.
وكان ذلك...

تسارعت الأحداث بعدها بشكلٍ جنوني تم حصارنا في ستة عشر حي من أحياء حمص بعد تمهيد مدفعي على هذه الأحياء ففرغت من ساكنيها وكانت أسرتي من ضمن المغادرين ولم يبقى الا بضعة آلافٍ من الشبان فكنتُ وأبي من ضمنهم.

أمضيت عامي الأول في الحصار اتنقل بين المشافي الميدانية لأنّ القذائف كانت قد نالت من جسدي بشكل فظيع لدرجة أنهم لم يجدوا حلاً لإصابة يدي إلا بترها بسبب نقص المعدات الطبية التي تساعدهم على القيام بعملٍ جراحي رفضت الأمر بشكل قاطع، ليخبرني الطبيب أنني أمام حلان لا ثالث لهما إما الشلل النصفي أو الخروج من الحصار لإجراء عملٍ جراحي، والخروج غدا أمراً مستحيلاً فحصارنا أطبق بشكلٍ كامل، لأنّ قوات النظام استطاعت كشف طريق الإمداد الوحيد الذي كنّا قد استطعنا فتحه عبر الصرف الصحي الخاص بالمدينة.

استطعت الخروج من الحصار بعد خلوة بيني وبين الله عن طريق درب إمداد آخر أرشدني إليه أحد الاصدقاء المطلعين على حالتي وكان قد مضى أربع عشر شهراً فقدت خلالها الاحساس بيدي بالإضافة لشظايا قذيفة أخرى مستقرة في قدمي.

ثلاثٌ وعشرون ساعة قضيتها في شبكة الصرف الصحي لأصل أخيراً حي "الوعر" ولتلك الساعات قصةٌ طويلة سأرويها لاحقاً.

استمرت رحلة العلاج ثمانية أشهر استطعت بعدها العودة لممارسة نشاطاتي الميدانية، وفي ذات الفترة سافرت أختي الكبيرة مع زوجها خارج سوريا وتشردت بقية أسرتي بين المحافظات، شقيقي اختفى، والدي لا زال في الحصار، أنا في حي الوعر، أربعة مصائر لأسرةٍ واحدة كانت تعيش بكل حميمية شرقية، وبات من شبه المستحيل أن نجتمع مرة اخرى سوياً، بقي هذا جرح في داخلي لم أظهره يوماً فيجب أن أبقى قوياً وألّا يظهر مني الضعف أمام أصدقائي الجدد فهناك تسعة من الشبان حالهم كحالي لا أريد تأجيج مشاعرهم.

أمضيت أربعة أعوام ونصف في حي الوعر ونالت مني قذائف الحرب عدة مراتٍ لكنها كانت لاشيء مقارنة بذلك الألم الذي يقطنني بسبب البعد عن أحبائي، تجزأت عائلتي من جديد فشقيقتي التوأم تزوجت، وغادرت البلاد وخرج أبي من الحصار برعاية من الأمم المتحدة التي أخرجت بدورها العائلات والأطفال، استقرت عائلتي بمنطقة تبعد عني ثلاثة آلاف متر.

لا أستطيع وصف شعور والدتي وهي تسمع الطائرة وهي تقوم بفتح جدار الصوت فوق الحي المحاصر وقصفنا، لا أستطيع وصف شعور أبي وهو يشاهد الدخان المتصاعد من حيّنا المحاصر، ولا أستطيع وصف مشاعر إخوتي وهم يرون الأخبار الصادرة من شبكاتنا الإخبارية، لكن أستطيع وصف مشاعري فأنا أصعد كلّ يوم جمعة لأعلى مبنى في الحي لأشاهد المسجد الذي سوف يصلي فيه والدي، والذي اعتاد قديماً أن يأخذني معه كلّ يوم جمعة (مسجد خالد بن الوليد) لأداء الصلاة هناك فوق البناء العالي، كان شعوري كشعور طائر كسير الجناحان اعتاد أن يجوب السماء مرحاً، كسمكة أخرجت من بحيرة ووضعت في حوض عرض زجاجي، كنت عاجزاً عن فعل أي شيء إلا توجيه عدسة الكاميرا الخاصة بي باتجاه المسجد مقرّباً ومقارباً على أمل أن أرى ملامح أبي أو حركته لكي اطمئن جزئياً عن صحته لكن خانتني خبرتي في هذا المشهد عجزت عن التقاط وجه أبي بعد أن نجحت بالتقاط جميع صواريخ ورصاص النظام المنهمر علينا.

أن تعيش وحيداً بقرارك انت محاولاً بناء مستقبلك هو إنجازٌ يحسب لك لكن أن تجبر على الوحدة في قفص يمنع عنك فيه حتى الهواء فتلك جريمة حرب لم ولن تسجل على قوائم الجرائم .

أكملت ثمان سنوات وأنا بعيدٌ عنهم لم أعتد غيابهم قط لا زلت ذاك الشاب المراهق الذي يملأ المنزل ضحكاً وطرباً اعتدت النوم وحيداً الجلوس وحيداً البكاء والفرح وحيداً، اعتدت الحياة بصمت، تزوجت فملأت زوجتي جزءاً من الفراغ الموجود داخلي، وجدتها وأنا في قمة انكساراتي لتغدو راحتي بعد أن كانت أمي هي ملاذي، أصبح لي أخٌ جديد لم تلده أمي هو جبلٌ أسند ظهري عليه في سنوات غربتي.

عزائي الوحيد أنني اشاركهم الهواء والماء ذاتهم اشاركهم كذلك صوت الأذان وانهمار المطر الكثير من الأشياء البسيطة، كنت أكتفي بهذه التفاصيل راضياً بما قسمه الله لنا على أمل أن أستيقظ ذات يوم على خبر كسر الحصار.

الحصار الذي علمني الكثير من الدروس وكان آخرها بأن الاحلام والأماني لا تتحقق وأنني يجب أن لا أحلم أحلاماً وردية، ففقدان ونسيان شخص نحبه ليس بالأمر البسيط، لكن مع مرور الوقت سنعتاد فراقه في حياتنا لكنه سيظل باقٍ في قلوبنا، لم أستيقظ على كسر الحصار بل على واقع تهجيرٍ قسري وتغيير ديمغرافي لتغدو المسافة فيما بيننا اكثر فأكثر.

أصبحت خالاً من خلف الشاشات، كبُرت عائلتي وازدادت أربع اطفال لأخواتي لا اعرف سوى اسمائهم وتلك الصورة التي أراها في مكالماتي معهم.

كنت أنتشي حين مشاهدة صور أطفالهن، وأطمئن لمّا أرى حروفهم التي لا تزال مرحة رغم الألم الظاهر فيها كانت تلك المجموعة عبر تطبيق الواتس آب تخفف من حدة الشوق الذي يقتلني ببطء، واليوم أحسست بالنقص التام بعد أن توقف المرح والعبث وإرسال الصور فقد اجتمع شملنا من جديد بعد طول فراق!!!!!!

أجل فأنا رغم تلك المعاناة لم أغادر منزلي قط فقد ((أصبحتُ اليوم صورة))

أصبحتُ صورة في زاوية غرفة الجلوس يطالعني أبي مع كلِّ نشرة أخبار يشاهدها، تطالِعُني أُمي وهي تغزل ذاك الشال الصوفي لزوجتي، يطالعني أخي وهو يمضي وقته عابثاً على حاسوبه، تطالعني أختي الكبيرة وهي تُدّرِسُ أبنائها، تطالعني أختي التوأم بصمت، تطالعني أختي الصغرى مطالعة المستكشف المتثبت كي أرسخ صورة في ذاكرتها لأنني تركتها صغيرةٌ جداً.

أصبحت صورة

أعلم أنني لستُ الوحيد كذلك لأن هناك آلاف الشبانِ مثلي وأنا الأفضل حالاً فعزاء أهلي الوحيد أنني لازلتُ على قيدِ الحياة.

فلكُم أن تتخيلوا ذاكَ الشعور

الكاتب: رضوان الهندي
مشاركة: 

اقرأ أيضاً:

ـــــــ ــ